تشهد ايران منذ الثلاثين من كانون الاول الماضي 2017 حركة احتجاجات شعبية بدأت من المدن المهمة مثل مدينة مشهد وامتدت الى العاصمة طهران والى شرق وغرب وشمال وجنوب البلاد. وتصاعدت حركة الاحتجاج حتى وصلت الى الصدامات مع القوات الامنية وتم قتل وجرح واعتقال العشرات والعدد في تزايد. لم تكن هذه الاحتجاجات جديدة على ايران، فقد شهدت حركة احتجاج سياسية عقب فوز احمد نجاد لرئاسة الجمهورية في 2009 وسميت حينها بالثورة الخضراء وقاد تلك التظاهرات التيار الاصلاحي. لكن الاحتجاجات الحالية تختلف كثيرا عن سابقتها. فالمطالب مختلفة تماما فهي بدأت باحتجاج على السياسات الاقتصادية ثم تطورت الى المطالبة بالتغيير السياسي الذي يتعدى اصلاح النظام او اجراء تغيير فيه، بل تعداها الى رفض النظام ككل وهذا مؤشر خطير لاسيما اذا ما لاحظنا موقف المرشد الاعلى وبعض السلطات الايرانية مثل القضاء من تلك الاحتجاجات.
يرى الكثيرون ان مايجري في ايران من احتجاجات لايمكن ان تؤثر على مستقبل النظام السياسي. لذا لابد من توضيح الابعاد التي ترشحت من تلك الاحتجاجات والتي تدعونا الى الحديث عن مستقبل النظام السياسي في ظل تطور حركة الاحتجاج. واذا ما تمعنا في تأمل تلك الابعاد نجد انها لا تمس النظام السياسي بكل مفاصلة فحسب ، بل تتعرض الى ايديولوجية النظام وفلسفته السياسية والدينية. ويمكن اجمالها بالاتي:
- ان حركة الاحتجاج الحالية ليست ذات اهداف سياسية تتمثل في الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية في البلاد فيما سمي بالثورة الخضراء عام 2009 حيث خرج انصار التيار الاصلاحي كمعارضين ومشككين في الانتخابات التي فاز بها الرئيس السابق احمد نجاد. الامر الذي يجعلها تختلف عن الاحتجاجات الحالية التي يمكن القول انها شعبية خرجت لاسباب اكبر واشمل واكثر تتعلق بالنظام السياسي في ايران وهذه الاسباب بدأت اقتصادية وامتدت لتعبر عن رفض لادارة السلطة السياسية والدينية لباقي القطاعات الاخرى.
- ما ترشح عن حركة الاحتجاج يعبر عن معارضة كبيرة لما هو مقدس في ايران. معروف ان الولي الفقية ومنذ الثورة الايرانية قبل مايقارب من اربعة عقود يمثل السلطة الاعلى في البلاد حتى يمكنه رفض نتيجة الانتخابات على سبيل المثال. وهو ولي امر العباد وهو اولى من انفسهم بهم. ولاحظنا كثير من المطالب كانت تطالب بأسقاط الولي الفقيه ومنظومته السياسية والعسكرية والاقتصادية التي وصلت الى درجة ان تكون ند قوي وربما اقوى من الدولة الايرانية. اذ يفرض الحرس الثوري المرتبط بالولي الفقيه والمكلف بحماية النظام ومعطيات الثورة الاسلامية سيطرته على مفاصل الاقتصاد وفي اغلب القطاعات ان لم نقل جميعها. الامر الذي اسس اقتصاد موازي وتحديا للسياسات الاقتصادية . كذلك اصبح يتمتع بقوة عسكرية اكبر من قوات وزارة الدفاع الايرانية مما اتاح له مد نشاطه الى خارج الحدود متخطيا الحدود الدولية. لذلك نلاحظ ان موقف الولي الفقيه كان مشددا جدا حتى ان وصل الى وصفهم بالعملاء ومرتبطين بدول لاتريد الاستقرار لايران. وما يدلل كلامنا شعور اركان النظام بالخطر عىل قدسية النظام. اذ نقلت وكالة أنباء تسنيم الإيرانية شبه الرسمية عن موسى غضنفر أبادي رئيس المحكمة الثورية في طهران قوله "من الواضح أن إحدى التهم الموجهة إليهم يمكن أن تكون الحرابة أو شن حرب ضد "الله"، وهي جريمة عقوبتها الإعدام في إيران.
- يعبر موقف رئيس الجمهورية الايرانية حسن روحاني عن موقف مغاير لموقف قمة الهرم في النظام " الولي الفقية" اذ رأى امكانية العمل على توسيع الحريات السياسية وحق الاجتماع والتظاهر. وهذا الامر يرجح ان يدب الخلاف في المواقف الداخلية الرسمية من حركة الاحتجاج.
- اذا ما تابعنا تدويل القضية ، نلاحظ ان مجلس الامن الدولي عقد اجتماعا طارئا يوم الجمعة 5 كانون الثاني لرفض التصدي بالقوة واستخدام العنف ضد المحتجين. وهذا الامر هو احد الاجراءات الاميركية التي يمكنها القيام بها ضد النظام الايراني بعدما قالت الكثير عبر البيانات وتغريدات الرئيس ترامب ويتوقع ان تفرض عقوبات على بعض المسؤولين الايرانيين المتورطين بقمع المحتجين.
- يرى البعض ان الاحتجاجات الحالية ستنتهي عاجلا ام اجلا ويقارنها بنظيرتها عام 2009 على الرغم من الاختلافات الكبيرة بينهما من حيث الزمان والمكان على اقل تقدير. لذا نعتقد انه حتى لو انتهت الاحتجاجات وهذا ما اعلنته ايران يوم الخميس 4 كانون الثاني الجاري. الا ان الامر لايرتبط بانتهائها بل ان طبيعة المطالب تؤسس لبداية سلسلة احتجاجات قد تظهر بشكل متوالي بين الفينة والاخرى كمعارضة لسياسات النظام في المستقبل وقد تتزايد المطالب وتتعزز.
كل هذه الابعاد تدفع بنا الى الحديث عن مستقبل النظام الحاكم ووضع سيناريوهات امامه، منها استمرار النظام الحالي بعد انهاء حركة الاحتجاج، وسيناريو اجراء تغيير في النظام السياسي بما يناسب مطالب المحتجين، وسيناريو استمرار الحكومة وقواتها والقوات المرتبطة بالمرشد الاعلى في التصدي للمحتجين بالقوة وتصعيد الحالة الى وضع انعدام الاستقرار.
اشكالية الحاجة الى التغيير:
تشير المعطيات الى ان السيناريو الاقرب للتحقيق هو ان يتخذ النظام مجموعة من الاجراءات على الصعيد الداخلي لتحسين الاوضاع الاقتصادية، وعلى الصعيد الخارجي الحد السياسة الخارجية التي ابتلعت الكثير من الاموال التي يرى المحتجين ان بلادهم في الداخل اكثر حاجة لتلك الاموال. ولكن هنا تبرز اشكاليتين اساسيتين على المستويين الداخلي والخارجي.
على المستوى الداخلي كانت احد الاسباب الرئيسة لظهور الاحتجاجات هو اعلان بعض المؤسسات المالية التي تنتمي للحرس الثوري افلاسها فضلا عن نسبة البطالة المرتفعة وتزايد معدلات الفقر وغيرها. تشكل النظام السياسي في ايران بعد الثورة الاسلامية قبل مايقارب من اربعة عقود واصبح هاجسه الاول المسيطر على طموحاته هو تحقيق امن وسلامة النظام لذلك انشأ الحرس الثوري والذي تحول فيما بعد الى منظومة امنية وسياسية واقتصادية. لذا فأن اي تغيير على الصعيد الداخلي سيشعر القائمين على السلطة انه خطرا وقد يزعزع من قوة تلك المنظومة الضامنة لسلامة وامن النظام الحاكم والذي اكتسب الشرعية والمشروعية. وهذه اشكالية كبيرة تواجه النظام الحاكم في ايران.
على الصعيد الخارجي، بعد 2003 والغزو الاميركي للعراق ، عززت ايران من وضعها كأبرز الفاعلين الاقليميين في منطقة الشرق الاوسط وتعتمد سياسة خارجية قائمة على تعزيز الدور الايراني في ملفات المنطقة في تفاعل اخذ صيغة الصراع مع فاعل اقليمي مؤثر ايضا الا وهو العربية السعودية. وكل منهما وظف المذهبية والطائفية لتحقيق اهدافه في تحديد دور وازاحة نفوذ الاخر. واذا ما تكلمنا عن ايران نرى ان تعزيز ذلك الدور وزيادة التأثير والنفوذ تطلب ولازال اموالا كثيرة يجري انفاقها لهذا الغرض. الامر الذي دفع المحتجين الى المطالبة باستثمار تلك الاموال للداخل الايراني بدلا من انفاقها في الخارج . وبالتالي فان مشهد اجراء النظام لتغيير في سياسته الخارجية سيكون غصة له. اذ ان اي تغيير يعني تخفيض النفقات التي يتطلبها استمرار النفوذ والدور الامر الذي يعني تراجعهما مما يفسح المجال لدور الفاعل الاقليمي الاخر (المملكة العربية السعودية) ليحل محل الدور الايراني وهذا ما لم تضعه السياسات الايرانية في حساباتها. فغالبا ما يصرح بعض القادة السياسيين والجنرالات في ايران الى ان بلادهم تقاتل في الخارج لابعاد الخطر عن امنها القومي.
ونرى ان اصرار نظام الحكم في ايران على عدم اجراء التغيير على الصعيدين الداخلي والخارجي سيعرض مستقبله للخطر المزمن لاسيما اذا ما شهدت الاوضاع الاقتصادية والحريات السياسية تصعيدا اكبر في الايام والسنين القادمة.