البنك المركزي وتأمين جسور التمويل في العراق

ألزمت الازمة المالية التي خلفها انهيار اسعار النفط الخام منتصف العام 2014 ادارة البنك المركزي العراقي على انتهاج مقاربات جديدة تفصح عن ابعاد متعددة الاهداف والمهام استجابة للتحديات التي يشهدها الاقتصاد العراقي من جهة وتناسباً مع التطورات التي طالت الصيرفة المركزية العالمية من جهة اخرى. ويتصدر هدف تحقيق الاستقرار السعري، من خلال الحفاظ على قيمة الدينار العراقي، قائمة مهام البنك المركزي مع ضرورة تأمين نظام مالي مستقر يقوم على اساس التنافس، والتركيز على تعزيز جهود التنمية وتوليد فرص العمل وتحقيق الرخاء الاقتصادي من خلال برامج القروض الميسرة الموجهة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتحفيز القطاع الحقيقي واعادة اعمار البنى التحتية.

ويلاحظ توجه السلطة النقدية صوب تحريك القطاعات الاقتصادية من خلال توفير مصادر تمويل مناسبة تحد من انزلاق اقتصاد البلد نحو الركود الاقتصادي عبر تأمين جسوراً لتمويل مشاريع البنية التحتية وتطوير القطاع الخاص. وفي هذا السياق، أطلق البنك المركزي مؤخراً "صندوق الإقراض المشترك" برأسمال قدره 500 مليار دينار قابل للزيادة وبمشاركة اجبارية من جميع المصارف التجارية، يسهم كل منها في رأسمال الصندوق بمبلغ 4 مليارات دينار. ويهدف الصندوق الجديد الى تمويل مشاريع البنى التحتية من رأسمال المصارف التجارية، نتيجة التحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي بسبب الظرف الأمني وضعف الضمانات المقدّمة من المشروعات العامة والخاصة. 

وقد طرحت فكرة انشاء الصندوق منذ سنوات، لكن دخول البنك المركزي لتطبيقها الآن، سيزيد من زخم وقوة الإقراض لهذه المشاريع، بشرط ابعاد عملية الاقراض عن الوسطاء والسماسرة والبيروقراطية الحكومية، وأن يتم اختيار اعضاء ادارة هذا الصندوق بحذر، وان تضم العضوية الادارية للصندوق ممثلين من البنك المركزي والمصارف التجارية والقطاع الخاص وخبراء الاقتصاد والمال، لضمان تأمين اساليب جديدة للإقراض وانسيابية في التمويل دون تعقيدات وبيروقراطية وابتزاز. وتعد مسألة ادارة صندوق الاقراض غاية في الأهمية، فقد خصص البنك المركزي سابقاً مبلغ الخمسة ترليون دينار لقطاع الصناعة والزراعة والاسكان، ولم تنعكس في الاقتصاد العراقي بالمستوى المتوقع خصوصاً في القطاع الصناعي، نظرا لضعف ادوات التنفيذ.

المسارات المستقبلية لاتجاهات السياسة النقدية

يعد استقرار مستويات الاسعار هدفاً رئيساً لأنشطة البنوك المركزية في مختلف بلدان العالم، وفي البلدان النامية تمارس السلطة النقدية ادواراً اخرى ترمي الى تطوير القطاع المصرفي واعتماد سياسات رصينة لرفع معدلات النمو والاستقرار الاقتصادي وتوليد فرص عمل للباحثين عنها. وفي العراق نجح البنك المركزي في تحقيق استقرار سعري ملائم لتحفيز الاستثمار والقطاع الخاص وتحريك عملية التنمية الاقتصادية فضلاً على رفع معدلات المعيشة للطبقات المتوسطة والفقيرة في البلد. غير ان الاختلالات الهيكلية واحادية الاقتصاد العراقي وصدمات اسعار النفط والحرب على داعش ضيعت العديد من فرص الانطلاق الاقتصادي واعاقت جهود الحكومة في استنهاض التنمية الاقتصادية الراكدة منذ عقود.

وتفصح اجراءات البنك المركزي العراقي الاخيرة عن اعادة تصميم السياسة النقدية في اطار تحقيق الاستقرار المالي وحماية النظام المالي وتحفيز النمو الاقتصادي، بالإضافة الى الاهداف المعتادة، والمتمثلة في الحفاظ على قيمة الدينار العراقي، من خلال ربط الدينار العراقي بالدولار الأمريكي بما يدعم الاستقرار الاقتصادي وميزان المدفوعات. وتأمين مستوى الكفاية من احتياطي العملة الأجنبية رغم تحديات الانحسار الحاد في الايرادات الدولارية التي خلفها انخفاض اسعار النفط.

مع ذلك، ينبغي الحذر من المخاطر المتعددة التي قد تولدها السياسة النقدية الحالية، لعل أبرزها منهج البنك المركزي في تحقيق الاستقرار السعري عبر مزاد العملة الاجنبية وما يشوبه من شبهات فساد وهدر مالي. ومع إدراك البنك المركزي لهذا التحدي ينبغي التفتيش بجدية عن اليات جديدة لتامين طلب التجار والقطاع العائلي على الدولار دون المرور بحلقات الفساد التي تهيمن على مزاد العملة في الوقت الراهن. وعلى سبيل المثال، يمكن للبنك المركزي العراقي انشاء بنك وطني بفروع اجنبية تغطي معظم البلدان التي ينكشف عليها الاقتصاد العراقي في تأمين احتياجاته السلعية. من جانب اخر، ينبغي الالتفات بان انخراط معظم المصارف التجارية في مزاد العملة لتحقيق مكاسب سريعة عطل الوظيفة الرئيسة لهذه المصارف كجسور لتمويل التنمية والاستثمار. وهذه الجزئية بحاجة لمراجعة دقيقة من لدن البنك المركزي لإيجاد الآليات المناسبة لإعادة تفعيل مهام المصارف التجارية. 

التحدي الاخر ينصرف الى التمويل المتكرر لعجوزات الموازنة العامة من خلال السلف والقروض والشراء المباشر لسندات الدين العام الحكومي. ورغم ايجابية هذا الدور في السنوات الماضية في مساعدة جهود الحكومة لدرء خطر داعش وابعاد الاقتصاد الوطني عن الجزء الحاد من الازمة، الا ان استمرار البنك المركزي في لعب دور المُمول للعجوزات الصعبة بحجة التعاون والتنسيق بين السياسات المالية والنقدية قد يحول تلك الادوار الى ممارسة يصعب التنصل منها مستقبلاً، خصوصا مع تفاقم معدلات الدين العام واخفاق الجهود الحكومية في رفع الايرادات غير النفطية بما يتناسب وهبوط الايراد النفطي.

واخيراً ينبغي الاشارة الى ان مبادرات البنك المركزي لإنعاش الاقتصاد الوطني، عبر برامج الإقراض والتمويل، قد شهدت العديد من حلقات الروتين والشروط التعجيزية، مما يوجه الاهتمام مرة ثانية الى معضلة الفجوة بين التخطيط والتنفيذ والفساد المالي والاداري فضلاً على البيروقراطية والروتين المرافق لعملية الاقراض، وهي تحديات صعبة بحاجة الى تفكيك ومعالجة من لدن البنك المركزي العراقي.

التعليقات
تغيير الرمز