الحرب الروسية-الأوكرانية وإعادة حسابات الهيمنة في الشرق الأوسط

في العشرين من يناير 2021 دخل الرئيس بايدن الى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض بصفته الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الامريكية، رافعا شعار " سنعيد اصلاح تحالفاتنا، وسنعمل مع العالم مجددا"، ومتصورا ان تفرغ واشنطن والغرب لمواجهة التحدي الصيني والروسي على الزعامة الدولية سيعني قطعا تراجع أهمية الشرق الأوسط الى مرتبة ثانوية، لاسيما مع الاعتقاد بتقلص أهمية نفط المنطقة، نتيجة زيادة الإنتاج في مناطق أخرى من العالم، ووجود سياسات متفائلة فيما يتعلق بتنمية مصادر الطاقة البديلة. لقد دفعت هذه التصورات واشنطن الى اظهار نوعا من الجفاء لحلفائها الإقليميين، لاسيما في الخليج، فلم تقف موقفا حاسما الى جانبهم في تخفيف ضغط الجمهورية الإسلامية الايرانية عليهم، او في معالجة ملفاتهم الشائكة كالملف السوري، واللبناني، وملف التورط في حرب اليمن، وغيرها، بل انها لم تتعامل بجدية حتى مع قصف الحوثي لمنشآت أرامكو الحيوية، فلم تعده تهديدا لأمن الطاقة العالمي. ترافق ذلك المسار مع تعالي الحديث في واشنطن والغرب عن قضايا حقوق الانسان في المنطقة، حيث ساد الاعتقاد لدى الكثيرين من الحلفاء الاقليميين انهم تراجعوا من مرتبة حلفاء الى مجرد شركاء، وان مصالحهم يجري تجاهلها والتضحية بها، بل ولم يتم احترامها في سياسات الغرب وترتيباته الجارية في المنطقة.

ولكن اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أواخر شباط-فبراير 2022 كشف خطأ الحسابات الدولية في التعامل مع الشرق الأوسط، اذ بان جليا ان سياسات الطاقة البديلة لا زالت في بدايتها وتحتاج –على الأقل- الى عقدين من الزمن لتؤتي ثمارها، وان مواجهة التحدي الصيني والروسي لن يتم بمعزل عن موقف استراتيجي داعم من الحلفاء في الشرق الأوسط، وان اي تنازل او اهمال لموقف الحلفاء لحساب طهران او غيرها من الدول المتحدية او الرافضة للهيمنة الغربية الدولية، لن يكون خسارة لمصالحهم فحسب، بل هو في المحصلة النهائية انتصارا وقيمة مضافة تعطي الارجحية لموقف بكين وموسكو، فضلا على ادراك ان الابتزاز الروسي للغرب في ملف الطاقة لا يمكن مواجهته بمعزل عن زيادة انتاج النفط والغاز من الشرق الأوسط. لقد سعت واشنطن وحلفائها الغربيين منذ بداية الحرب وبشتى السبل إقناع الرياض وأبو ظبي بزيادة انتاجهما من النفط بمعزل عن مقررات مجموعة أوبك+، ولكنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا، حتى بات هذا الفشل موضع تندر في واشنطن، وصور الاعلام الأمريكي وبعض الساسة هناك الرئيس بايدن كمتسول مثير للشفقة ترفض الرياض مساعدته.

وهذه الحقائق المستخلصة من الحرب الروسية-الأوكرانية رفعت قيمة الحلفاء الشرق اوسطيين في موازين الهيمنة الدولية، وفهمت الولايات المتحدة ان مواقف حلفائها الإقليميين غير المنحازة الى جانبها في الحرب سببها الرئيس فقدان ثقتهم بها كحليف موثوق به نتيجة سياساتها السابقة تجاههم، والناجمة عن خطأ في الحسابات، وهي على اطلاع تام بهواجسهم، وحديثهم، سرا وجهرا، عن خيانتها لهم ، في وقت جعلتهم يعتقدون انها تراهم مجرد تابعين قابلين للخضوع لمطالبها متى ما ارادت ذلك، ولا يخفى عليها شعورهم بالخذلان منها حيث يرددون بحسرة: ان الساسة في واشنطن عندما يريدون منهم شيئا يتوقعون تنفيذه فورا، ولكنهم عندما يحتاجون واشنطن تبدأ بالتسويف والمماطلة وتجاهل حاجاتهم ومصالحهم.

ان أهمية الشرق الأوسط المتصاعدة في الصراع  الدولي الجديد، وحاجة واشنطن الى دعم الحلفاء الإقليميين، لاسيما الخليجيين، لحسمه لمصلحتها ادركته عواصم إقليمية ودولية أخرى، فها هو الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ذاهب نحو فتح صفحة جديدة من العلاقات الإقليمية بدأت بالتقارب مع تل ابيب والقاهرة وانتهت بإنهاء خمس سنوات من القطيعة مع الرياض التي زارها في الثامن والعشرين من شهر نيسان-ابريل الماضي، وسيستمر هذا المسار الذي حتمته مصالح انقرة الاستراتيجية وستظهر انعكاساته في سياستها الخارجية اتجاه قضايا المنطقة في المدى القريب والمتوسط والبعيد. اما موسكو من طرفها، فقد التفتت –أيضا-الى هذا الأمر، وبدا ذلك واضحا من خلال الاتصال الذي اجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في السادس عشر من نيسان-ابريل الماضي، وجرى فيه التأكيد على ضرورة العمل المشترك بين الطرفين في إطار مقررات أوبك +، كما عملت موسكو على تعزيز هذا التوجه من خلال زيارة وزير خارجيتها السيد لافروف الى سلطنة عمان في الحادي عشر من أيار-مايو الجاري حيث أعلن من هناك عن عدم رغبة بلاده بما سماه "الحرب في أوروبا"، وان الغرب هو من يريد "هزيمة روسيا". وعلى الرغم من قوله: ان روسيا" لديها ما يكفي من المشترين لمواردها من الطاقة خارج نطاق الدول الأوروبية" الا أن الشيء الذي لا يمكن انكاره هو تخوف موسكو المبرر من فكرة ان يكون نفط الشرق الأوسط بديلا عالميا لنفطها، لذا فهي وان لم تكن ترجو جذب حلفاء واشنطن الإقليميين الى صفها في الحرب، فإنها تحاول بشتى الطرق الإبقاء على حيادهم وعدم اتخاذهم خطوات تضر بمصالحها الدولية.

وهذا الدور الذي يلعبه الشرق الأوسط في حسابات الهيمنة الدولية الجديدة سيترك تأثيره الكبير على سياسات القوى الكبرى المستقبلية اتجاه المنطقة، لا سيما بالنسبة لموسكو وبكين والغرب، ولذا تجد ان واشنطن التي كانت تسعى لعقد صفقة نووية بأي ثمن مع طهران حتى باتت في لحظة ما قاب قوسين او ادنى من اتمامها، لم تعد بهذا الاندفاع؛ لأنها شعرت بضرورة عدم تجاهل مواقف حلفائها الإقليميين، وبدأت تأخذ هواجسهم بنظر الاعتبار، وهي غير مستعدة للتضحية بهم لمصلحة طهران، وعلى الأخيرة ان تضع ذلك بعين الاعتبار، فتدرك انها امام مشهد دولي جديد يتطلب اللعب وفقا لقواعده، فتميل الى التهدئة في علاقاتها الإقليمية وتحرص على تبديد مخاوف دول المنطقة من سياساتها الخارجية اذا ارادت التوصل الى صفقتها النووية المنشودة مع الغرب. ومن المتوقع –كذلك-ان تتبع واشنطن سياسة خارجية أكثر توازنا بين القيم والمصالح في التعامل مع قضايا حقوق الانسان في المنطقة، وستساند، عند الضرورة، رواية الأنظمة الحاكمة في التعامل مع شعوبها، فهي في النهاية تريد حلفاء أقوياء مستقرين وداعمين، أكثر مما تحتاج الى شعوب هائجة معادية او حلفاء ضعفاء خائفين. وسيعني هذا فيما يعنيه انه سيكون من الأفضل لواشنطن في المدى القريب بذل جهود أكبر لمساعدة حلفائها في مواجهة ملفاتهم الشائكة، وسيتطلب ذلك من الأطراف الغارقة في هذه الملفات ان تكون أكثر استعدادا وحرصا على تبني سياسات واقعية أكثر حكمة لحسمها سياسيا، فظهورهم بمظهر المعاند لأي حل سياسي لن يكون مفيدا لمصالحهم؛ ففي ظل استقطاب دولي شديد يمد جناحيه على العالم، سيكون من الخطأ على اللاعبين الصغار اظهار أنفسهم كشوكة في طريق اللاعبين الكبار، فهذا لن يكون مسموحا به من قبل الكبار وستكون عواقبه وخيمة للغاية.

على أي حال، شئنا ام ابينا، الشرق الأوسط والعالم دخل الى مرحلة جديدة من حسابات الهيمنة الدولية ستكون تحدياتها وتهديداتها ومخاطرها مفتوحة على جميع الاحتمالات، وان ما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية لن يكون كما كان قبلها اطلاقا، وعلى الجميع ان يفهم ذلك، ويتصرف على أساسه. 

التعليقات
تغيير الرمز