بين الحين والاخر تقوم الولايات المتحدة بفرض عقوبات على دول في العالم، ومنها ايران وروسيا وكوريا الشمالية، تشمل بعضها الاصول المالية او الهيئات الدبلوماسية او شركات النفط والغاز سواء كانت الوطنية او التي تتعامل مع هذه الدول. وفرض العقوبات يتم بحجج كثيرة منها ما يتعلق بحقوق الانسان، او التدخل في شؤون دول اخرى، او ان هذه الدول تشكل خطرا على المصالح الامريكية في العالم.
أقر مجلس النواب الأميركي يوم 25 تموز 2017 بأغلبية (419) صوت مقابل ثلاثة اصوات معترضة على مشروع قانون يفرض عقوبات جديدة على روسيا وإيران وكوريا الشمالية. وألزم القانون الرئيس (دونالد ترامب) بالحصول على موافقة النواب قبل تخفيف العقوبات عن موسكو، وان فرض العقوبات على ايران وكوريا الشمالية جاء بحجة قيام الدولتين بتجارب صاروخية تعدها الولايات المتحدة تهديدا للمجتمع الدولي وعلى مصالحها في العالم، وقضايا حقوق الانسان. اما فرض عقوبات على روسيا فقد جاء بسبب ضمها شبه جزيرة القرم، وعلى تدخلها في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، وتدخلها في ازمات الشرق الاوسط التي تعدها الولايات المتحدة منطقة نفوذ استراتيجية لها، وحقوق الانسان، وان هذه العقوبات فرضت على قطاعات النفط والغاز الروسي الذي يعد عصب الحياة للاقتصاد الروسي، اذ تعتمد روسيا بشكل كبير على صادرات الغاز لأوروبا واسيا، كما ان الغاز الروسي هو الطاقة الاساسية للدول الاوروبية التي تعتمد عليه بشكل كبير جدا.
ان المتابع للعقوبات الامريكية على ايران وروسيا يرى انها دائما تستهدف قطاعات الاقتصاد المختلفة بشكل اساس، وخاصة قطاع الطاقة، والشركات الصناعية الكبيرة، وقطاع المصارف. اذ ان الهدف من هذه العقوبات هو تعزيز قوة الاقتصاد الامريكي من خلال ضرب اقتصاديات دول منافسة لها في العالم. اذ ان فرض عقوبات على قطاع الطاقة (النفط والغاز) في روسيا وايران سوف يعزز عمل الشركات الامريكية التي تعمل في دول تنافس هذين الدولتين في مجال الطاقة، وتحاول ان تحل محل روسيا في تمويل دول اوروبية بالطاقة. فقد جاء الاعتراض الاول على هذه العقوبات من المانيا وفرنسا اولا، اذ عدت المانيا ان فرض عقوبات على روسيا وايران سوف يضر بالشركات الاوربية ومن ثم الاضرار بالاقتصاد الاوربي، لان هناك العديد من شركات الطاقة الاوربية تعمل في روسيا، وبدأت بعضها في التعاقد مع ايران للاستثمار في هذا المجال خاصة بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية عنها، لان ايران بحاجة الى شركات واموال اوربية لتنمية ثروتها الطبيعية، وتحسين اقتصادها الضعيف. وقد ذكرت بعض التقارير ان العقوبات الامريكية هي فرصة لتعزيز الاقتصاد الامريكي واعطاء مجال اكبر لعمل الشركات الامريكية في الشرق الاوسط، حتى ان زيارة الرئيس الامريكي (ترامب) للسعودية كانت تصب في هذا الاتجاه .
كما تسعى الولايات المتحدة الى تحجيم نفوذ روسيا وايران في منطقة الشرق الاوسط خاصة والعالم عامة من خلال هذه العقوبات، لان فرض العقوبات يعني انهاك اقتصاد هذه الدول وتراجعه، ومن ثم عدم توفر الاموال اللازمة التي تمكن ايران من الاستمرار في دعم نفوذها ودعم المجموعات التابعة لها في دول مثل سوريا والعراق واليمن ولبنان. كذلك الحال ينطبق على روسيا التي تعد الدولة رقم واحد المنافس للسياسة الامريكية في العالم، وان فرض عقوبات على قطاع الطاقة هو عمليا سينهك الاقتصاد الروسي ومن ثم تراجع دورها في الشرق الاوسط او في العالم،.
ان فرض عقوبات امريكية احادية الجانب على كلا من روسيا وايران – وان كانت تحدث بعض الاضرار- الا انها قد لا تحقق النتائج المرجوة منها، خاصة وسط ضجه عالمية ومعوقات داخلية واقليمية ودولية قد تقف عائقا امام تحقيق امريكا لأهدافها من هذه العقوبات ومنها:
1- ان هذه العقوبات تعد انتهاك للاتفاق النووي مع ايران عام 2015، لان الاتفاق كان يشمل المسائل النووية فقط ولم يتطرق الى الصواريخ البالستية وانتاجها، كما ان العقوبات تعبر عن تراجع امريكي عن التزامها الدولي تجاه الاتفاق النووي الذي اقرت به وذكرت مصادرها ان ايران ملتزمة به، ونقضه يفتح المجال لإيران للاستمرار في برنامجها النووي.
2- العقوبات الامريكية على روسيا وايران وكوريا الشمالية تعبر عن فوضى وصراع بين المؤسسات الامريكية حول قضايا الشرق الاوسط والعالم، فالصراع بين الكونغرس والادارة والامن القومي ووزارة الدفاع الامريكية تعبر عن خلل مؤسسي في هذه المؤسسات، وعن عدم اتفاق بينها. ففي الوقت الذي يحقق الكونغرس في اتهامات تدخل روسيا في الانتخابات الامريكية، نلاحظ ان بعض التقارير تؤكد ان الرئيس سيوافق على فرض العقوبات على روسيا. وتتضح الخلافات بين المؤسسات، من ان مشروع القانون ينص على آلية غير مسبوقة وهي منح النواب الحق في التدخل في حال قرر الرئيس تعليق العقوبات المفروضة على روسيا. ورغم اعتراض البيت الأبيض عليها، فقد أصر مسؤولو الحزب الجمهوري على إدراج هذا البند في مشروع القانون لتخوفهم من انفراج محتمل بين الرئيس (ترامب) ونظيره الروسي (فلاديمير بوتين).
3- عدم قناعة الرئيس بفرض العقوبات، فقد أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) غير مقتنع في فرض عقوبات على روسيا، وقال الرئيس (ترامب) إن القرار "معيب بدرجة كبيرة"، ودعا الكونغرس إلى عدم استخدام العمل على إعاقة الجهود الأمريكية لحل النزاع في أوكرانيا.
4- رؤية الرئيس (ترامب) غير الواضحة لأحداث المنطقة والعالم، وسياساته غير المستقرة والمتوازنة: ان نظرة الرئيس تنبع من المصالح الاقتصادية وتحقيق اكبر قدر من الارباح بغض النظر الى النتائج المستقبلية، اذ ان فرض عقوبات على الشركات النفطية التي تتعامل مع ايران وروسيا سوف يقود الى صراع دولي بين الولايات المتحدة والدول الاوربية، اذ ان الاخيرة اكدت بشكل صريح ان العقوبات سوف تضر بالاقتصاد الاوروبي اكثر مما تضر باقتصاديات الدول المفروضة عليها. هذا ما يقود الى بروز اعداء جُدد للسياسة الامريكية مستقبلا، على اعتبار ان الولايات المتحدة تدافع عن مصالحها الاقتصادية فقط دون النظر لمصالح حلفاءها الاوربيون وغيرهم.
5- اتساع حجم التبادل التجاري بين روسيا والولايات المتحدة، رغم حرب العقوبات ضد روسيا، الا ان التجارة بين البلدين حققت تقدم كبير، اذ ارتفعت بنسبة 20% في النصف الأول من العام الحالي، وبلغ حجم التجارة نحو 15 مليار دولار في النصف الأول من العام، ونمو واردات الولايات المتحدة من روسيا بمقدار الثلث، أي ما يقارب 30% وارتفعت صادرات الولايات المتحدة إلى روسيا بنسبة 26،7% ، ويمكن أن يقترب حجم التجارة من 30 مليار دولار بحلول نهاية العام، وهذا جاء نتيجة تأمين الشركات على نفسها، من خلال اتخاذ قرار بشراء المنتجات، التي يجوز فرض عقوبات عليها لضمان سير أنشطتها بصورة طبيعية في المستقبل. ولذلك فمن الممكن أن يحدث انخفاض في التجارة، ولكن على المدى البعيد.
6- ان هدف الادارة الامريكية من فرض العقوبات على ايران وروسيا هو كسب المزيد من اموال دول الخليج العربي وفرض الإتاوات عليهم، على اعتبار ان الولايات المتحدة تدافع عن مصالح هذه الدول في الشرق الاوسط. وهذه السياسة سلاح ذو حدين، ففي الوقت الذي تقود الى حصول الولايات المتحدة على اموال خليجية طائلة، وتحتكر السوق الخليجية لشركاتها الخاصة، فان الاستمرار فيها سيقود الى افلاس هذه الدول وحصول تذمر شعبي قد يقود الى احتجاجات على غرار ماسميت بثورات الربيع العربي، وهو ما حاصل الان في البحرين وشرق السعودية.
7- ان سياسة العقوبات ستقود الى الاضرار بالاقتصاد الامريكي قبل غيره، لان فرض عقوبات على دول بحاجة الى التكنلوجيا الامريكية سيضطرها الى اللجوء الى دول اخرى ذات صناعة متطورة. وهنا ستصبح الشركات الامريكية خارج هذه الاسواق، خاصة وان العديد من دول العالم بدأت تتذمر من العقوبات الامريكية، ولا تتعاون معها، بل تعارضها علنا، هذا سيكون عامل معرقل على تطبيق العقوبات الامريكية على روسيا وايران.
8- ان ايران دولة صناعية ذات اقتصاد نامي، وقد عادت للمجتمع الدولي بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية عنها، وهو امر اصبح مقبول لدى العديد من دول العالم، ولا يمكن للولايات المتحدة ان ترفض هذا الاتفاق او تتراجع عنه لوحدها، كما ان العديد من الشركات العالمية في الهند والصين وكوريا ودول اوروبا قد عقدت صفقات استثمار بمئات المليارات من الدولارات مع ايران، وهي غير مستعدة للتنازل عنها، لأنها تضمن ارباح كبيرة لهذه الشركات.
9- ان الدولتين روسيا وايران لديها اجراءات مقاومة للعقوبات الامريكية ، اذ طلبت روسيا من امريكا تخفيض اعضاء بعثتها الدبلوماسية في روسيا، وتجميد عدد من الاصول الامريكية في موسكو، فضلا عن التأثيرات العسكرية في انحاء عديدة من العالم. فروسيا تملك مخزونا ماليا كبيرا يجعلها تصمد امام العقوبات المفروضة عليها لسنوات طويلة، وان المخزون الروسي يستطيع الصمود لمدة اربع سنوات على الاقل من دون ان تظهر اي مشكلة في الاقتصاد الروسي.
ان فرض العقوبات الاقتصادية من قبل دولة ما على دول اخرى بغرض الاضرار بها قد يقود الى الاضرار بدول اخرى، بقصد او بغير قصد، وذلك لترابط العلاقات الاقتصادية العالمية، وان الكل اصبح الان يبحث عن الاستثمار والربح. اذ ان كثرة الدول الصناعية وقلة الموارد جعل التنافس بين الدول للحصول عليها هو سيد الموقف، كما ان فرض العقوبات على دول ضعيفة وغير متطورة وقليلة الموارد قد يعد امر مجدي لإخضاعها، الا ان فرض عقوبات على دول كبرى وصناعية وذات قوة عسكرية ولها تأثير اقليمي ودولي لغرض اخضاعها يعد ضربا من الخيال في العلاقات الدولية الحالية. لهذا فان فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على ايران وروسيا - حسب بعض التحليلات - لن يقود الى نتائج مرجوة منها، او خسائر كبيرة لهذه الدول، بل ستكون محدودة الاثر وستتلاشى تدريجيا، وذلك لتشابك المصالح الاقتصادية مع السياسية، وان حاجة الولايات المتحدة لهذه الدول في المنطقة والعالم كبيرة. وهناك تفاهمات بينهم على قضايا مهمة ومصالح مشتركة في سوريا والعراق وغيرها، لهذا فان هذه العقوبات هي مجرد ذر الرماد في العيون وللتغطية على التعاون الكبير بين هذه الدول، وهي سياسة تقليدية لغرض الوقوف بوجه الكونغرس لمعارضة الادارة الامريكية في بعض توجهاتها في العالم، وان تدخل روسيا في الانتخابات الامريكية والازمة التي تلتها في امريكا خير دليل على حاجة كل دول للأخرى في سياستها الخارجية.