اختلفت النظريات الاقتصادية في نظرتها للنمو السكاني فمنهم من يراه ذو آثر سلبي في الاقتصاد كونه يؤثر في الرفاهية الاقتصادية للأفراد ومن أشهر النظريات المؤيدة لتلك الحجة ( نظرية مالثوس التشاؤمية ) لنمو السكان والذي تطرق له بشكل جانبي في مقالته الخاصة بالسكان عام (1798) التي تناولت آثر الزيادة السكانية المستمرة في تقليل فرص الرفاهية الإقتصادية والذي يسهم بشكل مباشر في تقليص الموارد المتاحة وعدم كفايتها في تلبية حاجات المجتمع ، ومن ثم بحثه الذي كان له الآثر البالغ في صياغة نظريته حول السكان عام (1803) التي تناولت اختلال التوازن بين نمو السكان ونمو الموارد المحلية لاسيما المواد الغذائية ، نتيجة محدودية الموارد المحلية بسبب ضعف الادخار الموجه للاستثمار القطاعي قياساً بتزايد أعداد السكان ، إذ طالما تعد الزيادة السكان عملية بيولوجية وليس لها علاقة بالنظم الاجتماعية السائدة ، لذا فأن النمو السكاني سيتزايد بمتوالية هندسية (16,8,4,2,1 ) ومن ثم أعداد السكان ستتضاعف كل ربع قرن وتستمر بالزيادة الى ما لانهاية مالم تبرز موانع خارجية لقمعه ، فيما تزداد المواد الغذائية بمتوالية عددية (6,5,4,3,2,1 ) لعدم قدرة الارض على إنتاج الغذاء لخضوعها الى قانون الغلة الغذائية مما يؤدي حتماً الى تناقصاً في الغذاء وتفشي البطالة والفقر وتوقع حدوث أزمة اقتصادية من ثم تراجع معدلات الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يؤدي الى ظهور الموانع الخارجية الإيجابية كالحروب والمجاعات والاوبئة والامراض كرد فعل من الطبيعة لأحداث هذا التناسب اذ لم يعمل الانسان بوعي للحد من تلك الزيادة السكانية ، أو استخدام الموانع السلبية الأكثر ضراوة كالحد من الزواج وكثرة الأنجاب .
وما يعاب على نظريته، أهماله لجانبين مهمين: الأول دور التقنيات والأساليب الفنية في زيادة كميات الإنتاج بنفس كمية المدخلات، والثاني إمكانية استغلال المساحات الواسعة لتشمل استصلاح الأراضي الصحراوية غير صالحة للاستخدام بما يؤدي الى مضاعفة الإنتاج الزراعي.
ويخالفه الاقتصاديون الكلاسيك المعاصرون له ومن أمثالهم جون ستيوارت مل وأخرون (1076) ، الذين يرون في الزيادة السكانية انها لا تشكل عبء اقتصادي على أي بلد ، إذ يستندون الى العامل التقني والتكنولوجي كسبب في زيادة الإنتاج ومن ثم الحد من تناقص الموارد الطبيعية.
وقد بقيت النظريات الكلاسيكية محل انتقاد من قبل الاقتصاديين اللاحقيين نتيجة استنزاف النمو السكاني للموارد الطبيعية وأبرز من خالفهم الرأي ما جاء به الاقتصادي سولو في نموذجه الذي يربط بين نمو السكان والنمو الاقتصادي.
Y=(K,L,R,T)
فالنمو الاقتصادي دالة في رأس المال (K) والعمل (L) والموارد (R) والتكنولوجيا (T) وحين أدخال النمو السكاني المتسارع على دالة الإنتاج يؤدي ذلك الى تخفيض حجم الادخار والاستثمار.
وهناك نظريات اقتصادية خالفت ذلك حينما أثبتت أن النمو السكاني سبباً في تقدم البلدان وزيادة رفاهيتها لاسيما إذا ما تم استثماره بشكل يسهم في تعبئة الموارد الإقتصادية بشكل أكثر كفاءة.
وتنطبق النظريات الإقتصادية على الواقع العراقي إذ أن أحدى مظاهر الاختلالات البنيوية التي يعانيها الاقتصاد العراقي هي مشكلة التضخم في أعداد السكان مقارنة بالموارد المحلية المستغلة ، إذ من الملاحظ أن هناك تزايداً في معدل نمو السكان بحدود (3.5-2.5%) والتي هي في الحدود الطبيعية قياساً بمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ( مع النفط ) ، الا أن التنبؤات تشير الى أن هذا المعدل لن يبقى على حاله متجاوزاً الوضع الطبيعي جراء اعتماد الاقتصاد العراقي على قطاع النفط في تكوين الناتج المحلي الإجمالي الذي يشكل حوالي نسبة 50% والتقلبات التي شهدتها أسعار النفط الخام بالسوق العالمية في السنة الاخيرة بسبب الركود العالمي وتوقف غالبية الأنشطة الإقتصادية على خلفية تفشي وباء كورونا المستجد ، بما يعني احتمالية تراجع معدل نمو الناتج على مدار السنوات القادمة ، فضلاً عن التزايد في أعداد السكان بحدود مليون نسمة سنوياً التي ستتجاوز معدلات نمو الناتج والذي سيؤدي الى انخفاض متوسط نصيب الفرد من الناتج .
وقد أظهرت نتائج التنبؤ الإحصائي بمعدلات نمو السكان في العراق للمدة (2027-2017) أن من المتوقع أن يتزايد ذلك المعدل وبمقدار التغيير عن المدة السابقة بنسبة (84%) وكما يبينه الجدول والشكل الملحق به كالآتي: -
الجدول (1)
معدلات النمو السكاني في العراق للمدة (2027-1920)
المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، مديرية إحصاءات السكان والقوى العاملة، تقارير مختلفة.
* المدة ( 2027-2017 ) باعتماد التنبؤ الإحصائي من خلال برنامج Exccel .
معدلات النمو السكاني في العراق للمدة (2027-1920)
المصدر: إعداد الباحث بالاعتماد على البيانات أعلاه.
تشير المؤشرات الإقتصادية أن التزايد في أعداد السكان خلق تزايداً في الاستهلاك بمعدلات يفوق بأضعاف معدل الزيادة في متوسط دخل الفرد وعمق ذلك من فجوة الموارد المحلية جراء ضعف الادخار الموجه للاستثمار وتباطؤ معدلات التشغيل والإنتاج وحصول الفجوة الانكماشية نتيجة عدم الوصول الى الاستخدام الكامل ، وبالتالي أشباع الطلب المحلي المتزايد من خلال زيادة كمية الاستيرادات من العالم الخارجي مقابل انخفاض حجم الصادرات السلعية المحلية والذي خلق اختلالا واضحاً في التوازن الاقتصادي للميزان التجاري وحدوث الفجوة في التجارة الخارجية بالاقتصاد العراقي .
ومما لا شك فيه أن الفجوة الانكماشية المولدة للفجوتين الاقتصاديتين ما هي الا إسقاطات عن سوء التخطيط الاقتصادي، وبذلك تتراءى لنا الحلول الإقتصادية في العودة الى طروحات الاقتصادي مالثوس باستخدام الموانع والسبل الكفيلة بتحديد النسل وتأخير سن الزواج، لكي لا يتجاوز النمو السكاني عن معدل (3%) سنوياً، فضلاً عن تبني سياسات اقتصادية قائمة على حزمة من الإجراءات التي تبتدأ بالسياسة المالية التوسعية بهدف تنشيط القطاع الحقيقي وأنعاش الاقتصاد المحلي مع تناغم السياسة النقدية والتجارية في آن واحد.
ولابد من استخدام الإحصاء السكاني الدوري لدراسة أعداد السكان بهدف تحديد قابلية الاقتصاد العراقي على استيعاب الزيادة السكانية لحجم الموارد الإقتصادية بما يؤدي الى سد حاجة المجتمع من الإنتاج المحلي.