تُمثل الموازنة خارطة الدولة المالية لسنة قادمة، من حيث النفقات والايرادات المتوقعة للبلد.
وتختلف الموازنة من بلد لآخر، من حيث الحجم والدور والاثر، حسب طبيعة النظام السياسي والاقتصادي المتبع في الدولة، إضافة لمدى قوة أو ضعف المؤسساتية.
حيث تصبح الموازنة متدخلة ومتضخمة مع سيادة النظام الشمولي سياسياً واقتصادياً، وفي الاغلب تكون أقل أثراً مقارنةً بحجم الموارد، بالتزامن مع ضعف المؤسساتية.
بمعنى، ان الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق يجعلان الموازنة أقل تدخلاً وأصغر حجماً، وأكبر أثراً بالتزامن مع قوة المؤسساتية.
وهنا، يبرز تساؤل، ما هو اداء الموازنة في العراق في ظل تبنيه للديمقراطية السياسية واقتصاد السوق إلى جانب المؤسساتية بعد 2003؟ أي هل أصبحت الموازنة افضل حالاً، أي أقل تدخلاً واصغر حجماً وأكبر تأثيراً؟
ولأجل الحكم يتطلب الأمر، عرض الموازنة من حيث الدور والحجم والاثر وكما يلي:
الدور
أي هل هي موازنة متدخلة أم حيادية؟
يمكن أن نعرف مدى تدخلية الموازنة في الاقتصاد العراقي من خلال مؤشرات عديدة يمكن تناول بعضها وكالاتي:
1- الانفاق الحكومي كنسبة الى الناتج المحلي الاجمالي
حيث لا يقل متوسط الانفاق الحكومي عن 35% كنسبة الى الناتج المحلي الاجمالي لآخر 10 سنوات ( 2014- 2023)
2- الايرادات النفطية كنسبة من الايرادات الحكومية
حيث لا يقل متوسط الايرادات النفطية عن 87% كنسبة الى الايرادات الحكومية لآخر 10 سنوات (2014- 2023) حسب التقارير الاقتصادية الصادرة عن البنك المركزي العراقي.
3- دعم القطاعات الحيوية
تختلف الاسعار المحلية عن الاسعار العالمية بالنسبة للقطاعات الحيوية وبالخصوص الوقود والكهرباء، ومن يتحمل الفرق هو الموازنة العامة مما يدلل على تدخل الموازنة في الاقتصاد.
فعلى سبيل المثال في العراق سعر البنزين في المتوسط يمثل 0.649 دولار امريكي، بينما المتوسط العالمي لسعر البنزين هو 1.26 دولار امريكي، بمعنى ان هناك فرق كبير بين السعر المحلي والعالمي تتحمله الموازنة.
كذلك الحال بالنسبة للكهرباء، حيث يبلغ سعر الكهرباء للأسر في العراق 0.015 دولار امريكي لكل كيلو واط/ ساعة، بينما المتوسط العالمي للأسر هو 0.154 دولار امريكي لكل كيلو واط/ ساعة، حسب موقع اسعار البترول عالمياً.
بمعنى ان الموازنة تتحمل الفرق بين الاسعار المحلية والاسعار العالمية وهذا ما يدلل على تدخلية الموازنة في الاقتصاد.
4- تضخم الدولة على حساب القطاع الخاص
حيث تمثل الدولة أكبر صاحبة عمل في البلاد، وما يدلل على ذلك هو ارتفاع النفقات الجارية وبالخصوص فقرة تعويضات الموظفين، حيث لم ينخفض متوسط تعويضات الموظفين عن 50% من النفقات الجارية لآخر عشر سنوات( 2014- 2023).
الحجم
هناك علاقة طردية بين الحجم والدور الذي تلعبه الموازنة في الاقتصاد، أي يزداد حجم الموازنة مع دورها في الاقتصاد، كلما يزداد دورها يزداد حجمها.
على الرغم من تذبذب الموازنة مع الظروف الطارئة إلا ان الاتجاه العام نحو الارتفاع كما هو واضح في الشكل أدناه، مما يعني ان حجم الموازنة في تزايد مستمر.
يتضح من الشكل اعلاه، ان حجم الموازنة متذبذب مع الظروف الطارئة وبالخصوص اسعار النفط، فكلما تنخفض اسعار النفط ينخفض حجم الموازنة تباعاً، بمعنى ان الموازنة تتوقف على العوامل الخارجية وهذا ما يجعل تنفيذ المشاريع وبالخصوص التنموية تحت رحمة العوامل الخارجية!
الأثر
أي هل الموازنة انتاجية وتركت اثراً ايجابياً على الواقع الاقتصادي؟
عندما تكون الموازنة فعّالة وإنتاجية ستنعكس بشكل تلقائي على الواقع الاقتصادي والخدمي والاجتماعي وغيرها، وبهذا الصدد يمكن توضيح اثر الموازنة في مجالات وهي الاقتصادي والخدمي والاجتماعي.
على المستوى الاقتصادي، لم تسهم الموازنة في تنويع الاقتصاد بشكل عام وايراداتها بشكل خاص حيث ظل النفط يمثل حجر الزاوية في الناتج المحلي والاجمالي والايرادات العامة.
على المستوى الخدمي، حيث لم يشهد العراق طفرة نوعية في الخدمات لا البلدية ولا التربوية والتعليمية ولا الصحية وغيرها، بمعنى ان اثر الموازنة لم ينسجم مع حجمها آنف الذكر.
على المستوى الاجتماعي، والحق يُقال؛ ان الموازنة اسهمت في انتشال شريحة كبيرة، قد يصل عددها 7 مليون نسمه؛ من خلال ما يعرف بالرعاية الاجتماعية مع ما يسجل عليها من إشكالات تتعلق بالتوظيف السياسي او شمول افراد غير مستحقين لها.
جدير بالذكر، ان اثر الموازنة على المستوى الاجتماعي قد لا يكون مستدام، نظراً لارتباطه بالنفط المتذبذب عالمياً، مما يعني ان هذا الاثر أثر متذبذب لو صح التعبير، بينما لو تم العمل على تقوية الاقتصاد وربط الاثر الاجتماعي بالاقتصاد القوي سيكون الأثر أكثر استدامة وبعيداً عن إشكالات في التوظيف أو الشمول.
الحكم
يمكن القول مما سبق، ان الموازنة لم تكُن افضل حالاً، حيث اتضح انها تدخلية، وأكبر حجماً بل وان الاتجاه العام نحو الزيادة، وأقل أثراً اقتصادياً وخدمياً مع الفارق على المستوى الاجتماعي غير المستدام.
وهنا يُطرح تساؤل، ان العراق تبنى بعد 2003 الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق الى جانب المؤسساتية، فلماذا لم تكن الموازنة افضل حالاً من حيث الدور والحجم والاثر؟!
بالتأكيد، الأسباب عديدة ومتداخلة فيما بينها، ويُمكن الاشارة لبعضها أدناه:
سياسي، حيث ان الديمقراطية ليست اداة للحكم وحسب بل هي اسلوب حياة، فاعتمادها في العراق في الحكم مع بقاءها ثقافة المجتمع ثقافة استبدادية، يعني استمرار الصراعات السياسية وتأثيرها بشكل سلبي على الموازنة.
اقتصادي، ان انسحاب الدولة بشكل مفاجئ من الاقتصاد واعتماد اقتصاد السوق، بالتزامن مع عدم وجود قطاع خاص مؤهل ليحل محل الدولة يعني تفاقم الحاجات مما دفع بالموازنة للتدخل واصبحت تدخليه ومتضخمة.
اجتماعي، تربى المجتمع على الاتكالية حيث ان الدولة كانت هي المسؤولة عن تدبير الشؤون الاقتصادية للمجتمع وعند انسحاب الدولة لم يتقبل المجتمع ذلك الانسحاب، فأصبحت هناك ضغوط اجتماعية لتدخل الموازنة وتحملها الاعباء.
الاداري، حيث لم يتم ادارة التحول السياسي والاقتصادي بشكل سليم، أي لم يتم اعتماد التحول بشكل مدروس، حيث تم تطبيقه بشكل مفاجئ دون الاخذ بعين الاعتبار ثقافة المجتمع الراسخة، لذلك لم يتفاعل المجتمع مع التحول وظلت الموازنة تتحمل اعباء سوء ادارة التحول.
مؤسساتي، أي ان المؤسسات لم تكن مستقلة بما يكفي لأجل تحقيق اهدافها، وان المؤسسات التي تفتقد للاستقلالية يعني ان قراراتها لم تكُن مهنية بل متأثرة بالقرارات السياسية والقرارات المتأثرة تترك أثرها السلبي على الموازنة.
الخطوات
ولأجل اعادة الموازنة لنصابها بالشكل الذي ينسجم وتبني الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق الى جانب المؤسساتية، لابد من العمل على معالجة الاسباب أعلاه بشكل حقيقي، أي العمل على الاتي:
اولاً: التنشئة السياسية، اي العمل على مسح الثقافة الاستبدادية واحلال محلها الثقافة الديمقراطية، ليكون المجتمع ونخبه بكل الوانه وطوائفه واعراقه، منسجم وقادر على بناء رؤية وطنية والعمل على تحقيقها.
ثانياً: تأهيل القطاع الخاص، أي العمل على فسح المجال أمام القطاع الخاص ليمارس نشاطه بشكل حقيقي وذلك من خلال منع الفساد ومكافحته وخلق بيئة اعمال مشجعه ومحفزة للنشاط الاقتصادي.
ثالثاً: الغاء الاتكالية، أي يتم تثقيف المجتمع بالاعتماد على ذاته في تدبير شؤونه الاقتصادية لا على الدولة، أي ان يكون لكل شخص أو مجموعة اشخاص مشروعهم الاقتصادي القادر على تحسين حالتهم الاقتصادية.
رابعاً، اللامركزية والتدريجية ، أي العمل على نقل الصلاحيات من الوزارات الى المحافظات بشكل تدريجي لتجنب التضارب والتخبط والفوضى، وبما يسهم في تفاعل المجتمع مع هذا التوجه.
خامساً، تقوية المؤسسات، ان تقوية المؤسسات له دور ايجابي لمعالجة اداء الموازنة، لان المؤسسات القوية باستقلاليتها ستمتنع عن قبول أي تلكؤ او توظيف سيء للموارد أو بعيداً عن المسارات المُفترضة.
خلاصة القول، ان اداء الموازنة لم يكُن افضل حالاً رغم تبني الديمقراطية والسوق والمؤسسات، نظراً لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وادارية ومؤسساتية، وإن معالجة هذه الاسباب ستكون كفيلة بتحسين اداء المؤسسة بما ينسجم والتوجهات الجديدة.