لتلافي الخطر القادم: إيران بحاجة الى تغيير استراتيجيتها الدولية

تحتاج جمهورية إيران الإسلامية في الوقت الحاضر الى الالتفات بعناية الى المتغيرات الجديدة في بيئتها الإقليمية والدولية؛ لأنها وصلت الى مفترق طرق يتطلب منها تغيير قواعد اللعبة من خلال اعتماد استراتيجية جديدة تضمن مصالحها ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط، لماذا؟ استراتيجية الاندفاع والازاحة لم تعد مناسبة اتبعت ايران منذ سقوط نظام البعث في العراق عام 2003 سياسة خارجية شرق أوسطية يمكن ان نسميها باستراتيجية الاندفاع والازاحة: الاندفاع لمليء الفراغ الحاصل في بعض المناطق الهشة والحيوية، والازاحة بإضعاف الخصوم واخذ مكانهم بشتى السبل، فعملت على تأسيس مجموعة من التنظيمات السياسية والعسكرية التابعة لها في دول عدة يمكن تحريكها عند الحاجة للتأثير في قرارات تلك الدول سواء في العراق ام سوريا ام لبنان ام اليمن ام أفغانستان ام البحرين وبدرجة اقل في السعودية والكويت وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، ووصل الامر بها الى البحث عن مواطئ قدم لها في قارتي افريقيا وامريكا اللاتينية، هذا من جانب، ومن جانب آخر حرصت على إيصال اصدقائها وحلفائها الى قمم السلطة في بعض البلدان، وان يكون لها صوتا مسموعا في إيجاد الحلول او خلق الازمات هنا أو هناك داخل المنطقة، كما لعبت دورا حاسما –يحسب لها- في الدفاع عن اصدقائها الذين واجهوا خطر السقوط، وكان دورها مهما في افشال مشروع داعش الإرهابي بما قدمته من مساعدات عسكرية وبشرية للحكومة العراقية في احرج ظروفها. إضافة الى ما تقدم، لعبت الثقافة الإيرانية، دورا مهما في التأثير على الكثير من الناس خلال هذه السنوات، سواء من خلال البرامج الاكاديمية والفنية المشتركة او من خلال وسائل الاعلام الموجهة... لقد نجحت استراتيجية الاندفاع والازاحة الايرانية نجاحا باهرا في توسيع مناطق نفوذ إيران في المنطقة، وفرضت نفسها كقوة إقليمية كبرى جديرة بالاحترام، يقف خصومها الإقليميون امامها مشدوهين حائرين، فيما يضطر اعدائها الدوليون الى اللعب وفق شروطها –في بعض الأحيان- من اجل تقاسم المصالح معها او تجنب اثارتها، واصبح لها كلمتها المسموعة في ملفات حساسة عدة ابتداء من ملف الإرهاب مرورا بملف الصراع مع إسرائيل وصولا الى ملف التوازنات الإقليمية والدولية... لكن هذه الاستراتيجية الايرانية وصلت في الثلاث او اربع سنوات الأخيرة الى ذروتها في تحقيق المصالح الإيرانية العليا، وبدأت تفرز نتائج سلبية خطيرة، فالصراع الإيراني المستميت مع السعودية وتركيا وحلفائهما خرج عن المقبول، لاسيما مع ذهاب هذه الأطراف الى حد انتاج تنظيمات متطرفة إرهابية كتنظيم داعش، وانخراطها في صراع دموي لا يرحم في سوريا والعراق واليمن ... ترتب عليه استنزاف خطير للموارد البشرية والاقتصادية، وزيادة في حقول الاشواك التي يضعها كل طرف في مناطق نفوذ الطرف الآخر، فوصل الامر-إيرانيا على الأقل- ان تأتي روسيا بكل ثقلها للتدخل في النزاع السوري باسم التحالف المشترك مع ايران وسوريا، ولكن لا يخفى على المحلل الاستراتيجي ان كل تعاظم في الدور الروسي الشرق أوسطي، يترتب عليه- تدريجيا وعلى المدى الطويل- إزاحة لإيران من مناطق نفوذها الحيوية، ولعل إجراءات ومخرجات مؤتمر استانا 1 واستانا2 في كازاخستان تشير بوضوح الى تخلف الدور الإيراني خلف روسيا الداخلة بقوة الى المنطقة تحت قيادة بوتين الطامحة لإعادة امجاد روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي السابق. كذلك من النتائج السلبية لهذه الاستراتيجية، أن الضغط الإيراني الشديد على الخصوم الإقليميين، وعجزهم عن المطاولة بدأ يدفع الأمور باتجاه زيادة تقاربهم مع إسرائيل لا حبا بها احيانا، وانما استقواء بها على إيران تحت قاعدة عدو عدوي صديقي. وفي الجوار الجغرافي القريب ، أي العراق، افتقرت استراتيجية الاندفاع والازاحة الإيرانية الى الحكمة، او ربما لم تكن تمتلك الأدوات المناسبة، للضغط على الحلفاء العراقيين لحملهم على ترك مشروع بناء السلطة ودفعهم باتجاه مشروع بناء الدولة، فكانت النتيجة حكومة عراقية ضعيفة، فيها اطراف متعددة قريبة من ايران، لكن معظمها مشاكسة وغير متفقة فيما بينها، والحقيقة التي لم يدركها بعمق صانع القرار الإيراني الخارجي هي أنه كلما ازدادت حكومة بغداد ضعفا وعدم استقرار، كلما كانت ايران غير مستقرة وغير آمنة الان وفي المستقبل. واذا تركنا النتائج السلبية الخارجية للاستراتيجية الإيرانية الحالية وذهبنا الى نتائجها السلبية على الداخل الايراني، سنجد ان المواطن الإيراني البسيط أخذ يدفع ثمن الاندفاع الإيراني الخارجي؛ بسبب استنزاف طاقاته الاقتصادية والبشرية في صراعات خارجية عقيمة لا نهاية لها، وانعكاسات ذلك الخطيرة على بنيته التحتية، وعلى سلة غذائه اليومية، ومتطلبات معيشته الأخرى، ولا يظن صانع القرار الايراني بأن هذا هو الثمن المطلوب لتحقيق الأمن ، فالأمن الحقيقي لأية دولة هو أمن مواطنيها، وشعورهم بالكرامة فيها، وقوة الدولة الخارجية مهما تعاظمت لا يمكنها ضمان مصالحها ما لم يكن لديها مواطن يشعر بالكرامة والحرية والرفاه، وتجربة الاتحاد السوفيتي السابق القريبة خير دليل على ما نقول. استراتيجية الشراكة الإقليمية حان وقتها إيران مضطرة اليوم الى التخلي عن استراتيجية الاندفاع والازاحة لمصلحة ما نسميه باستراتيجية الشراكة الإقليمية لقيادة منطقة الشرق الأوسط؛ بسبب وجود مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة التي يجب ان تكون محل إدراك صانع قرارها ومنها: 1- تعاظم الدور الروسي في المنطقة، بشكل بات يهدد مناطق النفوذ الإيرانية التقليدية، مستفيدا من استمرار الازمات في قوس الازمات الاقليمي، وستكون لروسيا – اذا ما استمر تنامي نفوذها بهذه الوتيرة-الكلمة الفصل مستقبلا على إيران وحلفائها الإقليميين. 2- نشاط السياسة الخارجية الإسرائيلية ومحاولاتها المستمرة لطرح نفسها كحليف قوي لبعض حكومات المنطقة يمكن الاستعانة به للوقوف بوجه إيران وطموحاتها الإقليمية، وقد باتت هذه السياسة تؤتي ثمارها هنا وهناك. 3- زيادة ردود الفعل الشعبية الاقليمية المنددة بالصراع الإقليمي العبثي، وتحميل جميع الأطراف ومنهم إيران المسؤولية عن استمراره، وهذا الحراك بحد ذاته يمثل خطرا حقيقيا ينزع الشرعية عن أية سياسة خارجية مهما كانت دوافعها وأسبابها. 4- قيادة ترامب للولايات المتحدة الامريكية: يخطأ صانع القرار الإيراني اذا تجاهل أو قلل من خطر وصول قائد شعبوي متشدد الى قيادة اكبر دولة في العالم، فهذا الرجل حمل منذ بداية حملته الانتخابية شعارات معادية لإيران ابتداء من رغبته في نسف الاتفاق النووي معها مرورا بزعمه رعايتها للتطرف والإرهاب الاسلامي في العالم وصولا الى تأكيده على تعزيز التعاون مع حلفاء أمريكا الإقليميين ومنهم إسرائيل والسعودية، وهو مسكون بهوس الرجل القوي الذي يفعل ما يقول ، منتقدا سلفه "اللطيف" أوباما، وكل من يقف بوجه مصالح الولايات المتحدة الامريكية. وهكذا رجل كان عاشقا لصالات المصارعة، سيجد متعة كبيرة لإثبات قوته من خلال استفزاز ايران ومعاقبتها، وسيبدأ ذلك من خلال تعزيز ثقة الحلفاء بأمريكا ليس في الشرق الأوسط، بل وفي كل مكان، وفيما يخص الشرق الأوسط، فانه سيفعل ذلك من خلال ضرب داعش والتنظيمات الإرهابية من جهة، واتخاذ إجراءات صارمة اتجاه حلفاء ايران من الدول والتنظيمات من جهة أخرى، وربما سيكرر فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني سيناريو ملف المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل العراقية في عهد صدام حسين، لإفراغ الملف من محتواه واستفزاز ايران في عقر دارها ليضطرها الى اتخاذ خطوات تصعيدية تكون حجة لأمريكا لفرض مزيد من العقوبات عليها. ان ترامب الراغب في فرض هيبة أمريكا من جديد-حسب زعمه-وحماية مصالحها لن يفعل ذلك بمواجهة مجهولة العواقب مع قوى كبرى كالصين وروسيا، لكنه سيحاول ارسال رسالة قوية –قدر الإمكان-الى الصين وروسيا وغيرهما من خلال إيران، وهذا الوضع الخطير يتطلب عدم تكرار أخطاء صدام حسين إيرانيا، فالحذر مطلوب جدا في هذه المرحلة. 5- وجود رغبة عربية بالتصالح مع ايران: ان شعور العرب في المنطقة بخطر المواجهة الامريكية –الإيرانية المحتملة، وتوقع حجم اضرارها على سلامة بلدانهم يدفعهم اليوم الى التعقل في خطابهم؛ لرغبتهم في تجنب هذه المواجهة بشتى السبل، وما مواقف السعودية الأخيرة التي عبر عنها وزير خارجيتها عادل الجبير في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني-يناير الماضي بقوله " ايران دولة مجاورة، دولة إسلامية، وفي نهاية المطاف من الأفضل لنا ولهم أن يكون التعايش فيما بيننا تعايش سلمي وأن لا يكون هناك اختلافات، ولا يكون هناك مواجهات، ولكن اليد الواحدة لا تصفق"، وزيارة وزير خارجية الكويت الشيخ صباح خالد الحمد الصباح الى ايران في الخامس والعشرين من نفس الشهر ولقائه بأقطاب صنع القرار الايراني حاملا رسالة من أمير الكويت عبرت عن وجود رغبة حقيقية لدى دول الخليج " في أن تكون علاقاتها مع طهران طبيعية، ومعتمدة على القانون الدولي" الا مؤشرات إيجابية لهذا الخطاب الجديد، ولكن على ايران ان تفهم الرسالة، وتستثمرها باهتمام. مرتكزات استراتيجية الشراكة الإقليمية ان المرتكزات الحقيقية لأي استراتيجية فاعلة للشراكة الإقليمية يجب أن تقوم على: 1-حماية السلم والامن الإقليميين، وجعلهما أولوية قصوى في علاقات إيران الخارجية، وكذلك علاقات الاخرين معها. 2-تعزيز بناء الدولة في المنطقة، ومواجهة كل المحاولات التي تروم اضعاف سلطتها وشغل فراغها سواء جاءت من تنظيمات إرهابية ام من دول اجنبية. 3-مد جسور الثقة بين الشعوب والحكومات؛ لتعزيز التعايش بينها وتحقيق المصالح المتبادلة. 4-إيجاد صيغة للأمن الإقليمي تشمل إيران وشركائها الإقليميين قد تكون تحت مظلة منظمة إقليمية للأمن شبيهة بحلف الناتو، تقتصر العضوية فيها على دول المنطقة وتتوزع فيها الأدوار بين الدول على قدم المساواة، نعم هذه المهمة قد تكون صعبة ولكنها ليست مستحيلة. أدوات تحقيق استراتيجية الشراكة الاقليمية من الخطوات المهمة التي يجب ان تقوم بها إيران وبقية الأطراف الإقليمية لإنجاح استراتيجية الشراكة الإقليمية هي: - حل النزاعات الساخنة في المنطقة او تهدئتها الى اقصى حد، لاسيما النزاعات في اليمن، وسوريا، والعراق، والبحرين وغيرها؛ لأن استمرار هذه النزاعات يقود الى مزيد من التدخل الدولي: الروسي والامريكي على حساب مصالح دول المنطقة. - الإيقاف الفوري للخطاب الطائفي والقومي المتطرف الذي يزيد الشرخ بين حكومات وشعوب المنطقة ويدفع الى مزيد من العنف والإرهاب، فبدء صفحة جديد من الخطاب المعتدل سيكون خيارا صحيحا لتعزيز الاحترام والثقة المتبادلة. - ابعاد المتطرفين عن المراكز الحساسة في الدولة، واختيار شخصيات تكون أكثر حكمة وقدرة على تمثيل المصالح وتحقيق الأهداف بدون اثارة مشاكل. - الشراكة عبر المصالح الاقتصادية والتبادل الثقافي أفضل كثيرا من الشراكة عبر السلاح، فالأخيرة تثير المشاكل وباهظة الثمن وقصيرة الاجل، بينما الأولى توسع فضاء الحوار، وتعمق الترابط، وتكون أطول عمرا وأكثر فائدة، وعلى إيران وجيرانها اتخاذ خطوات حقيقية لخلق هكذا شراكات مهمة. - منع الأطراف المحسوبة على إيران في دول المنطقة وبالعكس من اثارة المشاكل التي تهدف الى زيادة الاحتقان والاستقطاب الإقليمي، اذ على إيران وبقية دول المنطقة أن تدرك ان وجود خصم عاقل أفضل بأضعاف كثيرة من وجود حليف مشاكس يثير المشاكل، ويخلق الازمات. - سياسة الأفعال لا الاقوال: عندما التقى وزير خارجية الكويت بالرئيس الإيراني حسن روحاني في طهران مؤخرا، اخبره الأخير أن سياسة ايران الخارجية" ترتكز على إرساء مزيد من العلاقات القائمة على الصداقة والأخوة مع الدول المسلمة والجيران، وذلك وفقا لأسس الاحترام المتبادل وحسن الجوار والأخوة الإسلامية"، وعندما زار روحاني عمان والكويت في السادس عشر من شباط-فبراير الجاري قال: " لا ضمان لأمن المنطقة سوى بتحمل بلدان المنطقة المسؤولية والتعاون الإقليمي... على دول المنطقة العمل سوية مع بعضها البعض لإرساء دعائم الامن والاستقرار" وهذا الكلام بحد ذاته جميل وصحيح، وتكاد تسمعه في مرات عدة من هذا المسؤول السياسي أو ذاك في المنطقة، ولكن المهم هو ان يجد هذا الكلام طريقه الى التنفيذ على ارض الواقع، فبدون التطبيق ستبقى كل التفاهمات والشعارات مجرد حبر على ورق.
التعليقات
تغيير الرمز