قد يستغرب البعض من العنوان أعلاه، متسائلا كيف يمكن لثورة حصلت قبل 1380 سنة ان تكون غير مكتملة لحد الان، بعد هذا التاريخ الطويل من انطلاقها الاول؟
قطعا، لهذا التساؤل وجاهته ومبرراته إذا كنا نفهم ما جرى في العاشر من محرم الحرام سنة 61 للهجرة النبوية بمقاييس الثورات الاعتيادية التي ألفها البشر في علاقاتهم فيما بينهم من جهة، او بينهم وبين حكامهم من جهة أخرى، والتي تقترن بتحولات سريعة وتقلبات عنيفة غالبا ما تنتهي الى نتائج تخالف الأهداف النبيلة التي انطلقت منها. اما عندما نقف إزاء ثورة وثائر بوزن الحسين عليه السلام الروحي والاجتماعي، وفي زمن حرج من تاريخ ظهور الإسلام، فالأمر بحاجة الى دراسة وتأمل بطريقة اخرى. لا نريد الخوض طويلا في الحديث عن شخصية الحسين عليه السلام وظروف خروجه على السلطة؛ لأن هذا الامر بات معلوما للقاصي والداني، وقد ملئ الحديث فيه ملايين الصفحات من الكتب عبر التاريخ، ولكن طالما ذكرنا ان الثورة الحسينية لم تكتمل، فمن حق القارئ ان يحصل على تفسير لذلك ولو بشكل مختصر.
يدل تاريخ الثورات على اختلاف اشكالها ومنطلقاتها على ان أي ثورة لا توصف بكونها ثورة ما لم تقود الى احداث تغيير جذري في المجتمع الذي تحصل فيه، حتى تكون الأمور بعد الثورة مختلفة تماما عما كانت عليه قبلها، على مستوى السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة. هكذا فعلت الثورة الفرنسية 1789م ، والثورة الامريكية 1775م ، والثورة البلشفية 1917م ... وعندما نتحدث عن ثورة قام بها الحسين عليه السلام قد نوصف من قبل بعض المختصين في علم الاجتماع والسياسة بكوننا مغالين او مبالغين، بحجة أن الحدث اقرب الى تمرد منه الى ثورة، لأن مظاهر الثورة لم تتحقق فيه، فالسلطة الظالمة لم تتغير واستمرت بالوجود لأكثر من ثمانين سنة لاحقة، وحتى السلطة التي اعقبتها لم تختلف عنها كثيرا في سيرتها واستمرت بالوجود لأكثر من 500 سنة اخرى، ونفس الحجة سيتم ايرادها بشكل أو آخر عن تأثير الثورة في مجالات الحياة الأخرى المرتبطة بالثقافة والاجتماع والاقتصاد... وانكار هذه الحجج من قبل المحبين للحسين عليه السلام والتمادي بالقول انها ثورة حصلت وحققت أهدافها في الزمان والمكان الذي جرت فيه لن يسلم من الطعن. اما الزعم ان الحدث هو نهضة او حركة او قضية فذلك سيبعده عن مراميه الصحيحة ويضعف قوة زخمه وتأثيره، حتى لو جادل أصحاب هذا الرأي بالقول: ان المفردات الأخيرة لها بعد أوسع وأعمق من بعد الثورة، وذلك لأسباب كثيرة يعرفها المختصون بعلم السياسة، وقد يناصرهم في ذلك زملاء لهم من علم الاجتماع.
إذا، البديل الأنسب هو ان نطلق على ما جرى وبثقة تامة انه ثورة. ثورة استطاعت في وقتها ان تحرك جمود المجتمع وتعصف بسلبيته، وتنزع عن السلطة شرعيتها وتضليلها، وتلهم اخرين للخروج عليها ومقارعتها والصراخ في وجهها. ولكن فهم حدود ثورة الامام الحسين عليه السلام بهذا الشكل فقط فيه ظلم كبير لها، لأن حدودها ابعد من ذلك، وأكثر أهمية، وعدم بلوغ الحدود الاخيرة يجعلها مستمرة وغير مكتملة. والسؤال هو كيف؟
الحسين عليه السلام كفكرة
لم يكن الحسين عليه السلام مجرد حدث مأساوي تعرض له انسان برئ وشريف وعظيم الشأن نتيجة حماقة واستبداد وسوء السلطة الحاكمة، بل هو فكرة شعارها الحرية وهدفها السلام والكرامة للبشر في ظل حكومة عادلة لا بغي فيها ولا تجاوز على الحقوق والحريات. وكانت هذه الفكرة ولا زالت حلم الفلاسفة، ولحن الشعراء والادباء، وطموح بني البشر بصرف النظر عن اديانهم ومذاهبهم واعراقهم وتوجهاتهم الفكرية. ولكن ليس كل البشر مستعدين للتضحية من اجل هذه الفكرة؛ لأسباب كثيرة اما جهلا او طمعا او خوفا ... فأراد الحسين عليه السلام أن يضرب للناس مثلا، قل نظيره، في التضحية من اجل ما يؤمن به. فكان الموت في سبيل الحرية كرامة وسعادة، والعيش مع الظلم والعبودية برما وشقاء لا يقوى على تحمله الانسان الحر. نعم كان الحسين الانسان حرا تماما وغير مستعد للتنازل عن حريته، لذا لم يستجب الى الإغراء او التهديد المنتج للعبودية والممهد للطغيان. ولأن الثورة الحسينية تحمل هذه الفكرة فلا يمكن ان تكون قد حققت أهدافها في ظل تاريخ طويل من العبودية والظلم في بلاد المسلمين وغيرهم، بل ومع وجود هذا الكم الهائل من العنف الذي نراه اليوم بين البشر اتجاه بعضهم البعض لأسباب مختلفة.
ان بقاء حالة الظلم والعنف بين الناس، مع وجود بشر مستعدين للتنازل عن حريتهم والعيش حياة الذل في نير الاستبداد والفساد، يعني بقاء الثورة الحسينية غير مكتملة، وبقاء ثوارها يستصرخون الناس لينتصروا لكرامتهم المهانة، وحقوقهم المسلوبة.
الحسين عليه السلام وفهم الدين
عادة يعمد البعض الى انتقاد المسلمين لأنهم تأخروا كثيرا في القيام بحركة اصلاح ديني، كما حصل في حركة الإصلاح البروتستانتي المسيحي في القرن الخامس عشر وما تلاه، ويعدون هذا الامر سببا في تأخر المسلمين في الوقت الحاضر. الا ان الحقيقة المسكوت عنها او التي يجري تجاهلها واغفالها ان المسلمين سبقوا غيرهم كثيرا في اجراء حركة الإصلاح الديني من خلال ثورة الحسين عليه السلام، والتي نرى انها مكملة للجهد الجبار الذي قام به من قبل والده الامام علي وأخيه الامام الحسن عليهما السلام، وقد حدث كل ذلك في أقل من خمسين سنة بعد ظهور الإسلام كدين ودولة، مما يعد أمرا لافتا تماما ومذهلا لم يحصل بهذه السرعة والعمق والتأثير في تاريخ اية ديانة أخرى. وذهب الكثير من المسلمين الى تسمية ما حصل بالفتنة الكبرى ولا يسميها بتسميتها الصحيحة كحركة وثورة إصلاحية، وربما انخداع بعضهم بالتسمية الأولى كان بحسن نية لغرض عدم المس بقدسية بعض الصحابة، لأن عقله الطيب غير قادر على امتلاك الجرأة التامة لنقد من يراه مقدسا، او لعدم ادراكه لهدف السلطة الظالمة –آنذاك-ورغبتها في تصوير الامر كفتنة يحتمل كلا طرفيها الصواب والخطأ، او لكونه جزءا من البناء الضال الذي تمت الثورة عليه.
على أي حال، ولأجل عدم تكرار أخطاء الماضين او قلة جرأتهم، علينا التركيز على ما أراد الحسين عليه السلام ان يقوله لنا ولم نفهمه بدقة؟
ان من يفهم حركة الاحداث في زمن الامام الحسين عليه السلام يدرك تماما ان السلطة الظالمة –آنذاك-قد لبست لباس الدين لتشريع وجودها واستمرار حكمها، وان من اعطى لهذه السلطة القدرة على فعل ذلك لم يكن عامة الناس وبسطائهم، بل رجال دين كبار داخل المؤسسة الدينية نفسها-ان جاز لنا هذا التعبير-، مما يعني أن لبس عمامة الدين لم يكن كافيا لمنع انحراف صاحبها. لذا، يمكن القول: ان من قتل الحسين عليه السلام تشريعا كان رجال دين فاسدين، اما من قتله تنفيذا بعد ذلك فقد كان سلطة سياسية منحرفة وفاسدة توظف الدين حسب اهوائها ومصالحها.
إذا فهمنا الامر بهذا الشكل، سنجد ان الثورة الحسينية سعت الى نزع القدسية عن المقدس المنحرف مهما كانت درجته، فضلا عن نزع الشرعية عن السلطة السياسية المستبدة مهما كانت شعاراتها الدينية، وجعلت أمثال هؤلاء اهداف مشروعة للخروج عليهم بقوة اليد والكلمة. ان فهم ما جرى على انه ثورة الدين الصالح، على دين الانحراف والهوى، وثورة الانسان على الظلم مهما علا رمزه وخدع بشعاره، يجعلنا عند التأمل في تاريخ المسلمين الماضي والحاضر نجد انهم عاشوا ويعيشون خدعة مستمرة وتضليلا لا انعتاق منه بسبب حكومات توظف الدين لمصلحتها بطريقة ظالمة ملعونة، ورجال لبسوا عمامة الدين (مقدسين) ليشرعنوا حالة الظلم وانعدام العدل التي يعيشها الناس، بحجج شتى منها: ان الخروج على الحاكم وولي الامر فتنة عمياء ومفسدة مرة، او ان من اشتدت وطأته وجبت طاعته مرة ثانية، او لكون ولي الامر ظل الله على الأرض مرة ثالثة... متناسين ان هدف أي دين سماوي بعد توحيد الله سبحانه وتعالى هو أسعاد البشر وعيشهم برفاه وحرية وكرامة على سطح الأرض، وان أي ادعاء ديني يجلب الشقاء والذل وامتهان الكرامة يكون صاحبه متهما والسلطة الناجمة عنه باغية مهما كانت مسوغاتها والقائمين عليها.
ان الثورة الحسينية هي اصلاح ديني قبل ان تكون اصلاح اجتماعي وسياسي، وعدم إدراك حقيقة هذا الإصلاح والعمل عليه سيبقيها ثورة مستمرة وغير مكتملة الا بتأسيس فهم جديد للدين يربط بلوغ الايمان الصحيح بتحقيق السعادة والعدالة والقيم الإنسانية بين الناس، لتغدو الأرض جنة حقيقية، ولا يبقى حلم الجنة معلقا لما بعد موت الانسان، في حين يحيا حياة ظالمة يعيش جحيمها وبؤسها مع كل نفس من أنفاسه.
الحسين عليه السلام وقضية السلطة
لا اعرف لماذا حاول الكثير من المحبين والمتحيزين للحسين عليه السلام الفصل بينه وبين السلطة، فكرروا ولا زالوا القول ان الرجل ليس طالب سلطة ولم يخرج من اجلها، طبعا لا أنكر حسن النية وراء هذه المواقف، ولكن لو جردنا الثورة الحسينية من سعيها وراء السلطة فما الذي يبقيها ثورة؟ وسيكون الأمر وكأن الحسين عليه السلام خرج من المدينة الى الكوفة لرحلة استجمام حاشاه؟ او للهرب من السلطة الظالمة؟ او ان الاف الكتب التي وصلته من اهل الكوفة كانت تطلب الإفتاء منه ولم تكن تدعوه لقيادة الناس وإدارة امورهم العامة؟
لقد كانت السلطة ولا زالت محورا جوهريا ومهما في الثورة الحسينية، خرج ثوارها على سلطة ظالمة ليقيموا بدلها سلطة عادلة، وكانت كتب اهل الكوفة تدور حول نزع سلطة يزيد وامثاله لإقامة سلطة جديدة يكون على رأسها الحسين عليه السلام.
ان مشكلة المسلمين التاريخية والحاضرة هي ان حكامهم فاسدين، وسلطاتهم مستبدة، واي اصلاح اجتماعي او ثقافي او اقتصادي لا يمكن الامل بتحقيقه مع بقاء هؤلاء الحكام في مناصبهم، وبقاء هذا السلطات على طبيعتها المستبدة، لذا من الطبيعي ان يكون هدف أي مصلح انساني كبير هو السلطة شاء ام ابى. ثم ان انكار طلب السلطة على الحسين عليه السلام وعلى أي طالب اصلاح يعني تجريده من أمضى أسلحته وأكثرها تأثيرا وقوة، واعطاء الارجحية لأعدائه قطعا، فضلا عن كون هذا الرأي من أكثر الآراء اسعادا للحكام الفاسدين، فماذا يعنيهم من شأن المصلحين طالما ان السلطة التي يمسكونها آمنة ولا تواجه تهديدا جديا.
وعليه، فمن المفيد جدا للكتاب والمثقفين أي يعيدوا النظر في هذا الموضوع، وان يعملوا على الربط ربطا محكما بين الثورة الحسينية وسعي ثوارها الى اسقاط السلطة الظالمة لإقامة سلطة عادلة يديرونها عن جدارة. وهذا المنطلق، بالتأكيد سيجعل بقاء مئات الملايين من البشر خاضعين ومستكينين لحكام فاسدين وسلطات فرعونية يعني ان الثورة لم تكتمل، وان هدفها لن يتحقق الا بإسقاط كل الحكومات الفاسدة وإقامة حكومات عادلة رشيدة تدار من أناس شرفاء يعملون لخير الشعوب التي يحكمونها بإخلاص وقوة وأمانة.
الحسين عليه السلام والثقافة الجنائزية
اجدني في هذه الفقرة مضطرا الى الاقتباس من عالم النفس المشهور الدكتور (كارل يونغ) قوله: " لو كان الانسان مدركا لعيبه، لكانت لديه دائما فرصة لتنقية نفسه منه ... بينما لو كبت عيبه وعزله عن الواعية (الشعور)، لم يصحح ابدا، فضلا عن انه يظل عرضة للانفجار في لحظة غفلة. وفي جميع الأحوال، يشكل عقبة خفية تفسد علينا أكثر مساعينا قصدا" (يونغ، الدين في ضوء علم النفس، ص 93-94).
ويبدو ان ما جذبني الى هذا الاقتباس رغبتي في عدم التغافل عن العيب الذي تتركه الثقافة الجنائزية على فعل التغيير في الثورة الحسينية، وهو عيب يجب تلافيه او إعادة تنظيمه بطريقة صحيحة. فمشكلة الثقافات الجنائزية انها ثقافات حسية بدائية، منفعلة غير فاعلة، تركز على حدث المصيبة أكثر من التركيز على أسباب حصولها، تذرف الدموع كثيرا على موت المصلح بعد ان تكون قد أسلمته رغبة ام رهبة الى سيوف اعدائه. وواجهت الثورة الحسينية هذه الثقافة البائسة منذ اليوم الأول لها عندما دخلت رؤوس الثوار الى الكوفة وبدأت أصوات أهلها تعلو بالعويل والبكاء، وكأن أصحابها لم يقترفوا ذنبا، ولم يقصروا في نصر من رفع راية الإصلاح والثورة. بل، ربما ظنوا ان البكاء يكفي لغسل العار، او محو الذنوب.
ومن الوجوه السلبية الأخرى للثقافة الجنائزية، هي وبحكم بدائيتها تركز على الأشخاص أكثر من تركيزها على المبادئ، فتبدأ بتقديس المصلحين وتفخيمهم بطريقة تجعل هذا الامر هدفا بحد ذاته، لا كونه غاية مطلوبة تماما، ولكن بالتوازي مع العمل بالمبادئ التي حملها المصلح وضحى بنفسه في سبيلها، وعندها لن يكون للتقديس والتفخيم أي فائدة طالما ان النتيجة ان المبادئ بقت معطلة. ووجدنا عند النظر في تاريخ القبائل والأمم والشعوب التي تسود فيها ثقافة الجنائز انه مع مرور الزمن يصبح الالتفاف حول الضحية المقدسة مجرد رمز لهويتها، حتى لو كان فعل الناس مخالفا تماما للمبادئ التي حصلت التضحية في سبيلها. وهذا الامر طبيعي جدا، فذرف الدموع وإعلان الانتماء للمقدس بالكلام أيسر كثيرا واقل تكلفة نفسية وعملية من حمل مبادئه وتحويلها الى منهج عملي. لذا ليس غريبا ان تجد حكومات، وافرادا ينادون بحب الحسين عليه السلام فيما سلوكهم على الأرض يضعهم في صف اعدائه. ومع التأكيد على انه ليس الهدف هنا نزع العاطفة من الثورة الحسينية، كون وجود العاطفة مهم جدا في بقاء جذوتها متقدة وملهمة ومحفزة، الا أن الهدف كشف القناع عن العاطفة العمياء المنافقة، تلك العاطفة التي تعمل على تجريد الثورة من قدرتها العملية على التغيير، وبقاء مبادئها مجرد شعارات شفاهية لا تقوم بدورها الحقيقي في بناء الانسان والعمران في مجتمعاتنا، وتحرير الثورة من سطوة الثقافة الجنائزية سيكون عاملا مهما في تحقيق أهدافها التي قامت من اجلها.
أخيرا، نقول: ان الحسين عليه السلام هو ثائر عالمي قبل ان يكون ثائرا إسلاميا، وان استيعاب ثورته بشكل صحيح وبلوغها اهدافها، سيجلب الخير لكل البشرية، وسيوقظ الضمير الإنساني بشكل فاعل يسمح بتحرير الانسان من قيود عبوديته، ليعيش حرا كريما وبسعادة وسلام مع أخيه الانسان.