العراق بعد عقدين من التغيير: إشكالية هوية الدولة والنظام

إن الحديث عن العراق ما بعد عام 2003، قد يضع الكاتب في إشكالية مزدوجة ليس بسبب المقارنة بين حُقبتين تاريخيتين من تاريخ العراق الحديث والمعاصر، أو بين نظامين سياسيين، أحدهما دكتاتوري استبدادي شمولي، والآخر ديمقراطي ما زال يفتقد إلى اغلب الادوات الديمقراطية الحديثة، وإنما بسبب طبيعة تعاطي الإنسان العراقي والعربي بشكل عام مع هاتين الحقبتين، وطبيعة استيعابه وفهمه وإدراكه لطبيعة النظامين، أو بسبب السلوك الطائفي الذي تنامى في العراق والمنطقة بشكل عام، والفهم القاصر للديمقراطية وما يرتبط بها من ادوات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرها من القطاعات الآخرى. فما يزال حتى الآن، هناك من يؤمن بأن النظام السياسي السابق، أفضل من النظام السياسي الحالي، وأن دكتاتورية الحزب الواحد والنظام الشمولي، احسن من دكتاتورية التعددية الحزبية، ولاسيما على المستوى الاقتصادي والأمني في مكافحة الفساد وتقويض النزاعات الطائفية والقبلية وحفظ هيبة المؤسسة العسكرية، بموازاة ذلك، هناك من يعتقد ويؤمن، بان الديمقراطية "بالرغم من العيوب التي تكتنفها" إلا أنها لا يمكن مقارنتها بالنظام الدكتاتوري بأي صورة من الصور؛ وذلك بسبب قدرتها على تطوير ذاتها وتحديث المجتمع والاحزاب السياسية على القبول بأدواتها بشكل تدريجي على العكس من النظام الدكتاتوري. وبعيداً عن طبيعة المقارنة "غير الموضوعية" التي يتغنى بها بعض المتعصبين بنظام دكتاتوري استبدادي، أو أولئك الطامحين بسلطة أنفاذ القانون، نسعى في هذا المقال إلى تقييم وقراءة التجربة الديمقراطية العراقية بعد عشرون عاماً من التغيير وطبيعة انعكاسها على هوية الدولة والنظام السياسي. 

فاذا ما قيمنا التجربة الديمقراطية بجوانبها السلبية على مدار عقدين من الزمن، فأننا ببساطة يمكننا القول: بأنها استنزفت موارد العراق، وأغرقته في سلسلة أزمات (سياسية، اقتصادية، أمنية، مجتمعية) وأدت إلى نقص في موارد الطاقة والمياه، وإلى فساد غير مسبوق في أجهزة الدولة كافة. وأسفرت التوترات الطائفية، ولاسيما في العقد الاول من عمر التجربة الديمقراطية إلى زيادة الانقسام السياسي والعنف المجتمعي، الذي كلف الدولة والمجتمع خسائر بشرية هائلة وتحديات مجتمعية خطيرة، وأصبحت الهجمات الإرهابية أمراً شائعاً. فضلاً عن التصدع الكبير الذي اصاب الديمقراطية والفجوة بين المجتمع والنظام السياسي والدولة، فقد وّلد انهيارها في العراق فراغاً في السلطة، سمح للجماعات المتطرفة والمسلحة بالظهور والسيطرة الميدانية بشكلٍ خطير. وبعد مرور عشرين عاماً على إسقاط نظام صدام حسين الدكتاتوري، الذي حكم العراق على مدى ثلاثة عقود من الزمن، ما تزال طبقات واسعة من المجتمع العراقي تشكو من أن وضعهم لم يتحسن كثيراً، على الرغم من الشعارات التي رفعت في عهد النظام الديمقراطي، بموازاة ذلك، هناك من يرى بأن البلاد اليوم أفضل بكثير مما كانت في عهد النظام الشمولي. وهذا ربما يكون شيء طبيعي من الناحية الاقتصادية بالنسبة للمواطنين، فليس هناك نظام سياسي على مستوى العالم يحقق رضى الجميع، ولاسيما من الناحية الاقتصادية، فالتفاوت في توزيع الثروة سُنة طبيعية من سُنن الحياة، وأن تطور وسائل الانتاج زادت من هذا التفاوت، لكن الأمر مختلف من الناحية السياسية والأمنية والاجتماعية، وغيرها من القطاعات الآخرى التي ترتبط بطبيعة أداء النظام السياسي وفلسفته السياسية والاقتصادية وطريقة انعكاسها على حياة المواطنين. 

فالعراق بعد عقدين من التغيير ما يزال من بين الدول الأكثر فساداً على مستوى العالم، ويعتمد بنسبة كبيرة على الاقتصاد الريعي "النفطي" ويواجه الكثير من التحديات على المستوى الأمني والسياسي وهوية الدولة والنظام السياسي وتعزيز الديمقراطية والإيمان بها، فضلاً عن تحديات التدخلات الدولية والإقليمية، التي زادت من مشاكل العراق السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية. وبغض النظر عن كل القضايا الجدلية التي من الممكن أن يكون الاختلاف بها مسألة طبيعية، ولاسيما اذا ما اخذنا طبيعة الهدم والبناء الذي تعرضت له الدولة والمجتمع العراقيين قبل وبعد عام 2003 على مستوى بناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإن الإشكالية التي لا تزال قائمة هي عدم حسم هوية النظام والدولة معاً. فالدستور الذي يعد اللبنة الاولى في بناء الدولة والقاعدة الاساسية التي ترسم طبيعة الدولة  على كافة المستويات، ما يزال محل شك وجدل كبيرين، ولاسيما على مستوى توزيع الثروات وعلاقة الإقليم بالمركز وطبيعة إدارتهما على المستوى السياسي أم المحلي، وشكل الدولة الاتحادي "كما نص عليه الدستور" تّشوه كثيراً، بفعل السلوك السياسي القائم على المحاصصة القومية والطائفية والحزبية، التي ادت إلى الانقلاب على الكثير من مواد الدستور وفقراته، واخضعت الانتخابات لرغباتها ومزاجها السياسي بعيداً عن نتائجها وما يفرزه صندوق الانتخابات. فالعراق كدولة لا يزال يعاني من اختلالات بنيوية، بما يجعله أسيرة لمعطيات (إقليمية ودولية) ولرؤى القوى والأحزاب السياسية، التي بدت تتعامل مع الدولة والنظام بواقع ما تفرضها المصلحة الحزبية وليس بما يفرضه الدستور أو طبيعة الدولة وقيمها الحديثة التي رسمتها لها التجارب السياسية السابقة والمواثيق الدولية والمحلية. فالأحزاب السياسية بدأ بعضها يتغوّل كثيراً في كل مفاصل الدولة لصالح ما يُسمى بـ "الدولة العميقة"، بحسب الطبيعة الجغرافية والديموغرافية لها. وعلى صعيد النظام السياسي، فإن المحاصصة العرقية والطائفية اصابته باختلالات بنيوية افقدت ثقة المواطن بالنظام، وزادت من حجم الفجوة بين السلطة والشعب، وأن السلوك السياسي للأحزاب السياسية شوه القيم الاساسية التي تضبط اداء النظام السياسي وطبيعته البرلمانية القائمة على دستورية الفصل بين السلطات، وجعله أسيراً لإرادة رؤساء الكتل السياسية وإرادات خارجية في بعض الاحيان، وهذا ما انعكس سلباً على وظيفة السلطة التشريعية، واداء السلطة التنفيذية، واسهم في تشويه النظام السياسي بشكل عام. فنجد مثلاً الاحزاب السياسية، فضلاً عن النخب الفكرية والاكاديمية والاجتماعية، لم تحسم بعد أي نظام يمكن أن يصلح للعراق في ظل دستور جامد، هل هو النظام البرلماني أم الرئاسي...؟ كذلك من التشوهات التي اصابت هوية الدولة والنظام السياسي على صعيد الهوية الاقتصادية، هل العراق دولة اشتراكية أم رأسمالية؟ فالعراق في السابق كان يعتمد النظام الاشتراكي والقطاع العام، ففي الوقت الذي من المفترض أن ينتقل فيه البلد من الاشتراكية إلى نظام اقتصاد السوق بعد عام 2003، إلا أنه بقي يراوح بين الفلسفتين، فالممارسة الاقتصادية على مدار العقديين الماضين، اثبتت أن البلدلم يتمكن من مغادرة العقلية الاشتراكية في طريقة تسيير الاقتصاد، ولم يستطع جلب الاستثمارات الضخمة والاعتماد على القطاع الخاص، في ظل تفشي الفساد وعدم قدرة قوانين الاستثمار الحالية على مواكبة تحولات العصر؛ الأمر الذي ساهم في تشوية هوية الدولة والنظام السياسي معاً.

التعليقات
تغيير الرمز