يبدو بأن احداث العالم المتسارعة تزيد من تخمة التكهنات بشأن مستقبل النظام السياسي الدولي، وعلاقاته السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وطبيعة أجزاءه البنيوية وعلاقات الدول مع بعضها البعض، كذلك زادت من حالة التكهنات بشأن مستقبل التيارات الشعبوية والمتطرفة في العالم، بموازاة النخب السياسية التقليدية المحافظة، التي اعتاد عليها سكان الكرة الأرضية. بعد فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منافسيه الأمريكيين في سباق الانتخابات الأمريكية، كان هناك حديث عن ثورة فكرية على المستوى السياسي والاقتصادي العالمي، فالجرعة التي اعطها ترامب لباقي التيارات الشعبوية كبيرة جداً، لاسيما في أوروبا الغربية. فقد كانت جل توقعات المختصين وأصحاب الشأن بأن هذا الفوز سيعطي التيارات المتطرفة والشعوبية في أوروبا والعالم أجمع فرصة الانقلاب على التقاليد السياسية العالمية. فأين ذهبت هذه الثورة الفكرية، ولماذا فشلت في اعتلاء المشهد السياسي العالمي؟
يعتقد الجميع بأن الدعاية الانتخابية الراديكالية التي تبناها الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في خطبه وشعاراته الانتخابية، وفوزه بالرئاسة الأمريكية على حساب منافسيه المرموقين على المستوى السياسي الأمريكي "الداخلي والخارجي"، كانت أحد الاسباب الرئيسة أن لم تكن السبب الوحيد والمباشر في احداث الثورة الشعبوية على المستوى العالمي. نعم، ربما الظواهر والشواهد السياسية تؤكد ذلك، لكن لا أحد يتطرق إلى حالة الاحساس والبؤس الداخلي الأمريكي والشعور بحالات النقص السياسي والاجتماعي والاقتصادي اتجاه النخبة السياسية الأمريكية. فالشعبويون جميعاً يشتركون بمشتركات سياسية ونفسية واجتماعية، وجميعهم يعتقدون بأنهم ضحية لوسائل الإعلام والنخب السياسية الليبرالية أو الليبرالية بشكل عام، وكذلك ضحية لكل الخبراء والمفكرين والأكاديميين وللنخبة التي تسيطر على الرأي العالمي بوسائلها الإعلامية والتسويقية بشكل عام. فهذه المشتركات التي تمثل القاسم المشترك لكل الشعبويين وتياراتهم الفكرية، ربما تكون السبب الرئيس وراء فوز ترامب على حساب منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون في الانتخابات الأمريكية الماضية، فالمكانة السياسية والاجتماعية تثير حفيظة الشعبويين أكثر من مما تثيره الشهرة أو المال، فالرئيس ترامب رجل ثري جداً، وكان أكثر شهرة بهذا الجانب من منافسته الديمقراطية، إلا أنه يبدو في سخط دائم على الذين يتمتعون بمكانة فكرية واجتماعية اكبر من مكانته الاجتماعية والسياسية. ولربما تكون هذه المشتركات نقاط مفصلية تؤكد فرضية النجاح السياسي الذي حققه الرئيس على مستوى الانتخابات الأمريكية الماضية، وتمكنه من أزاحة أكبر منافسيه على رئاسة البيت الأبيض وليس المزاج الشعبوي الأمريكي.
على الرغم من الدفعة المعنوية التي اعطاها فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتيارات الشعبوية، لاسيما في أوروبا، إلا أنه كان سبباً رئيساً في تحجيم وتقزيم التطلعات الفكرية والسياسية للتيارات الشعبوية سواء في أوروبا أو أمريكا بعد ذلك ‘‘ولو اعتقد بأن في الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن الحديث عن تيارات شعبوية مالكة لأرضية فكرية في الساحة الأمريكية، بقدر ما كانت تلك التيارات عبارة عن تيارات ناقمة وساخطة على الليبرالية والنخبوية والسياسيات الاقتصادية التي تتبعها تلك النخب في البيت الأبيض‘‘، على العكس مما موجود في أوروبا، لاسيما في فرنسا وألمانيا وايطاليا وغيرها من بلدان أوروبا الغربية، التي تتمتع بثقافة فكرية وشعبوية متطرفة؛ وذلك بعد تخلي "الرئيس الأمريكي" عن التفكير الراديكالي والشعبوي الذي تميز به قبل وصوله للبيت الأبيض، ومساهمته في احباط بعض التطلعات الشعبوية العالمية، وفشله في تحقيق ما تبناه قبل أن يصبح رئيساً.
كذلك يمكن اعتبار الانتخابات الفرنسية السبب المباشر في اجهاض التيارات الشعبوية في أوروبا والعالم أجمع؛ لا سيما بعد المعركة الانتخابية الشرسة بين لوبان وماكرون، على الرغم من فوز الأخير بفارق انتخابي كبير على منافسته المتطرفة في نهاية المطاف، وهو ما مثل اجهاض واضح للتطلعات السياسية الشعبوية؛ وذلك عبر اجهاض التطلعات الشعبوية في باقي دول أوروبا "الأقل نسبة بالمقارنة مع فرنسا" مثل ايطاليا وألمانيا والنمسا وهولندا. ففي حال تمكن اليمين المتطرف في فرنسا من الفوز في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، سيعطي ثقة كبيرة لباقي التيارات المتطرفة والشعبوية في دول أوروبا الأخرى، شبيه بتلك الجرعة التي اعطاها فوز ترامب إلى التيارات الشعبوية في أوروبا. هذه الاسباب لم تجهض تطلعات التيارات الشعبوية فحسب، بل اجهضت تطلعات وقراءات وتنبؤات المختصين واصحاب الشأن، بمستقبل الشعبوية وبروزها كظاهرة سياسية واجتماعية بديلة عن مفهوم النخب السياسية والنخبة بشكل عام، فضلاً عن ذلك، فأن تراجع الخطاب الشعبوي في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا دليل على أن هناك أزمة بين هذه التيارات، لاسيما بعد التجربة العملية في الولايات المتحدة، والصراع الذي شهدته المؤسسات الأمريكية بين الرئيس والسلطة القضائية الأمريكية سواء في موضوع الهجرة أو رفضها لبعض قرارات الرئيس، كذلك لا يمكن أن ننسى الأزمة التي تعيشها بريطانيا جراء خروجها من الاتحاد الأوروبي والمشاكل الذي خلقها البريكست للمملكة المتحدة على المستوى السياسي والاقتصادي وعلى مستوى علاقاتها مع باقي دول الاتحاد.
إن الانكشاف الذي تعرضت له هذه التيارات بعد تجربة ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عرضها للكثير من الانتقادات، مما كانت سبباً مباشر في تغيير قناعات بعض من داعميها. ولهذا يمكن القول بأن التيارات الشعبوية واليمينية قد تنجح كخطاب حماسي يدغدغ مشاعر الناس، إلا أنه مسألة تحويل هذا الخطاب إلى واقع عملي سيصطدم بعقبات كثيرة، كتلك التي اصطدم بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ولهذا، فأن الشعبوية كان لها دور كبير في تقويض نفسها وتراجع داعميها، وستبقى حبيسة الشعارات والخطابات الثورية.