قسم ميكافيللي السياسة الى قوة الاسد ودهاء الثعلب وحيلته، وكانت نصيحته للقائد السياسي في زمانه: ان يمازج ما بين الاثنين، بشرط ان تكون الحيلة سلاحه الاكثر استخداما إذا ما اراد لحكمه الاستقرار.
ربما ان القوة المباشرة قد تم تجاوزها في الدول المتقدمة، وجاءت هذه النقلة النوعية بعد ان مرت تلك الدولة بتجارب مأساوية كان أخطرها الحرب العالمية الاولى والثانية. هذه الحروب قد دفعت تلك الدول للجوء الى نوع اخر من القوة اقل تكلفة واقل ضررا، وهذه القوة اخذت تعرف بالقوة الناعمة التي تعني اللجوء الى كل الوسائل لتحقيق المصالح باستثناء الحرب العسكرية المباشرة.
اما الدول غير متقدمة فلازالت القوة الصلبة هي الاساس في حل الكثير من المشاكل والازمات، وهذه نتيجة طبيعية بسبب البيئة المحيطة بالمؤسسات السياسية، من شعب يفتقر للوعي السياسي ونخبة ليس من اولوياتها ان تبني الدولة او ان تنقل المجتمع الى حال أفضل.
العراق هو الاخر مثل بقية الدول في عالم الجنوب، كانت القوة حاضرة مع كل ازمة تمر بها البلاد، هذه الحالة تجذرت وصارت واقعا بعد عام 1958، اي بعد ان سيطر العسكر على السلطة واصبحت ماكينة الجيش بين ايدهم.
وبقدر تعلق الامر بالقضية الكردية فكثيرا ما كان اللجوء الى الحل العسكري هو الخطوة الاولى، التي قد تعقبها خطوات من الانفراج والتفاوض ما بين الطرفين، وبقي هذا الحال متواترا ومستمرا سواء في زمن عبد الكريم قاسم وعبد السلام والبكر وصدام حسين، وكانت نتائجه تتراوح ما بين الاستقرار الظاهري النسبي وما بين تجدد الاحقاد وغليانها المستمر من كلا الجانبين.
بعد عام 2003 وبالرغم من سوء العلاقة ما بين المركز والاقليم الا ان الطرفين لم يضطرا يوما الى استخدام القوة على الاخص فيما يتعلق ببغداد التي بقيت مرهقة بسبب حربها على الارهاب والفساد المالي والاداري. الا ان الايام الاخيرة من شهر ايلول من عام 2017، قد شهدت انبعاث القضية الكردية من جديد ولكن على نحو اشد، عندما اصرت القوى السياسية الكردية على ان تجري استفتاء لغرض الانفصال التام عن العراق، وهذا الحدث حتى لو لم يكن يمتلك الجدية الكافية ولا توجد معطيات حقيقية تساعد على تحقيقه، الا انه يشكل خطرا كبيرا على مستقبل الدولة العراقية، كونه يأتي في زمان انتشار وسائل الاتصال التي تنقل الاحداث اولا بأول، اذ شاهد العالم كله كيف خرج الاكراد في شمال العراق ليعلنوا الرغبة بالانفصال.
بحسب قواميس السياسة العراقية في مرحلة ما قبل عام 2003، كان من المفترض ان تلجئ الحكومة العراقية الى القوة التي من خلالها يتم افشال الاستفتاء بل ومعاقبة الجهات التي تقف خلفه. الا ان الذي حدث كان مفاجئا للجميع فرئيس الوزراء حيدر العبادي الذي يشغل منصب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، لم يبدو عليه اي انزعاج من الموضوع، بل تعامل مع الموقف وكأنه امر خارجي ليس معنيا به. لكن ما ان تم الاستفتاء حتى سارع الى اتهام القوى الكردية بمخالفة الدستور، ليعلن للعالم اجمع ان بغداد لا تريد الا ان تستعيد حقوق شعبها وان تطبق الدستور والقانون. الامر الذي أحرج الدول الكبرى المؤيدة للاستفتاء، لأنها لا تستطيع ان تنكر المخالفات الدستورية.
ومن جهة اخرى كانت ماكنته السياسية الخارجية تمارس دورا فعالا، من خلال تشكيل تحالف اقليمي لوأد الانفصال وقتله قبل ان ينضج، فسرعان ما اعلنت تركيا وإيران رفض المشروع بل والسعي لمعاقبة الواقفين خلفه.
حتى السعودية والجامعة العربية التي كانت تؤيد الانفصال منذ خمسينيات القرن الماضي، قد غيرت موقفها وطالبت بالمحافظة على وحدة العراق وترابه.
الى هذه اللحظة يعد الموقف الحكومي ايجابيا ويدل على نضوج في العقل السياسي العراقي، من خلال استخدامه للقوة الناعمة، لكن ينبغي ان تثمر هذه الطريقة الجديدة في التعامل مع ملف القضية الكردية الى مكاسب دائمة تكون ضامنة لوحدة العراق في المستقبل، من خلال الخطوات الاتية:
1 – احياء حلف بغداد، عبر التوقيع على معاهدة اقليمية تنص على حفظ وحدة العراق، وتضم: العراق، تركيا، إيران، سوريا، السعودية، الكويت، الاردن.
2 – بعد الموقف المقبول الذي اظهرته تركيا وإيران، لابد للعراق من ان يكافئهم ويشجعهم على الاستمرار به، عبر منحهم استثمارات اقتصادية كبيرة.
3 – ان يعالج العراق كل الملفات العالقة مع الاقليم، ويثير كل القضايا كون هذه الازمة تمثل فرصة لبغداد لتطبيق الدستور.
4 – ان لا يثق العراق الى درجة كبيرة بالمواقف الاقليمية والدولية، فالمواقف قد تتغير، ولابد من الاسراع الى تثبيتها لصالح العراق.
اذن، طريقة تعامل الحكومة العراقية مع ملف الاستفتاء كان موفقا، ويؤشر حالة من النضوج في العقل السياسي العراقي، لكن ينبغي تثبيت الانجاز عبر اتفاقيات اقليمية تكون ضامنة لوحدة البلاد.