في الثاني عشر من شهر حزيران هذا العام كتبت مقالا بعنوان: خيار بارزاني الخاطئ والمستقبل الغامض لأكراد العراق، أي قبل اكثر من شهرين من تاريخ اجراء استفتاء إقليم كوردستان الذي تم في الخامس والعشرين من أيلول الجاري، قلت فيه: "ان المسؤولية الاستراتيجية الملقاة على عاتق أي قيادة سياسية هي تحويل الاحلام الى حقائق، او ابتداع أحلام ممكنة التحقيق، وتجنب الخيارات الصعبة المؤلمة، وابعادها من الطاولة قدر الإمكان، فليس من السهل على أي قيادة سياسية إعادة الثقة لاتباعها عندما تجهض احلامهم، وعندما تقودهم في دروب وعرة تدمر كل نجاحاتهم، والقيادة الكوردية القائمة في الإقليم عليها ان تدرك: ان الكورد في العراق حققوا الكثير من النجاح بدمائهم وصبرهم طوال الحقب الماضية، وهم اليوم بحاجة الى ترسيخ نجاحاتهم، وحماية منجزاتهم من خلال الشراكة الفاعلة مع بقية مواطنيهم لإكمال مهمة بناء الدولة الديمقراطية الحقيقية في العراق، وتحمل كافة التحديات والعقبات التي يتطلبها ذلك". كانت هذه الكلمات رسالة تحذير للسيد مسعود البارزاني والفريق السياسي الملتف حوله من الاقدام على خطوة الاستفتاء، وكنت أتوقع ان الرجل بتاريخ عائلته السياسي الممتد الى اكثر من مائة عام، وخبرته الطويلة في مضمار العلاقات الإقليمية والدولية سيتفهم هذه الرسالة وغيرها من الرسائل الموجهة اليه من داخل العراق وخارجه، ولكنه اصاب الجميع بخيبة أمل، فارتكبت القيادة الكوردية خطأ استراتيجيا لا يغتفر ستندم عليه طويلا، وأظهرت نفسها على انها قيادة سطحية لا تفهم في لعبة السياسة شيء.
قيادة تسير خلف السراب
ان حجة البارزاني على المضي وراء خيار الاستفتاء هي: ان الشرق الأوسط الحالي يعيد تشكيل نفسه، وان ما ارتكب من أخطاء بحق الكورد بعد الحرب العالمية الأولى بموجب معاهدة فرساي واتفاقية سايكس بيكو وغيرها، حان الوقت لتصحيحه، لتنبعث القومية الكوردية وتتمدد تحت الشمس ويحصل أبنائها على حقوقهم في إقامة دولتهم المستقلة، وتكون نواة تلك الدولة علنا او ضمنا هي تقسيم العراق من خلال انتزاع إقليم كوردستان منه. هذا الوهم الذي سار خلفه البارزاني واتباعه ساهم في تضخيمه شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها التي تحفل بها الأوساط الإعلامية، والمنابر السياسية، والمنظمات الإقليمية والدولية، وتلقى الدعم من بعض القوى الاقليمية غير المستقرة كإسرائيل وغيرها، لكن مالم تدركه القيادة في الإقليم هو: ان الاحلام التي تبنى على أوهام تبقى مجرد سراب يدغدغ المشاعر ويلهب العواطف لكن لا أمل يرجى من ورائه.
كيف أخطأ البارزاني في حساباته
اعتقد البارزاني ان مستقبل الكورد في العراق يسير بمعزل عن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وان النظام في الشرق الأوسط يسير بمعزل عن النظام الدولي الذي ُوضعت لبناته الأولى في الحرب العالمية الأولى، وترسخت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية، فهذا النظام المحكم في متغيراته يعمل ككل واحد لا يمكن عزل اجزائه بعضها عن بعض، فلم ينتبه وهو يتحدث عن مظلومية الكورد في الحرب العالمية الأولى، ومطالبته بحق تقرير المصير وفقا للقانون الدولي، ان مبدأ تقرير المصير نفسه سواء المستند الى مبادئ الرئيس الأمريكي (وودرو ويلسون)، او المستند الى مواثيق الأمم المتحدة انما جاء لترسيخ النظام الدولي القائم، ولم يأت لإعادة تشكيل العالم من جديد، وان تبادل مراكز القوة بين وحدات هذا النظام لا يعني تغيير النظام بحد ذاته، بل حتى إسرائيل التي خدعته بدعمها، فأن وجودها في الشرق الأوسط انما هو جزء من عوامل الضبط لهذا النظام، وان بعض التغييرات الطفيفة في خارطة بعض الدول الهامشية في أوروبا أو افريقيا او أسيا، انما ُسمح بها لكونها تحصل في مناطق تقع تحت سيطرة النظام ولا تهدد وجوده.
لقد سبق مسعود في المناداة بحق تقرير المصير الكثير من القادة في الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم القوميون العرب، وقيادة داعش الارهابية، لكن الجميع فشل في الوصول الى أهدافه، ولم ينل أكثر مما سمح له النظام الدولي بالحصول عليه ضمن الحدود السياسية والجغرافية المرسومة له، لكن ذلك لم يكن كافيا ليتعظ الرجل من أخطاء غيره، فقرر تكرار الخطأ نفسه، وليصدق عليه في النهاية قول الزعيم الألماني المشهور (بسمارك): "أن الحمقى من يتعلمون من تجاربهم".
ان قرار القيادة الكوردية المتهور بالاستفتاء لا يختلف كثيرا عن قرار صدام حسين بغزو الكويت في الثاني من آب 1990 الا انه أكثر غباء، فكلا القرارين جاء لتهديد قواعد عمل النظام الدولي، وستلقى القيادة الكوردية نفس العواقب الوخيمة التي تحملها صدام حسين عند غزو الكويت وربما أكثر قسوة.
ومن بين الأمور الأخرى التي لم يدركها مسعود ومستشاريه قصيري النظر هو انهم اختاروا أسوأ توقيت لاتخاذ قرار مصيري، فبعد المعاناة المستمرة من قبل العالم مع الجماعات الإرهابية، وما ترتب عليها من أزمات لاجئين، وتهديدات للسلم المجتمعي العالمي تراجع العالم كثيرا عن خيار تقديم الحرية على الأمن، اذ بات الأمن أكثر أهمية من الحرية في معظم الأحيان، فلم يعد ما يشغل العالم هو: كيف تنال الشعوب حريتها، وكيف تقيم أنظمتها الديمقراطية، بل كيف تبسط الدول سيادتها، وتمنع الإرهاب من تهديد جيرانها والعالم، وما تصاعد جماعات اليمين المتطرف في العالم، وبروز القادة الشعبويين، وكلمات الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) التي قال فيها: " أن أمريكا ليست معنية بنشر الديمقراطية في العالم" الا إشارات واضحة على تحول المزاج الشعبي والنخبوي للرأي العام العالمي، فكانت خطوة الاستفتاء الكوردي خطوة مهددة لا الأمن الوطني والإقليمي فحسب، وانما تهدد الامن والاستقرار العالمي، وهذا ما لن يقبل به احد.
لقد ارتكبت القيادة الكوردية في ادائها الكثير من الأخطاء التكتيكية، ولكن تجاهلها وعدم فهمها لحقائق النظام الدولي القائم، واختيارها التوقيت الخاطئ للتحرك سيظلان من الأخطاء الاستراتيجية التي لا تغتفر، اذ تجاوزت خطوطا حمراء كان يجب احترامها، في وقت تتم فيه معاقبة المخالفين بقسوة.
متى يعاد تشكيل الشرق الأوسط الذي نعرفه الآن
اندفع الكثير من الكتاب والمحللين والقادة السياسيين، ومنهم الكاتب الأمريكي المشهور (برنارد لويس) وراء الاعتقاد بأن الشرق الأوسط سيعاد تشكيله، وقد عُرضت الكثير من الخرائط الافتراضية للدول التي ستتفتت، وتلك التي ستظهر الى الوجود على أنقاضها، وظن البعض بعد الهجمة الداعشية الشرسة في العراق وسوريا وأجزاء أخرى من العالم ان زمن تحقيق هذا السيناريو بات قريبا او هو في متناول اليد، لكن فاتهم كثيرا ادراك ان الشرق الأوسط هو مجرد حلقات في شبكة النظام الدولي الشاملة، ولن تنفرط هذه الحلقات مالم تتمزق الشبكة بكاملها ليعاد تشكيلها من جديد، وفقا لتوازنات وقواعد جديدة تحكم العلاقة بين مركزها أو مراكزها واطرافها، وهذا الانهيار الكلي لن يحصل الا بحرب شاملة تطيح بالنظام برمته، وقد تكون هذه الحرب، كما اعلن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كيسنجر) أكثر من مرة بأنها " باتت على الأبواب" ، وأن طبولها " ُتدق بالفعل في الشرق الأوسط، والأصم فقط هو من لا يسمعها"، وعند ذلك فقط، أي عندما ينهار النظام الدولي القائم، ربما سيكون الكورد محظوظون في النظام الدولي الجديد، فيؤسسون دولتهم في الشرق الأوسط، اما قبل ذلك فلا يحلموا بأحلام تتجاوز الحدود المرسومة، فالأحلام المستحيلة مجرد أوهام نتحمل عواقبها الوخيمة.