ليس جديداً القول إن العراق يعاني منذ عقود من ارتفاع مستويات البطالة ومحدودية في إيجاد فرص العمل وتدهور في نوعية الوظائف، ناهيك عن عدم وجود موائمة بين المخرجات التعليمية ومتطلبات أسواق العمل، الأمر الذي فاقم من مشكلة البطالة بين الخرجين الشباب والشابات.
وقد أضحت هذه الظاهرة سمة مميزة أثرت نتائجها على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولازالت تؤثر، وكانت هناك جملة من العوامل أدت الى تنامي واستفحال هذه الظاهرة منها الحروب الخارجية والداخلية والعنف والصراعات والإرهاب وطبيعة النظام الاقتصادي-السياسي فضلاً عن سوء التصرف بالموارد المالية للبلد.
وقد أدى تورط العراق في الحروب والصراعات الى جانب الحصار الاقتصادي في عقد التسعينات من القرن الماضي إلى تغيير معظم الموارد وتوجيهها نحو العمليات العسكرية، مما أدى إلى خسائر فادحة في الاقتصاد العراقي بشكل عام وإلى تفاقم تحديات سوق العمل في العراق.
وبالرغم من تغيير نظام الحكم عام 2003 وبدلاً من ان تتحسن فرص العمل ارتفعت البطالة الى مستويات قياسية لتتجاوز أكثر من 20%، وعلى الرغم من إن وباء كوفيد-19 واضطرابات أسعار النفط وما رافقها من تداعيات فاقمت من معدلات البطالة، إلا إن المشكلة في العراق هي أعمق بكثير من ذلك، فهي تتعلق باختلالات بنيوية وهيكلية متجذرة في الاقتصاد.
ولم يشهد البلد وضع أي سياسات جادة لمعالجة الوضع، وكان الاعتماد فقط على القطاع العام في التوظيف والذي بدى عاجزاً عن استيعاب كل الراغبين في العمل، بالرغم من إن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في العراق قد شهد قفزات كبيرة خلال المدة 2005-2019 إلا أن معدلات البطالة لا تزال مرتفعة بشكل ملحوظ متأثرة بجملة من الأسباب لعل أبرزها:
• الانفجار السكاني الحاد والفئة في سن العمل 15-65 يزدادون بشكل ملفت للانتباه، وقد يصل العراق الى ما يُسمى بالهبة الديمغرافية خلال العقدين القادمين.
• قطاع النفط المساهم الرئيس في النمو الاقتصادي كثيف رأس المال مع إمكانية توظيف محدودة.
• يؤدي الافتقار إلى التنويع الاقتصادي مع نمو القطاع الخاص الرسمي المحدود إلى الحد من الفرص المتاحة.
أولاً: الابتكارات: نموذج سندات الأثر الانمائي
يعود الفضل في إبراز مفهوم الابتكار ودوره في التطور الاقتصادي الى عالم الاقتصاد الأمريكي (النمساوي الأصل) جوزيف شومبيتر 1883-1950 في نظريته عن التطور الاقتصادي، والذي أشار فيه الى الدور الكبير والاساسي الذي يلعبه المنظم، إذ وصفه بالبطل المغوار الذي يشرح هذا التطور، ويناقش قائلاً (إن التغير في الحياة الاقتصادية يبدأ بأعمال فردية قوية ومن ثم ينتشر في الاقتصاد)، والمنظم بحسب شومبيتر هو الذي يخلق الابتكار والابداع في الأسواق والصناعة...الخ.
وفي هذا الإطار، شهدت نهاية القرن العشرون وبداية القرن الحادي والعشرون تطورات تكنولوجية هائلة أثرت على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكوسيلة لتلبية هذه الاحتياجات الهائلة، عكفت وتعكف المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، وغيرها) على تطوير أدوات تمويل جديدة تركز على تحقيق النتائج، يسعى بعضها إلى تعبئة رأس المال غير المستغل في القطاع الخاص، مع القيام في الوقت نفسه بتحويل التحديات الاقتصادية والاجتماعية العالمية إلى فرص استثمارية، ويمكن للاستثمار المسؤول اجتماعياً الذي ظل يشهد نموا عالميا خلال العقد الماضي أن يواجه التحديات الإنمائية العالمية بعقلية ريادة الأعمال المطلوبة والمرغوبة وديناميكية القطاع الخاص.
وفي هذا الإطار، تُعد سندات الأثر الإنمائي من بين أكثر الأدوات التي دخلت السوق مؤخراً إشراقاً، فهي أداة استثمارية قائمة على الأداء تهدف إلى تمويل برامج التنمية وتوفير فرص العمل في البلدان ذات الموارد المنخفضة والمرتفعة البطالة، وهي مبنية على نموذج سندات الأثر الاجتماعي Social Impact Bond، والتي ظهرت بوصفها أدوات تمويلية مبتكرة تستقطب رأس مال القطاع الخاص وخبراته، مع التركيز على تحقيق النتائج.
وتُعد سندات الأثر الإنمائي نوعاً من أنواع التمويل المرتبط بالنتائج يُقدِّم فيه مستثمرون من القطاع الخاص رأس المال التأسيسي لتمويل المشاريع ويتم استرداده في وقت لاحق بعد تحقيق النتائج المستهدفة ويحصلون على عائد إذا أظهرت الأدلة أن البرامج تحقّق نتائج متفق عليها مسبقاً، وقد تم منح مسميات عديدة لهذا النوع من النهج التمويلي منها، سندات الأثر الاجتماعي Social Impact Bond في المملكة المتحدة وإيرلندا في المملكة المتحدة عام 2010 بدعم من مؤسسة روكفلر Rockefeller Foundation، وهي منظمة تعمل للحدّ من عودة السجناء المسرّحين من سجن بيتربورو إلى السجن مرة اخرى. والدفع مقابل النجاح Pay for Success في الولايات المتحدة وسندات المنافع الاجتماعية Social Benefit Bonds في أستراليا، إلا أن مبدأ كل هذا النهج يقوم على أمر واحد وهو المستثمر في القطاع الخاص.
ثانياً: آلية عمل سندات الاثر الانمائي
يستند جوهر سندات الأثر الإنمائي على مبدأ التمويل المبني على النتائج (مشروع التمويل بهدف خلق فرص عمل) من خلال حشد استثمارات القطاع الخاص لتمويل برامج تدريبية يتم تنفيذها من خلال مزودي خدمات محليين لتطوير المهارات والقدرات للشباب في قطاعات اقتصادية مختلفة، ويختار المستثمرون مزودي الخدمات الذين سيقومون بتقديم التدريبات اللازمة بحسب القطاعات المستهدفة، كما ويوفرون رأس المال المطلوب لتغطية تكاليف التدريب، يقوم الشركاء بالاتفاق على مجموعة من النتائج منها، عدد الوظائف التي يسعون لتحقيقها، وطريقة التقييم والمعايير التي سيتم استخدامها للتحقق من هذه النتائج، بهدف خلق فرص عمل تتوافق مع متطلبات السوق المحلي، في حال تحقيق النتائج المتفق عليها والتحقق منها بشكل مستقل، يقوم مشروع "التمويل بهدف خلق فرص عمل" بسداد مستحقات المستثمرين فضلاً عن العوائد المالية.
ولضمان سير برامج التدريب والتوظيف وتحقيق أهدافها، يتعاقد المستثمرون مع جهة إدارية مسؤولة عن ادارة سندات الأُثر الإنمائي، للإشراف على البرامج ومتابعة ادارتها بشكل يومي فضلاً عن التنسيق مع مزودي الخدمات لضمان أداء فعال لهذه البرامج.
وتعمل سندات الأثر الإنمائي الخاصة بتنمية المهارات على جسر الهوة بين مؤهلات الباحثين عن العمل ومتطلبات سوق العمل، إذ يتم تعويض المستثمرين عن تكاليف التدريب والتوظيف التي أنفقت على أساس تحقيق نتائج محددة خاصة بالوظائف التي تم ايجادها للمتدربين.
إن هذا الأسلوب من التمويل والابتكار يحول تحديات البطالة وعدم توفر فرص العمل إلى فرصة قابلة للاستثمار.
ثالثاً: أوجه الاختلاف عن السندات الاخرى
سندات الأثر الإنمائي الاجتماعي ليست سندات بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، بمعنى أنها ليست ضمانات للدين تدر معدلاً ثابتاً من الفائدة إلى أن يحين أجل استحقاقها، لكنها بدلاً من ذلك تُعد أدوات شبيهة بالأسهم تُسدد للمستثمرين على أساس النتائج التي يتم إحرازها كما أنها تتميز بمستويات أعلى من المخاطرة والعائد المحتمل مقارنة بالسندات التقليدية.
تستقطب سندات الأثر الإنمائي رأس مال القطاع الخاص وخبراته، مع التركيز على تحقيق النتائج، فبدلاً من أن تمول الحكومة أو المانحون أحد المشاريع مباشرة، فإن مستثمري القطاع الخاص يبدؤون أولاً بتمويل المبادرة، ولا يحصلون على استثماراتهم إلا إذا تحققت النتائج الاجتماعية والاقتصادية المتفق عليها، كما أنه ينتقل بالتركيز من المدخلات إلى الأداء والنتائج، إذ يكون القطاع الخاص آنذاك مهتماً باستعادة استثماراتهُ وضمان استخدامها بأعلى قدر من الكفاءة والإنتاجية من مقدمي خدمات القطاع الخاص الذين يتولون تنفيذ المشروع.
وبالرغم من أن سندات الأثر الإنمائي حديثة نسبياً، فقد أظهرت بيانات مؤسسة بروكنغز إن هناك أكثر من 200 سند من سندات الأثر صدرت على مستوى العالم في 35 بلداً تبلغ قيمتها إجمالاً 437 مليون دولار من رأس المال التأسيسي (حتى يونيو/حزيران 2021) ومن بين سندات الأثر هذه لا يوجد سوى 19 سنداً صدرت في بلدان نامية تعاني من ارتفاع في معدلات البطالة.
وهناك الكثير من الشواهد والادلة على فعالية هذه الادوات بالمقارنة مع ادوات التمويل الاخرى، وتشجع على زيادة التركيز على ربط التدريب بمتطلبات السوق، والمساءلة عن العمل والنتائج، وزيادة الوعي بمخاطر المشاريع، والتخطيط المكثف للحد من المخاطر.
رابعاً: التجربة الفلسطينية في مجال سندات الاثر الانمائي
أطلق البنك الدولي وشركاؤه أول سند للأثر الانمائي في فلسطين اوائل عام 2020 للمساعدة في معالجة مشكلة البطالة في صفوف الشباب والنساء في إطار المشروع الثاني للتمويل من أجل خلق فرص العمل الذي يموله البنك الدولي وتتولى وزارة المالية تنفيذه، وعلى الرغم من القيود التي تفرضها جائحة كورونا، إذ تم قبول أكثر من 460 شاباً وشابة من بين العدد المتوقع للمشاركة خلال السنوات التي يستغرقها البرنامج والبالغ 1200 شاب وشابة، أتم 350 منهم تدريبهم، وحصل 60 شاباً وشابة على وظائف ملائمة، وكانت هناك مشاركة نسائية قوية في البرنامج، إذ شكلت نحو 50% من المستفيدين، وقد بدأ المستثمرون باسترداد أكثر من مليون دولار من مدفوعات النتائج والانتاجية المُستهدفة حتى مايو/ ايار 2021 من اصل 5.75 مليون دولار قد يتم تحقيقها في نهاية المطاف من السندات خلال أجلها في اكتوبر/ تشرين الاول 2023.
وعلى الرغم من كل التحديات، بدأت النتائج الاولية تظهر في مجالات تدريب وتوظيف الشباب الفلسطيني وتوفير فرص العمل، وتحقيق مشاركة نسائية كبيرة الى جانب تحقيق نتائج ايجابية فيما يتعلق بالإنتاجية وبتسديد المدفوعات الى المستثمرين، مما يعني نجاح هذه السندات الى حد ما في مواجهة والتخفيف من حدة البطالة وتنمية مهارات العاملين، ومن ثم قد تمثل هذه السندات نهجاً جديداً للتصدي لمشاكل البطالة وتوفير فرص العمل.
خامساً: إنقاذ أجيال ضائعة: تحويل الاستثمارات المالية الى فرص عمل في العراق
يواجه العراق أزمة وظائف ذات أبعاد غير مسبوقة، ويمكن أن تؤدي الى مشاكل اجتماعية وسياسية خطيرة ما لم يتم وضع سياسات حكيمة للتخفيف من حدتها، في بلد غني بالموارد ويتمتع بإمكانيات هائلة ومتنوعة غير مستغلة.
وتبدو صورة المستقبل في الاقتصاد العراقي قاتمة وغير واضحة في ظل اقتصاد راكد ضعيف الأداء يتميز بوجود جيوش من الشباب والشابات الخرجين عاطلين عن العمل، وقطاع خاص لا يرغب في استثمار رؤوس أمواله في الداخل بسبب عدم توفر البيئة الملائمة للاستثمار، ناهيك عن تراكم المديونية العامة وارتفاع مستويات العجز في الموازنة العامة للبلد.
وعليه، يحتاج العراق إلى استراتيجية لإحراز تقدم سريع في معالجة تحديات الوظائف، توفر فرص العمل وإعادة الإعمار والبناء.
وعلى المدى القصير، لا يمكن للقطاع الخاص بمفرده أو القطاع العام بمفرده أن يخلق وظائف دون اتخاذ إجراءات وسياسات جديدة وإيجاد حلول مبتكرة، ويقدم نموذج سندات الأثر الإنمائي هيكلاً واضحاً للإدارة والحوكمة إذ يتحمل مدير هذه السندات المسؤولية الكاملة عن تجميع الأطراف الفاعلة لتنفيذ المشروع.
وهناك أمل في أن يكون نموذج سندات الأثر الإنمائي أكثر ملاءمة للتصدي لهذه التعقيدات في العراق لا سيما في ظل الاعتماد المستمر على النفط كمصدر وحيد لتوفير الموارد المالية للبلد.
وهنا اقترح إطلاق مشروع تتولى تنفيذه وزارة المالية العراقية يُسمى (سندات الاثر الانمائي العراقي لخلق الوظائف) وبمساهمة مباشرة ورئيسة من القطاع الخاص من خلال تعبئة رأس مالهُ وخبراتهُ لتحفيز نتائج التوظيف بشكل أفضل، ونظراً لأن المستثمرين لن يحصلوا على ما دفعوه إلا بعد تحقيق النتائج، فإن هيكل الحوافز يُركز على تحقيق النتائج أكثر من تركيزه على نفقات البرنامج ومدخلاته.
عموماً، التجريب والابتكار من خلال أدوات كسندات الأثر الإنمائي قد يشكلان وسيلة للتصدي لتحديات ومشاكل البطالة بفاعلية وكفاءة، وللمستثمرين في سندات الأثر الإنمائي محفزات قوية للتأكد من استمرار تقديم الخدمات وهي ميزة أساسية وتختلف بالمقارنة بالإجراءات التدخلية التقليدية للمانحين.