تعد السلطة في العراق لعبة خطرة تلعبها الكثير من القيادات السياسية مدفوعة بطموحات شخصية وحزبية هدفها الاستحواذ عليها، بصرف النظر عن الوسائل، والبقاء فيها الى الابد مهما كانت الظروف. ولا يستثنى من هذا الحكم القاسي القيادات السياسية التي جاءت بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003، على الرغم من الآمال العريضة التي تم اطلاقها في هذه المرحلة باسم الحرية، والديمقراطية، وسيادة القانون، وتفعيل دور المؤسسات الدستورية...
ويكشف تحليل طريقة إدارة السلطة في هذه المرحلة انها ترتكز على عدد من الحقائق المزعجة التي تعيد تكرار أخطاء الماضي، وتعرقل المسار الديمقراطي، وتمنع تشكيل مؤسسات دستورية قوية وفاعلة والتغيير، ومن أبرز هذه الحقائق هي:
- معاداة النجاح وعرقلة طريق الناجحين من الساسة والمسؤولين والافراد.
- وجود حساسية عالية لدى القيادات السياسية التقليدية إزاء بروز قيادات جديدة، بسبب رغبتها في احتكار المشهد السياسي، وعدم استعدادها لتقبل وجود لاعب سياسي لا ينضوي تحت عباءتها، اذ انها ترى أي لاعب جديد عدوا يهدد وجودها أكثر منه شريكا سياسيا ينافسها، وتعتقد ان من حقها استعمال كل أدوات الترهيب والترغيب لإزالة خطره والقضاء عليه عند الضرورة.
- عدم احترام القانون، فالقانون يجري تفعيله بما يخدم مصالح القيادات والقوى النافذة، اما عندما يلحق الضرر بها او يعمل خلافا لمصالحها فمن الأفضل تعطيل بنوده، والتغاضي عن مقاصده، ولا بأس أحيانا من الطعن به تحت مبررات عديدة.
- سلطة الدولة لوحدها غير كافية لتحقيق مصالح القيادات السياسية في السيطرة، وترى انه من الأفضل لها امتلاك مليشيا مسلحة توظف مظلة الدولة لاكتساب المشروعية، وتعمل خارجها للحفاظ على الاستمرارية وتوسيع النفوذ، اما القيادة التي لا تمتلك مليشيا مسلحة فهي في العرف السياسي العراقي قيادة مستضعفة، وقليلة الحيلة، ولا يخشاها أحد.
طموح السوداني وحقائق السلطة
ليس الضرب تحت الحزام والحملات الظاهرة والخفية التي يتعرض لها رئيس الوزراء العراقي في الأسابيع الأخيرة والتي وصلت الى حد التهديد بسحب الثقة منه واجراء انتخابات مبكرة مثيرة للدهشة او مفاجئة، فالرجل عندما جرى اختياره قبل سنتين تقريبا لتولي رئاسة الوزراء لم يكن ينظر اليه على انه مصدر تهديد مشابه للتهديد الذي مثله الصدر وحلفائه آنذاك، بل تم النظر اليه كخيار آني لعبور المرحلة، وافشال ما يسمى بمشروع الإصلاح السياسي الذي رفعه الصدر وتياره بعد حصوله على الأغلبية البرلمانية في انتخابات سنة 2021، وحاولت قيادات الاطار التنسيقي الشيعي تصوير السيد السوداني على انه مجرد مدير تنفيذي يتلقى الأوامر منها ولا يسمح له بالخروج عن هذه الأوامر حتى لو كانت مرتبطة بطموحه السياسي، وتم تأطير ذلك بما يسمى بالاتفاقات السياسية، التي لا تعني في النهاية الا بقاء السوداني متقمصا لدور الأخ الأصغر المطيع لإخوته الكبار الذين اوصلوه الى رئاسة الوزراء وعدم تهديد نفوذهم بأي شكل من الاشكال.
ولكن ما يجب ان لا تغفل عنه قيادات الاطار التنسيقي هو ان السوداني لا يقارن بسلفه الكاظمي الذي خرج من السلطة براتبه التقاعدي، وامتياز رئاسته للحكومة العراقية، فالرجل منذ مدة طويلة يحاول حجز بطاقة تواجده في الصف الأول بين القيادات السياسية، وبقائه سابقا في الصفوف الخلفية كان مجرد مرحلة اقتضتها الظروف، وهو بذلك لا يرتكب جرما ما، بل على العكس يفعل ما يفعله أي انسان اخر في موقعه، طالما ان جلوسه على قمة هرم السلطة يتيح له الكثير من الإمكانات والفرص، فللسلطة سحرها وتأثيرها وامتيازاتها، وهذا ما كشفته التجارب التاريخية لأنظمة الحكم العراقية منذ أمد بعيد.
ما نريد قوله هو: ان ما نشهده في هذه الأيام من أصوات متعالية تستهدف الحكومة العراقية ورئيسها ترتبط -للأسف – بما ذكرناه أعلاه من حقائق حول إدارة السلطة في بغداد، فتأثير هذه الحقائق هو الذي يحرك عجلة الدعايات والمواقف المضادة للسوداني، ولا علاقة لما نراه بما يسمى بفشل البرنامج الحكومي او ملفات الفساد والتجسس وغيرها من الملفات المحرجة التي ظهرت مؤخرا، فالخوف من خسارة التأثير والنفوذ السياسي او بعضه لصالح السوداني هو الذي يشكل هاجس القيادات والقوى التي تقف خلف هذه الدعايات والمواقف، وستزداد حدة الهجمة عليه كلما اقتربنا أكثر من الانتخابات البرلمانية القادمة في تشرين الثاني 2025.
ولاية ثانية ام قيادة في الصف الأول؟
يبدو ان السوداني غير مستعد للعب دور الأخ الأصغر، وان تركيزه والمحيطين به على حلم الولاية الثانية لوحده سيكون أمرا غير حكيم، فتجربة الحكم خلال العقدين السابقين أظهرت ان الفوز في الانتخابات لا يكفي لضمان الوصول الى رئاسة الوزراء، وهذا الدرس القاسي تعلمه كل من اياد علاوي ونوري المالكي والتيار الصدري، كما تعلمه بشكل او اخر حيدر العبادي... وعليه ليس امام السوداني سوى استثمار صندوق الاقتراع للانتقال من قيادة في الصف الثاني الى قيادة مؤثرة في الصف الأول، وتحقيق ذلك يتطلب جملة أمور منها:
- ان يثبت السوداني انه رئيس وزراء كامل الصلاحيات، وليس مجرد مدير تنفيذي لقوى الاطار التنسيقي، وهذا ما يجب ان يقنع به المواطن العراقي، والعاملين داخل مؤسسات الدولة، فالناس بفطرتها قادرة على معرفة من هو قائد بنفسه ومن هو منقاد لغيره، وافضل سبيل لتحقيق ذلك هو فرض سيادة القانون على الجميع ومنع الإفلات من العقاب، ومعالجة ملفات الفساد، والسلاح المنفلت، وتخفيف البيروقراطية المبالغ فيها داخل مؤسسات الدولة، وتطوير الأجهزة الأمنية والعسكرية والانتقال بها من مرحلة الامن الغبي الى مرحلة الامن الذكي، وحسن اختيار القيادات الإدارية في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وان تكون إنجازات الحكومة مؤثرة من خلال الواقع لا من خلال الاعلام...
- تشكيل كتلة سياسية مستقلة لخوض الانتخابات القادمة، وتجنب الانخراط في الكتل السياسية التقليدية، فقد اثبتت الاحداث ان كل رئيس وزراء عراقي دخل الانتخابات بكتلة مستقلة نجح في حصاد نصر انتخابي مهم، نتيجة التأثير الذي يكتسبه داخل مؤسسات الدولة والذي يجني ثماره من خلال نتائج التصويت الخاص اولا، ومن خلال الدعم الشعبي الذي يحصل عليه من الجمهور الشغوف برجال السلطة ثانيا، ومن المتوقع في حال دخول السوداني بكتلة مستقلة ان لا تقل المقاعد البرلمانية لكتلته عن 50 مقعا وهذا سيجعل منه رقما صعبا للغاية في تحالفات تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات.
- إدراك قيمة الكورد والتيار الصدري -في حال مشاركته في الانتخابات- في مفاوضات تشكيل الحكومة القادمة، مما يقتضي منه الذهاب مبكرا الى ابرام تفاهمات متينة تقلب صفحة جديدة من العلاقات مع الطرفين، وفي حال حصوله على دعمهم، ودعم بعض القوى السنية والمستقلة فقد يصبح حلم الولاية الثانية امرا ليس مستحيلا.
- عدم خسارة دعم طهران وواشنطن، فقد اثبتت الاحداث ان هاتين العاصمتين هما الفاعلتين الاساسيتين في الشأن السياسي العراقي، وان لا غنى عن التفاهم معهما وكسبهما لدفع ضرر الميل لأحداهما على حساب الأخرى، فضلا على دفع ضرر الخصوم الداخليين الذين يحتمون بإحداهما او كلتيهما للاستقواء على بعضهم البعض، وتحقيق هذا الهدف ليس سهلا ابدا، بل يتطلب مهارة تفاوضية عالية وقدرة اقناع قابلة للتصديق.
- الاحتماء بسلاح الدولة لكبح السلاح المنفلت، فالسوداني ليس اميرا من امراء الحرب، ولا يمتلك مليشيا خاصة به، وإذا شعر خصومه من امراء الحرب بالتهديد فلن يترددوا كثيرا في تحريك سلاحهم المنفلت لخلق الفوضى والاضطراب وخلط الأوراق، وغياب دور الأجهزة الأمنية والعسكرية او ضعفه في اتخاذ موقف المبادرة لردع هذا السلاح المنفلت ستكون نتائجه سلبية للغاية داخل مؤسسات الدولة، ولدى الرأي العام العراقي مما يؤثر كثيرا على حظوظ السوداني في العملية الانتخابية.
- الحذر كل الحذر من تحريك الشارع تحت غطاء احتجاجات شعبية او ما شابه، اذ ستكون هذه الاحتجاجات بمثابة حصان طرواده لإسقاط الحكومة، وتعطيل دورها، وتأثيرها في الرأي العام العراقي، فالفوضى ستكون خيارا مفضلا لشل الحكومة وكبح طموح السوداني لضمان هيمنة القوى التقليدية على مجريات الأمور في العراق، ومنع تفعيل خيار الاحتجاجات يتطلب تجنب استفزاز الرأي العام، والمعالجة المستمرة للمشاكل والأزمات التي يعاني منها العراقيون، ولاسيما فئة الشباب.