تعمل المجالس التمثيلية في الدول الديموقراطية المتقدمة على تمثيل إرادة ناخبيها من خلال وضع قوانين ميسرة للعملية الانتخابية تساعد الناخبين على التعبير عن مواقفهم في التغيير السياسي. ولعل الانتخابات الفرنسية الأخيرة مثالا يحتذى به، لاسيما وأن حزب ماكرون يعد من الاحزاب السياسية الصغيرة في فرنسا، إلا أنه اكتسح الاحزاب الفرنسية التقليدية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وهذا دليل على مرونة النظام الانتخابي في فرنسا ودور المواطن الفرنسي في عملية التغيير السياسي، وهذا الحال ينطبق على اغلب الدول الديموقراطية. على العكس من الدول النامية والحديثة على التجربة الديموقراطية. فقانون الانتخابات في العراق أو ما يسمى بقانون سانت ليغو المعدل المعمول به في الانتخابات العراقية أحدث ضجة إعلامية وسياسية كبيرة في الأسابيع الماضية بعد تصويت مجلس النواب العراقي على عتبته الانتخابية بـنسبة (1.7). إذ دخلت القوى السياسية العراقية في صراع سياسي وإعلامي داخل أروقة البرلمان العراقي، واضطرت بعض الكتل السياسية إلى الانسحاب من مجلس النواب احتجاجاً على تمرير قانون الانتخابات بهذه الصيغة. ومُرر هذا القانون في جلسة مجلس النواب التي عقدت يوم الأثنين 7 /آب بموافقة أغلبية الحضور وبواقع (115) نائب من أصل (210) نائب.
إذ صوت البرلمان العراق في الاول من اب/ 2017، على 21 مادة من قانون انتخابات مجالس المحافظات فقط، واعتمد طريقة سانت ليغو في احتساب الاصوات وتوزيع المقاعد، وتعديل النسبة لتصبح (1,9) بدلا من (1) التي كانت معتمدة في الانتخابات المحلية السابقة، قبل أن يعاد التصويت على بعض فقرات القانون لتصبح النسبة (1.7) بدلاً من (1.9). ودارت أغلب الاعتراضات في قانون الانتخابات حول المادة (12) المتعلقة بتوزيع المقاعد وطريقة احتساب الاصوات الانتخابية.
وجاء تمرير هذا القانون نزولاً إلى رغبة القوى السياسية الكبيرة التي تحاول السيطرة على المشهد السياسي العراقي وأبعاد الاحزاب والتيارات السياسة الصغيرة من المنافسة في العمل السياسي سواء فيما يتعلق بالمنافسة على السلطة أو المشاركة في القرار السياسي أو التأثير فيه. ويعد هذا القانون بنسبته المعدلة هو محاولة من قبل القوى السياسية التقليدية لقطع الطريق إمام القوى والأحزاب السياسية الصغيرة، ليس في انتخابات مجالس المحافظات فقط، وإنما احاطتها والسيطرة عليها في الانتخابات البرلمانية القادمة.
اقرار هذا القانون مثل ضربة كبيرة وقاسمة لإرادة الشعب العراقي المطالب بإصلاح نظام الحكم ومعالجة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية، ومحاسبة المفسدين وابعادهم من المشهد السياسي العراقي. فتغيير الوجوه السياسية والحزبية اصبح مهمة عسيرة في ظل الإرادة السياسية والمرونة الكبيرة التي اعطيت للقوى السياسية الكبير في قانون سانت ليغو المعدل؛ لأن مواد هذا القانون تسعى الى احتكار السلطة وتأييدها، ومصادرة إرادة المواطنين في اختيار من يمثلهم في تلك المجالس النيابية المحلية والاتحادية، وإغلاق الطريق على مساعي التغيير والإصلاح الحكومي، لاسيما وأن إرادة القوى السياسية الصغيرة ستكون مرهونة بإرادة القوى السياسية الكبيرة دون تأثير.
ويأتي تمرير هذا القانون في ظل تهالك وتساقط مصداقية الأحزاب السياسية العراقية الحالية وفشل مشروع الإسلام السياسي من قبل الاحزاب السياسية الحاكمة، لاسيما تلك الاحزاب التي سيطرت على المشهد السياسي ومراكز صنع القرار الحكومي بعد عام 2003. ولذلك يعد هذا القانون إعادة انتاج للوجوه والاحزاب السياسية التقليدية وقتل لفرص التغيير الديمقراطي، وتكريس للمحاصصة والمشاريع الطائفية والفساد السياسي التي بُنيت عليها العملية السياسية العراقية. ويرى البعض بأن هذا القانون بنسبته المعدلة (1.7) سيبعد العمل السياسي عن الفوضى والانقسام وحالات التشظي في الآراء والمواقف السياسية؛ لأنه سيمنح القوى والاحزاب السياسية الكبيرة حرية أكثر بموازاة مواقف الكتل السياسية الصغيرة المتأرجحة. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن يمكن للقوى السياسية الصغيرة مواجهة تحديات هذا القانون وتفنيد مخاطره السياسية بما يخدم أو يتوافق مع تطلعاتها السياسية والانتخابية؛ وذلك من خلال اتباع سياسة التحالفات والائتلافات فيما بينها وتوحيد هدفهم السياسي والانتخابي ودخول الانتخابات بقوائم واهداف مشتركة من أجل منافسة القوى السياسية الكبيرة وتقويض مشاريعهم واهدافهم السياسية الساعية إلى التفرد في القرار السياسي والسيطرة على المشهد السياسي العراقي. فهل تتمكن القوى السياسية المعارضة لقانون سانت ليغو المعدل بنسبته (1.7) من توحيد هدفها السياسي والاندماج في مشروع وطني جامع يمّكنهم من منافسة القوى السياسية التقليدية التي سيطرت على المشهد السياسي العراقي بعد العام 2003 أم أنها ستبقى مشتتة في برامجها السياسية والحزبية؟ هذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة.