تهتم هذه المذكرة بجانب من إدارة المالية العامة لتحسين منهجيات البرمجة والتنفيذ بالعلاقة مع الموازنة Budget، وهي بمجموع اجرآتها وأهدافها تمثل خطة لتمويل الأنفاق على النشاط الحكومي الأستهلاكي والأستثماري. وتعتمد تلك الخطة الوظائف التي تزاولها الدولة عادة: أمنية ودفاعية؛ وإقتصادية؛ وبنى تحتية؛ وخدمات إجتماعية؛ ومهام السلطة الأدارية السيادية...؛ إضافة على إنصاف المحرومين؛ والعدالة التوزيعية للرفاه؛ ووسائل الارتقاء الحضاري. وتُبوّب، الموازنة، بموجب البنية الأدارية والتنظيمية للحكومة وتوزيع السلطات والصلاحيات؛ وتُفصّل حسب المكونات الأعتيادية للنفقات: رواتب وأجور ومخصصات؛ ومستلزمات سلعية وخدمية؛ وإعانات ...؛ وتحويلات ... الخ. أما الموازنة النقدية Cash Budget فهي أداة لأدارة المالية العامة، في ضوء تلك الموازنة، بمنهج يقوم على الأرصدة والتدفقات، لضمان السيولة الكافية في الوقت المعين عبر إجراء التعديلات الضرورية لتعويض نقص الأيرادات ومواجهة النفقات المستجدة. ويمكن ببساطة القول ان الموازنات النقدية فعالة لتنفيذ الموازنة العامة؛ ويمكن تسمية الموازنة النقدية \ميزان\ تمييزا لها عن الموازنة المتعارف عليها. ولا يقتصر إستخدام الموازنات النقدية على الحكومة بل هي شائعة في الشركات وإدارة البرامج، والتحليل المالي والأقتصادي للمشاريع وفرص الأستثمار.
إصدار واعتماد الموازنات النقدية:
بعد الإنخفاض الحاد في أسعار النفط، من المتوقع إهتمام دوائر القرار بالعجز وصعوبات التمويل والبحث عن تدابير بديلة لأدامة الأنفاق الضروري في الأمد القصير وحتى نهاية عام 2020. ولهذا الغرض فإن أكفأ وابسط منهجية للسيطرة على الأنفاق الحكومي وتمويله هي إدارة الموازنة النقدية Cash Budget Management أو بتعبير أبسط موازنة الأرصدة والتدفقات، الداخلة والخارجة، على الأساس النقدي Cash Basis، والمنهج معروف في كل العالم ويستخدم ليس فقط للحكومة والموازنة العامة بل للشركات أيضا. وهو المعول عليه في الأدارة المالية الفعلية وخاصة للأمد القصير والسيطرة على الموارد والأنفاق أولا بأول بالتعديل المستمر. وفي العراق يقتضي الواقع، وخصائص الأقتصاد، والأرتباط بين المالية العامة والصادرات، إعداد موازنتين نقديتين: واحدة بموارد واستخدامات النقد الأجنبي، والثانية مثلها بالنقد الوطني.
تتطلب إدارة الأنفاق العام إصدار الموازنتين شهريا، في اليوم الأول من الشهر الجديد: للشهر، والفصل، والسنة. وبذلك فإن ارصدة الأفتتاح لبداية الشهر في الموازين الشهرية، وبداية الفصل والسنة للموازين الفصلية والسنوية هي أرصدة الختام للمدد السابقة لها شهريا وفصليا وسنويا. أما المقبوضات والمدفوعات فهي مقدرة ايضأ للشهر والفصل والسنة على اساس وقت القبض أو الدفع الفعلي. هذه الموازين بأصنافها الثلاثة تُعِدها وزارة المالية بالتعاون مع المصارف والبنك المركزي؛ وتصدر شهريا من مجلس الوزراء وتُرسل الى مجلس النواب أيضا. ولتسهيل الأدارة تؤخذ ملاحظات مجلس النواب في الأصدار اللاحق. وتباشر وزارة المالية يوم 25 من الشهر بإعداد الموازين تلك، لتدارسها في جلسة مع رئيس الوزراء بحضور وزير التخطيط، لتُعدّل وتعرض على مجلس الوزراء لأقرارها وتصدر مُلزمة لجميع الجهات.
الموازنة النقدية أو إدارة النقد Cash Managementعنصر اساس في إدارة الأنفاق العام لتجنب المفاجآت والتغيرات الحادة، قدر الأمكان، وايضا لتنظيم الأقتراض والذي لا تخفى صلته الوثيقة بالسياسة النقدية والأحتياطيات الدولية للبنك المركزي. ومن اهم مسوّغات هذا المنهج تسهيل السيطرة على الأنفاق خلال السنة، وخاصة مع عدم التأكد من جانب الموارد Resources. والمسألة الجوهرية في الموازنات النقدية في العراق التمييز، دون لبس، بين منظومتين من الأرصدة والتدفقات الداخلة والخارجة: أرصدة وموارد وإستخدامات بالعملة الأجنبية وأخرى بالعملة الوطنية.
ولا بد من التخلي عن المقاربة المتعارف عليها في وزارة المالية وهي ان الموارد والأستخدامات واحدة يعبر عنها بعملتين، دينار ودولار، فالموازنة، حسب التصور السائد والنافذ في دوائر القرار، هي إيرادات نفط بالدولار تترجم، حسابيا، الى الدينار وتنفق. لقد كان هذا الفهم خلف الكثير من الألتباس وإعاقة مقترحات التطوير. وهو علة الأنفصام بين ميزان المدفوعات الخارجية والموازنة العامة في العراق، في التفكير والسياسة الأقتصادية، ومن اسباب الغموض النظري وإغفال الأختلاف الواقعي بين ضرورات ومضامين الأقتراض الداخلي والخارجي.
تعديل الأنفاق ومصادر تمويله، حجما وتوقيتا، لا بد منه في أي نظام للموازنة العامة، والأفضل إسناد هذه المهمة الى منهج يقوم على حساب مسبق وتدبر حصيف. وسوف يتبين ان إدارة الأنفاق العام بنظام الموازنات النقديةSystem Cash Budgetingيتطلب معلومات متكاملة عن المجريات الفعلية لأدارة المالية العامة والشبكة المصرفية للموازنة. ويقتضي إعتماد هذا الأسلوب التعاون الوثيق، بهمة عالية وإحساس عميق بالمسؤولية، بين جميع الدوائر المشاركة. كما ان إعداد وتنفيذ الموازنات النقدية بمثابة مراجعة وتدقيق لمختلف عناصر النفقة، بتفاعل دائم مع التكاليف وإستهداف إزالة غير الضروري منها ورفع الكفاءة لخفضها.
تترتب على التحول الى اللانظام والأجراءآت الأرتجالية والمستعجلة، في مواجهة النقص الحاد بالموارد، أضرار جسيمة. والأفضل هو المنهج الواضح والكافي لأداء المهمات في مختلف الأوضاع. إن مواجهة التغيرات الحادة في مكونات الأنفاق ومصادر التمويل، والتكيف معها، يتطلب الأخلال بالحساب والضبط، وتساعد الموازنات النقدية في ترصين المالية العامة في العراق بهذا المعنى.
تضمن الأدارة بالموازنات النقدية:
- السيطرة على أموال الموازنة العامة في النظام المصرفي الأجنبي والعراقي؛
- تنسيق الاقتراض مع التوقعات عن رصيد نهاية المدة. لأن هذه الموازين تصدر تخطيطيا: في بداية الشهر للشهر ذاته والفصل والسنة المالية بأكملها. مثلا في بداية نيسان عن الشهر، والفصل الثاني من السنة، والسنة المالية حتى نهايتها؛ وفي ايار كذلك... وفي بداية تموز عن الشهر والفصل الثالث والسنة... وهكذا، اي ان الموازنات النقدية الفصلية والسنوية تعدل شهريا.
- تتجاوز مشكلة الحسابات الختامية والتي تتأخر عادة في كل العالم، ولذلك تدار الموازنات نقديا أي بالتدفقات الداخلة والخارجة المتوقع تحققها فعلا في مدة الموازنة النقدية، شهر او فصل أو سنة، وبالأرتباط الوثيق مع الشبكة المصرفية لأدارة إيرادات ونفقات الموازنة.
- تزيل الالتباس الذي نشأ من الخلط المؤسف بين العملة الوطنية والأجنبية في العراق عبر إيضاح الأنفاق المباشر للحكومة بالعملة الأجنبية ومختلف اشكال التصرف الأخرى بها؛ وبالتوازي بيان ومصادر التمويل بالدينار العراقي ومنها مبيعات العملة الأجنبية؛ إضافة على دور البنك المركزي وعلاقة الموازنة العامة بالجهاز المصرفي؛ وهذه من ضروريات المعرفة والسيطرة المعلوماتية المفترضة في الجهات الحاكمة للأنفاق العام ذي الأهمية الحاسمة في الأقتصاد العراقي وعموم الأقتصاد المعاصر.
عناصر مهمة في منهج الموازنات النقدية:
يجري إعداد الموازنات النقدية Cash Budgets بالحوار المستمر والتقريب المتتابع بين عناصر الموارد والأستخدامات. بداية توضع في جانب الموارد ارصدة الأفتتاح وهي أرصدة ختام المدة السابقة والمقبوضات ذات الأعتمادية العالية؛ وفي جانب الأستخدامات تُدرج المدفوعات الضرورية؛ ويُنظر في الفجوة بين الجانبين. وجولة ثانية بإضافة مقبوضات أخرى يمكن تدبيرها والسحب على القروض الميسّرة؛ وفي جانب الأستخدامات تدرج نفقات الأولوية الثانية. وبعدها جولة ثالثة بإضافة قروض أخرى في مقابل مدفوعات أخرى ... وهكذا. وتستمر العملية حتى إستقصاء مصادر التمويل للأنفاق المطلوب مع الحرص على ضمان رصيد آخر المدة بالحد الأدنى الكافي إحتياطا للمخاطر.
وطريقة أخرى أن توضع في جانب الأستخدامات جميع المدفوعات المطلوبة، وفي جانب الموارد رصيد الأفتتاح والمقبوضات المؤكدة. وعلى أساس الفرق بين الطرفين، في اوضاع العجز، تحذف مدفوعات الأولوية الأخيرة؛ وتضاف الى جانب الموارد مقبوضات إضافية من إيرادات قابلة للتحقق نقدا Cash ضمن المدة المعنية ومبالغ السحب على القروض الميسرة؛ وتبدأ جولة أخرى للحذف من جانب الأستخدامات والأضافة الى الموارد ... وهكذا وصولا الى التوازن والذي يعّرف بالحد الأدنى من رصيد الأحتياط لنهاية المدة.
ولا يخفى ان ترتيب الأنفاق المطلوب، او المقترح، في جدول اولويات يقتضي: وضوح المعايير، وكفاية البيانات للتعرف الدقيق على النشاط الممول، وإدارة العمليات لوحدات الأنفاق الرئيسية والفرعية. ويعتمد تطوير إعداد وتعديل وتنفيذ الموازنات النقدية على التقدم المحرز فعلا لأصلاح إدارة وتنظيم العمليات التي تزاولها دوائر الدولة؛ وبموازاة قواعد بيانات التكاليف. كما يساعد ترصين نظام إعداد الموازنة العامة كثيرا لتسهيل إعتماد الموازنات النقدية بكفاءة أعلى وفاعليتها. ومن المفيد التذكير بأن المدة التي يستغرقها إعداد الموازنة العامة لحين تشريعها 18 شهرا في بعض الدول، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، ويتزامن عرض موازنة العام القادم على السلطة التشريعية مع بداية إعداد موازنة العام اللاحق؛ إذ يستغرق مكوثها في السلطة التشريعية حتى الأقرار ستة أشهر. كما ان هناك قواعد صارمة لأسلوب مناقشتها في السلطة التشريعية، مثلا: حسب تسلسل الفصول ومن الإجماليات الى الفروع وفروعها؛ وايضا تتضمن الموازنة إطارا للأقتصاد الكلي لخمس سنوات، يتغير مع كل موازنة جديدة. وبذلك تتكامل مهمات تطوير الموازنة العامة مع إتقان آليات الموازنات النقدية. هذا للتذكير بان الموازنات النقدية ليست بديلا عن الموازنة التي تشرع بقانون والأسس التي تقوم عليها بل هي مكمّلة وضرورية.
نموذج مختصر ومبسط للموازنتين النقديتين:
التالية موازنة النقد الأجنبي للحكومة، وتبين مقبوضات الحكومة من مختلف المصادر وكيفية التصرف بها. وينظر هنا الى مبيعات وزارة المالية للعملة الأجنبية الى البنك المركزي كأحد أشكال التصرف. وتبين موازنة النقد الأجنبي إستيرادات الحكومة ومدفوعاتها الخارجية الأخرى. وبناء على هذه الموازنة النقدية تتضح الحاجة الى الأقتراض الخارجي من عدمها، إنسجاما مع مبيعات وزارة المالية الى البنك المركزي ومدى إستنزاف إحتياطياته الدولية.
أو توضع في جانب الاستخدامات جميع المدفوعات المطلوبة، وفي جانب الموارد رصيد الافتتاح والمقبوضات المؤكدة. وعلى أساس الفرق بين الطرفين، في اوضاع العجز، تحذف مدفوعات الأولوية الأخيرة؛ وتضاف الى جانب الموارد مقبوضات إضافية من إيرادات قابلة للتحقق نقدا ضمن المدة المعنية ومبالغ السحب على القروض الميسرة؛ وتبدأ جولة أخرى للحذف في جانب الاستخدامات والإضافة في جانب الموارد ... وهكذا وصولا الى التوازن والذي يعرف بالحد الدنى من رصيد الاحتياط لنهاية المدة.
حول سقف الأنفاق الحكومي ودوره في الأقتصاد الوطني:
الشائع عموما، أن حجم الأنفاق الحكومي يتعين بالأيرادات النفطية وأقصى عجز قابل للتمويل بالأقتراض. وهو عين الفهم الغالب في الحكومة ومجلس النواب ولدى الأوساط الأخرى.
ورغم أهمية القيد المالي لسقف الأنفاق الحكومي، لكن المنظور الأقتصادي يستحضر حقائق أساسية في إليات عمل النظام، ويساعد على إضاءة فضاء الأمكانية. ولإيضاح المضمون الاقتصادي نلاحظ الأنفاق الحكومي وتمويله وآثارهما ضمن آليات عمل النظام الاقتصادي:
أولا: الأنفاق الحكومي هو الجزء الأكثر فاعلية من مجموع الطلب في الأقتصاد الوطني، إذ يختلف عن طلب قطاع الأعمال الخاص المرتبط بصافي الأرباح وصافي الأقتراض من الجهاز المصرفي؛ ويختلف عن طلب القطاع الأسري المُعتمد على الدخل الممكن التصرف به للأسر، والى حد ما صافي الأقتراض من المصارف وما اليها، أو تسييل الثروات. وعلى المستوى التجميعي يبقى طلب القطاع الخاص بمجموعه مقيدا بالدخل الممكن التصرف به للأسر وقطاع الأعمال. أما الأنفاق الحكومي فيتصف بقدر من الأستقلال الذاتي.
ومنذ ظهور التنظير الكينزي وتحليل المستخدم المنتج Input- Output شاع الأهتمام بدور الأنفاق الحكومي في تحديد الطلب الكلي، وبالتالي الدخل على المستوى الوطني. فالزيادة الأبتدائية من الأنفاق الحكومي تنخرط في سلسلة دورات من تعاقب الأنفاق – الدخل : الأنفاق يتحول الى دخل، والأخير يُدّخر جزء منه والباقي ينفق ليصبح دخلا بدوره ...،هي عملية تكاثر. وتسمى نسبة الزيادة في الطلب الكلي الى الزيادة في الأنفاق الحكومي المُكاثِر أو المضاعف Multiplier.
وفي ضوء مقاربة المستخدم المنتج يترتب على الزيادة الأبتدائية في الطلب الحكومي النهائي زيادة في الطلب على سلع وخدمات تنتجها مختلف الأنشطة الأنتاجية، وهذه بدورها تستدعي زيادات أخرى من مستلزمات سلعية وخدمية لأنتاج السلع والخدمات النهائية؛ ويتطلب إنتاج المستلزمات مدخلات من مختلف الأنشطة ... ويستمر التفاعل لينتهي الى استقرار الحجوم الأنتاجية للقطاعات. ورياضيا يمكن معرفة ماذا يصيب مختلف قطاعات الأقتصاد الوطني نتيحة الزيادة الأبتدائية في الطلب النهائي والحكومي بالذات عند توفر بيانات كافية لتركيب جداول المستخدم-المنتج.
من هنا ندرك ان حجم الأنفاق الحكومي لا تنبع ضرورته من تمويل أنشطة الخدمات العامة لأدامتها وحسب، في الاقتصاد المعاصر. بل ان ذلك المقدار من الأنفاق، وبغض النظر عن الكفاءة والوظيفة، ضروري بذاته للحفاظ على مستوى الناتج المحلي او الدخل القومي، ومنه التشغيل وتوليد الدخل في القطاع الخاص ورفاه الأسر المعتمدة عليه. والرواتب وبقية تعويضات المشتغلين في القطاع العام، الحكومة والهيئات الرسمية المستقلة ماليا والشركات العامة، ليست ضرورية فقط لمعيشة الأسر التي تعتمد عليها إنما هي محرك لكل الأقتصاد. ولذا، فإن عدم القدرة على تمويل الأنفاق الحكومي بالمستوى الأعتيادي يُلحق ضررا كبيرا بالأقتصاد الوطني يتعدّى حدود القطاع العام والعاملين فيه والأسر التي تستلم إعانات او تحويلات مباشرة من الحكومة.
كما ان تجاوز الأنفاق الحكومي لشروط التوازن، ستتضح لاحقا، ينقض الاستقرار، بنفس الآلية الموصوفة آنفا، ويبعث موجات تضخمية و/أو عجوزات في ميزان المدفوعات الخارجية، ولا ينفع في نمو الأقتصاد الوطني والعدالة الأجتماعية.
ثانيا: في الاقتصاد الاعتيادي، الذي لا يعتمد اساسا على صادرات السلع الأولية Goods Primary، ترتبط الأيرادات الحكومية وثيقا بالناتج المحلي، الدخل الوطني، والذي يمثل تشغيل الطاقة الأنتاجية. وعجز الموازنة العامة لا يكون إلاّ بخفض أو انخفاض الضرائب أو زيادة الأنفاق فوق ما تسمح به الأيرادات الحكومية، ويمثل في الحالتين، إبتداءا، زيادة صافية في الطلب. وفي حالة تمويل الحكومة ذلك العجز بسندات او حوالات يشتريها البنك المركزي، مباشرة من الأصدار الأولي او من السوق الثانوية، تسمى هذه الطريقة في التمويل تنقيد الدين Debt Monetization؛ اي تمويل العجز عبر زيادة الأساس النقدي والذي يعرّف بمجموع صافي الموجودات الأجنبية وصافي الأئتمان المحلي للبنك المركزي، ونتيجة لتنفيد الدين قد إزداد المكون الأخير بمبالغ السندات او الحوالات التي أصبحت بحيازة البنك المركزي إضافة على ما كان لديه. إن زيادة الأساس النقدي في جانب الموجودات من الميزانية العمومية للبنك المركزي تقابلها حتما في جانب المطلوبات زيادة، في إحتياطيات المصارف المودعة لديه او العملة المصدرة منه.
ويصبح العجز في هذه الحالة زيادة صافية نهائية في الطلب تترتب عليها زيادات أخرى. وعندما يتجاوز الطلب الكلي النهائي حدود الطاقة الأنتاجية على المستوى الوطني يرتفع المستوى العام للأسعار بنسبة أعلى من التضخم الأعتيادي، وايضا إحتمال زيادة المستوردات بمقدار كبير نسبيا يقترن بعجز في ميزان المدفوعات. ولذلك يشتد التحذير في دول الأقتصاد الأعتيادي من تنقيد الدين الحكومي دون التأكد من وجود طاقة إنتاجية فائضة والأطمئنان الى وضع ميزان المدفوعات الخارجية.
ولذا فإن القاعدة العامة في دول الأقتصاد الأعتيادي تمويل العجز بقروض \حقيقية\ أي من القطاع الخاص، وبهذا المعنى، يُقتطع مقدار العجز من إدخار القطاع الخاص. ومع ذلك، ايضا، قد يؤدي تمويل عجز الموازنة العامة بالأقتراض الى زيادة الطلب الكلي، زيادة صافية، في حالة عدم استعداد القطاع الخاص للأستثمار بما يكفي لأستيعاب الأدخار عند عدم الأقتراض الحكومي. ولذا ساعد إقتراض الحكومة من القطاع الخاص على زيادة مجموع الأنفاق المحلي في تلك الحالة. وعلى فرض ان الحكومة لم تقترض من القطاع الخاص والأستثمار لا يستوعب كل الأدخار فالنتيجة هي الفائض في ميزان المدفوعات الخارجية.
بيد ان الأطلاع على الميزانيات العمومية للبنوك المركزية في دول متقدمة، مثل الولايات المتحدة وكندا واليابان، يؤكد مزاولة تلك الدول لتنقيد الدين الحكومي. ويتضح ان ديون البنوك المركزية على حكومات تلك الدول لا يستهان بها، مُبيّنة في محلها. ولم تتسبب تلك السياسة بتضخم مرتفع وذلك لأن الطاقة الأنتاجية، هناك، تسمح باستيعاب الطلب الأضافي أو لتعويض نقص الطلب من القطاع الخاص أصلا، كما تقدم، أو كليهما.
وهنا من المفيد التذكير بالمتطابقة ذات العلاقة على المستوى الأقتصادي الكلي وهي:
فائض القطاع الخاص + فائض القطاع الحكومي= فائض ميزان المدفوعات الخارجية الجارية
والعجز هو فائض سالب؛ وبذلك يكون فائض الميزان الخارجي صفرا، اي في حالة توازن، فقط عندما يكون فائض القطاع الخاص مساويا بالضبط لعجز القطاع الحكومي أو بالعكس، او كلاهما في حالة توازن. والمقصود حسابيا بفائض القطاع الخاص زيادة ادخاره على استثماره، ونفس التعريف لفائض القطاع الحكومي، وعجزه بإشارة معاكسة. أما فائض ميزان المدفوعات الخارجية الجارية فهو زيادة الصادرات على الاستيرادات من السلع والخدمات، مضافا إليها صافي تحويلات الدخل من وإلى الخارج؛ ونفس التعريف لعجز الميزان الخارجي بعكس الأشارة. تلك المتطابقة صحيحة دائما وابدا ومتحققة في أي إقتصاد بغض النظر عن خصائصه وسياساته.
ولذلك من المستغرب إنشغال ذوي الأهتمام والمسؤولية بعجز او فائض الموازنة العامة دون الأكتراث بالتوازن الخارجي وهو ما تعتني به كل الحكومات أولا. ولا أهمية لعجز الموازنة العامة أوفائضها إلاّ بالتوازن الخارجي إضافة على التضخم، زيادة الطلب الكلي فوق حد الطاقة الإنتاجية، والبطالة، قصور الطلب الكلي عن تشغيلها بالكامل.
ثالثا: إن إيرادات الموازنة العامة في العراق هي صافي قيمة صادرات النفط، وليست مقتطعة من دخل القطاع الخاص، ولذا فإن زيادتها او انخفاضها مستقلة عن دخل القطاع الخاص. أي ان عجز الموازنة العامة في العراق لا يأتي نتيجة لزيادة الأنفاق أو خفض الضرائب. وليس له المضمون المتعارف عليه في النموذج النظري للأقتصاد النمطي. وتعتمد آثار تمويل عجز الموازنة العامة في العراق على حجم الأنفاق الحكومي منسوبا الى المستوى المسموح به عند الأستخدام الكامل، ووفرة العملة الأجنبية لتمويل المستوردات*.
ان إيرادات النفط هي مقبوضات العراق بالعملة الأجنبية والأخيرة بطبيعتها تستخدم في الخارج لتمويل إستيرادات ومدفوعات اخرى للوفاء بالتزامات تجاه الأجانب، وليست لها وظيفية داخلية. والرواتب ومبالغ المشتريات المحلية تدفع من قيمة مبيعات تلك العملة الأجنبية الى البنك المركزي، وهنا الفارق الجوهري في فهم الموضوع. لأن بيع العملة الأجنبية الى البنك المركزي يعني إعادة تحويلها لأداء وظيفتها الطبيعية في الخارج والتي تتمثل في:
- تمويل إستيرادات القطاع الخاص من السلع والخدمات، والأخيرة ليست فقط مبالغ الشحن والتأمين على المستوردات، واجور خدمات القنوات المصرفية الأجنبية لتسهيل التجارة الخارجية، وخدمات استشارية او ما يماثلها، بل السياحة والعلاج، والدراسة، في الخارج وغيرها.
- تحويلات دخل لأسر عراقية مقيمة في الخارج؛ وتحويلات دخل لأفراد اجانب وشركات اجنبية عاملة في العراق.
- إستثمارات للقطاع الخاص في الخارج: في العقار والأسهم وودائع مصرفية وسواها.
- عملة أجنبية تحتفظ بها الأسر العراقية في الداخل وهي بحكم الأستثمار في الخارج لأنها مطلوبات على جهات أجنبية وهو تعريف الأستثمار الأجنبي.
- وعندما تفيض العملة الأجنبية المحولة من وزارة المالية الى البنك المركزي عن إحتياجات القطاع الخاص آنفا يضاف الفائض الى الأحتياطيات الدولية للبنك المركزي، وهي إستثمارات رسمية عراقية في الخارج: سندات وحوالات دول اجنبية وودائع في مصارف أجنبية وعملة أجنبية في خزائن البنك المركزي؛ والذهب النقدي. اما عند قصور تحويلات وزارة المالية عن طلب القطاع الخاص للعملة الأجنبية تستنزف الأحتياطيات الدولية للبنك المركزي بمقدار الفرق.
مما تقدم تتضح الأهمية المحورية للميزان النقدي الحكومي بالعملة الأجنبية. فعندما تنخفض إيرادات الصادرات تنخفض أيضا مبيعات وزارة المالية من النقد الأجنبي، وتتجه للأقتراض الداخلي، وفي نفس الوقت تتقلص الأحتياطيات الدولية للبنك المركزي لسد الفرق بين طلب القطاع الخاص وما تحوله الوزارة الى البنك. إن المدى الزمني الممكن لأستمرار تمويل العجز بقروض داخلية يعتمد على معدلات إستنزاف الإحتياطيات الدولية للبنك المركزي. اما التضخم فليس له إعتبار في تحديد حجم الأنفاق أيام العجز لانه أصلا دون المستوى الذي تسمح به الطاقات الأنتاجية وعرض القوى العاملة. التضخم يستأنف أهميته الحاسمة في تحديد حجم الأنفاق الحكومي، معياريا، وقت الارتفاع الأستثنائي في موارد النفط كما حصل بعد عام 1974 وبعد عام 2004. وفي الواقع ليس من تقاليد عمل وزارة المالية الأكتراث بالأطار الأقتصادي الكلي للأنفاق العام، وتأتي حركة المستوى العام للأسعار التي يعبر عنها التضخم ضمن هذا الأطار، بل قيمة إيرادات النفط بالعملة الوطنية هو كل ما يعنيها عمليا. ولم تنجح وزارة التخطيط في ربط الموازنة العامة بإطار إقتصادي كلي، رغم ان هذه المهمة هي التي وجدت الوزارة من أجلها مع البرنامج الأستثماري الحكومي.
رابعا: من جهة أخرى ان ربط الأنفاق الحكومي بإيرادات النفط، ربطا ميكانيكيا، يتضمن انفصام الموازنة العامة عن مجريات الأقتصاد الوطني، لأن تلك الأيرادات لا تنبثق عنه، مثل الدول الأعتيادية الأخرى، بل تحكمها عوامل سوق النفط وهو سلعة اولية مثل غيرها من هذا الصنف Primary Goods التي من خصائصها التذبذب والتقلب العنيف في أسعارها. ولذلك لا بد من ربط الأنفاق الحكومي بمنظِّمات أخرى، كما تبين. ولا يتسع المجال في هذه المذكرة المختصرة لإضاءة هذا الجانب تفصيلا بما يستحقه*.
وأرجو ان ابين باختصار واستكمالا لما جاء آنفا أن الأنفاق الحكومي المناسب إقتصاديا في العراق يحكمه عاملان:
الأول، يتمثل في القدرة على تلبية الطلب على العملة الأجنبية المشتق من الطلب الكلي، وللأنفاق الحكومي الدور الحاسم في تحديده، لأن التناسب بين كل الطلب وذلك الجزء الحيوي منه، الأنفاق الحكومي، لا يمكن إغفاله. وعند إنحسار موارد النفط تُستنزف الأحتياطيات الدولية للبنك المركزي تدريجيا للسبب المبين. ودائما وابدا تتحرك الاحتياطيات الدولية عكس ميزان المدفوعات تنخفض أيام العجز وترتفع أيام الفائض، ولهذا وجدت لأمتصاص الصدمات، الزيادة المفاجئة في موارد العملة الأجنبية أو إنخفاضها الحاد. وهنا لا بد من العناية المنهجية بالمدى الذي تسمح به الأحتياطيات الدولية للبنك المركزي لإدامة هذا المستوى من الأنفاق الحكومي او ذاك. والنظر في هذا القيد مليا يكشف عن المسار الضروري للتنمية الأقتصادية في الأمد البعيد، لأن نمو كلّ من الاستيرادات والمدفوعات الخارجية الأخرى وألأنفاق الحكومي أسرع عادة من نمو الناتج المحلي الأجمالي. بيد ان هذه المسألة تخرج عن حدود هذه المذكرة ومتعلقها إدارة الأنفاق الحكومي بالموازنات النقدية Cash Budget.
أما الثاني، فهو الطاقة الإنتاجية للاقتصاد الوطني في نطاق السلع والخدمات غير المتاجر بها اي المحلية بطبيعتها. وكلما إزداد الطلب الكلي المحفز بالأنفاق الحكومي واقترب الأقتصاد أكثر فاكثر من حدود تلك الطاقة الأنتاجية يرتفع التضخم الفعلي، فالتضخم هو المقياس لمدى إقتراب الأقتصاد الوطني من حدود طاقته الأنتاجية. ومع ارتفاع التضخم الفعلي يرتفع كذلك التضخم المتوقع والذي يؤثر كثيرا في القرار الأقتصادي للمتعاملين في الأسواق بما فيها سوق الصرف. ونؤكد مرة أخرى ان التضخم لا يمثل قيدا على الأنفاق خلال الزمة الأخيرة، انهيار سعر النفط في آذار، مارس، 2020.
وما دام الأنفاق الحكومي ضمن نطاق الإمكانية المحددة بالعاملين المذكورين، فلابد للأدارة الأقتصادية من تمويله وهو ممكن. اما عندما يتجاوز حجم الأنفاق المقترح نظاق الأمكانية، بالتعريف آنفا، فمن الخطا الترويج لتمويل المقدار الزائد عن الحد لأن في ذلك ضرر للأقتصاد، وربما يقود الى إرباك تترتب عليه مشكلات سياسية وإجتماعية.
ان إدارة الموازنة في الأمد القصير تبقى ضمن هذه المقاربة. ومن الأفضل التمييز المنهجي بين هذه المهمة والتنمية الأقتصادية ومسار الأقتصاد العراقي في الأمد المتوسط والبعيد فتلك قضية أخرى يحكمها منطق مختلف وأدوات مغايرة.
المصادر :
* العلاقة بين الأنفاق الحكومي في العراق، والعجز وتمويله، ومستوى الطلب الكلي والتضخم والتوازن الخارجي مشروحة للكاتب في:
((1 الأنفاق الحكومي والتضخم (1991) أعيد نشره ضمن كتاب \ دراسات في الاقتصاد العراقي: استئناف النهوض لتعويض الفرص الضائعة، دار الكتب، كربلاء، 2013.
(2) الفصل الثاني من كتاب \ الاقتصاد المالي الدولي والسياسة النقدية، مركز حمورابي، 2012.
(3) كتاب التمويل وسوق الصرف والتنمية في اقتصاد نفطي، ط2، دار الايام للنشر والتوزيع، عمان، 2018.