اتجاه الاقتراض العام في العراق

لم يحظى الملف الاقتصادي في العراق بالاهتمام المناسب طوال السنوات التي تلت العام 2003، فقد احتكر القطاع النفطي قاطرة النمو والاستقرار الاقتصادي في البلد خلال السنوات الماضية في ظل غياب سياسات حكومية جادة لتنويع الاقتصاد الوطني. وقد حرصت الحكومات العراقية المتعاقبة على ابقاء نمط النمو المرتبط بالنفط رغم مخاطر رهن الاقتصاد الوطني بدورات الرواج والكساد التي تشهدها اسواق النفط العالمية. ورغم حدة الازمات التي طالت الاقتصاد العراقي نتيجة تذبذب اسعار النفط العالمية، واخرها ازمة 2020 وانهيار الاسعار الى دون (20) دولار للبرميل، الا ان تنفيذ سياسات الاصلاح الاقتصادي بقي بعيدا عن دوائر الاهتمام في اروقة صنع القرار حفاظا على مصالح المنظومة السياسية القابضة على السلطة والموارد في العراق. ويزداد الوضع المالي حراجة مع استمرار اعتماد الحكومة على القروض العامة في تمويل النفقات العامة، لتعويض الانحسار في الايرادات النفطية، دون تنفيذ اي سياسات ضبط او اصلاح مالي لترميم ادارة المالية العامة في العراق. فعلى جانب الايرادات العامة قوض الاعتماد المفرط على النفط من فرص استقرار المالية العامة، خصوصا مع ضعف الجهود الحكومية في تعظيم وتحريك الايرادات غير النفطية واستحواذ النفط على أكثر من (90%) من الايرادات الاجمالية للدولة. اما على جانب النفقات العامة فقد استمرت النفقات الجارية في الاتساع خارج حدود المقدرة المالية للحكومة، وعلى حساب مشاريع الاعمار وتطوير البنية التحتية. وكان ارتفاع النفقات العامة، في الغالب، دالة لتوسع النفقات الجارية ولصالح التوظيف غير المنتج والهدر المالي. اما النفقات الاستثمارية فقد تسربت بسلاسة الى جيوب الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية مع بقاء معظم مشاريع البنية التحتية دون انجاز يذكر رغم افتقار المحافظات والمدن العراقية الى ابسط الخدمات العامة كالماء والكهرباء والمجاري وغيرها من الخدمات الضرورية. 

مسار الديون

على مدار العقود الماضية بقي الاقتراض العام، بشقيه الداخلي والخارجي، بعيدا في توجهاته عن فلسفة الاقتراض من اجل الاستثمار لتحقيق التنمية والبناء والاعمار نتيجة لسوء ادارة الملف الاقتصادي من قبل السلطات الحاكمة. ولم تشكل القروض التنموية المرتبطة بمشاريع الدولة الاستثمارية نسب تذكر من اجمالي الديون السيادية العراقية. واستمر العراق بالاعتماد على الايرادات النفطية في تمويل النفقات الاستهلاكية غير المنتجة، مما ضيع على البلد عقود من التنمية والازدهار ومليارات من الدولارات النفطية. ويزداد المأزق المالي حراجة مع اتساع النفقات العامة خارج حدود الامكانية المالية للبلد بسبب الممارسات الحكومية والتشريعات البرلمانية التي لم تراعي الجنبة المالية عند التخطيط والتشريع، بل اعتادت الحكومات السابقة على ضغط النفقات الاستثمارية او اللجوء الى الاقتراض العام في حال لم تستوعب الايرادات النفطية اجمالي النفقات العامة. مما فاقم من مخاطر انكشاف الاقتصاد والموازنة على الايرادات النفطية من جهة والاقتراض العام لتمويل العجز المالي من جهة اخرى. 

لقد مر الدين العام العراقي بمراحل مختلفة وتطور بشكل يعكس الاحداث الاقتصادية والسياسية والامنية خلال العقود الماضية. ويلاحظ بعد عام 2003 انخفاض الدين العام من (129) مليار دولار الى قرابة (26) مليار دولار، أي بنسبة (80%)، بسبب تسوية نادي باريس. بعد ذلك استمر الدين العام بالتراجع بسبب تعافي الايرادات النفطية بشكل ملحوظ نتيجة ارتفاع الاسعار والكميات المصدرة مما انعكس في تقليص حاجة الحكومة الى الاقتراض وتسديد جزء من المديونية الداخلية والخارجية فضلا على زيادة الناتج المحلي الاجمالي وما يعنيه ذلك من انخفاض في نسبة الدين الى الناتج المحلي الاجمالي. مع ذلك رافق الهبوط التدرجي في الديون العامة بشقيها الداخلي والخارجي خلال السنوات (2004-2020) بعض القفزات في اتجاه الدين العام، خصوصا الداخلي، نتيجة ارتباط الدين في العراق بتطورات اسعار النفط في الاسواق العالمية وبعض العوامل الاخرى المتمثلة في ارتفاع النفقات العسكرية لتحرير العراق وبرامج الاعمار وتحقيق الاستقرار الامني في البلاد. 

مؤخرا تم انهاء عبء مالي طويل طالما أرهق الموازنة والاقتصاد، فقد أعلن البنك المركزي العراقي، نهاية العام الماضي، عن تسديد (44) مليون دولار كدفعة أخيرة من تعويضات دولة الكويت التي أقرتها لجنة الأمم المتحدة للتعويضات التابعة لمجلس الأمن الدولي بموجب القرار رقم (687) عام 1991، والبالغة (52.4) مليار دولار، مما ينهي عقود من الاعباء والتداعيات التي خلفها هذا الملف على الاقتصاد العراقي. ومن المؤمل أن يسهم إنهاء دفع تعويضات الكويت بالكامل إلى إخراج العراق من البند السابع. ووفقا لمصادر حكومية رفيعة يقدر إجمالي حجم الدين العام العراقي الداخلي والخارجي قرابة (79) مليار دولار، وهو ما يقارب نسبة (45%) من حجم الناتج المحلي البالغ (178) مليار دولار عام 2021. ويشكل الدين العام الخارجي (29) مليار دولار، وبنسبة (37%) من اجمالي الدين العام، في حين يقترب الدين العام الداخلي من (50) مليار دولار، وبنسبة (63%) من اجمالي الدين العام. اما فوائد واقساط خدمة الدين العام فقد بلغت في موازنة 2019 نحو (10) ترليون دينار، وفي موازنة 2021 أكثر من (9) ترليون دينار، أي قرابة (7%) من اجمالي الانفاق العام، وأكثر من ثلث النفقات الرأسمالية. وهو ما يفصح عن الاعباء المالية التي يخلفها استمرار الاقتراض العام على الموازنة والاقتصاد.  

هل نستمر بالاقتراض؟

على الرغم من عمق الازمات المالية التي مر بها العراق مؤخرا وصعوبة الخيارات المتاحة لتمويل العجز الحكومي المتنامي، الا ان اللجوء الى الاقتراض العام ينبغي ان يكون الخيار الاخير بعد سياسات جريئة لضبط الانفاق وتعظيم الايرادات غير النفطية. كما ينبغي حصر الاقتراض العام بتمويل الاستثمار العام في العراق، وقبلها ضمان وجود ادارة حكومية قادرة على تنفيذ المشاريع الاستثمارية بكفاءة ونزاهة. اذ تثير تجربة الحكومات العراقية السابقة في ادارة الثروة الوطنية الكثير من القلق حول استدامة المالية العامة في العراق، نظرا لديمومة انتفاخ الهيكل الحكومي ارتباطا بارتفاع الايرادات النفطية، ولجوء الحكومة لاحقا، الى تعويض الفجوة التمويلية، في اوقات التراجع النفطي، عبر الاقتراض العام. 

في الحقيقة لا يعد الاقتراض العام، خصوصا الداخلي، مصدر قلق كبير، نتيجة اسهامه في إنعاش الاقتصاد الوطني اوقات الازمات المالية والاقتصادية، ولكن مصدر القلق يتركز في اتساع منافذ الهدر الحكومي، خصوصا في التعاقدات الحكومية، مع اتساع شهية الاقتراض لدى الحكومة، الامر الذي يولد في النهاية جهاز بيروقراطي ضخم مثقل بالفساد والديون في ان واحد، على حساب الاستقرار المالي والاقتصادي وحقوق الاجيال في الثروة الوطنية.

التعليقات
تغيير الرمز