منذ أن ظهرت التنظيمات الارهابية (القاعدة وداعش وغيرها) في العراق بعد عام 2003، كان الهدف منها لإثارة الفتنة الطائفية في دول المنطقة من خلال استهداف المكونات القومية والدينية واثارة بعضها ضد بعض وعُدت هذه التنظيمات نفسها مدافعا عن السُنة في العراق. ثم وبعد انتقالها الى سوريا مع بداية الاحداث فيها عام 2011, بدا باستخدام نفس الاسلوب من خلال تمزيق الشعب السوري. وبهذا، ومن خلال كل التحليلات، كانت المجموعات الارهابية ولا زالت وسيلة لتحقيق الاهداف الدولية والاقليمية في سوريا والمنطقة وتقسيمها إلى دويلات وكانتونات طائفية وقومية. وعندما بدأت الأزمة السورية عام 2011، والتي كان مخططا لها ان تنتهي بمدة قصيرة جدا ويسقط النظام السياسي ويتم تقسيم سوريا، كان تحرك المجموعات المسلحة بطريقة منظمة. بحيث تتحرك كل مجموعة بالمنطقة المحددة لها، حسب خريطة التقسيم. فكانت كل المجموعات متفقة على هدف واحد هو اسقاط النظام السياسي اولا, وهناك تعاون بينها ضد الجيش السوري. وعلى الرغم من أن خريطة العمليات في سوريا بين النظام السوري وحلفائه وقوات المعارضة وحلفائها في تغير مستمر، الا أن التقدم الذى حققته المعارضة السورية بعد عام 2014 كشف عن خريطة جديدة للنزاع المستمر منذ أكثر من 4 سنوات. وأن هذا التقدم سوف يؤدى الى المزيد من التعقيد داخل الأراضي السورية بل ويعزز من التطورات الميدانية التي ربما تؤدى إلى التقسيم بـ "حكم الأمر الواقع". ثم جاء بعدها اتفاقات خفض القتال او وقفه في بعض مناطق سوريا، عبر لقاءات استانا، واخرها كان يريد رسم خرائط لمناطق وقف اطلاق النار أي عدها قضية حتمبة وليس مؤقتة.
ان المشروع الدولي الجديد في المنطقة هو دعم جماعات وأحزاب التكفير التي تقاتل لإنشاء دويلات دينية تكفيرية. وقد احتضنت بعض الدول الكبرى والاقليمية هذه الجماعات لأنها تحقق لها مشروعها الجديد وهو تقسيم دول المنطقة تحقيقا لرغبتها في الهيمنة. فقد دخلت الولايات المتحدة الاميركية وبقوة على خط التفاهمات في سوريا من خلال انزال قواتها في شمال سوريا بحجة دعم قوات سوريا الديمقراطية ، المكونة في غالبيتها من الاكراد، لقتال تنظيم داعش الارهابي في الرقة. سبقها سيطرة هذه القوات على مناطق في شمال سوريا مثل تل ابيض وعين العرب وعفرين وهدفها هو الوصول للبحر الابيض المتوسط. كذلك انزلت الولايات المتحدة الاميركية قواتها في جنوب سوريا قرب الحدود مع العراق والاردن عند منطقة التنف وهدفها منع وصول قوات الحكومة السورية لهذه المنطقة الاستراتيجية. كذلك استمرار الدعم الامريكي للمعارضة السورية المسلحة في الجنوب وخاصة في المناطق القريبة من اسرائيل، فضلا عن تواجد قوات تركية متمركزة في شمال سوريا عند اعزاز مهمتها دعم فصائل سورية تابعة لها، ومنع قوات سوريا الديمقراطية من التقدم والعبور غرب الفرات او الاقتراب من الحدود التركية.
وعلى الرغم من تمدد داعش داخل الأراضي السورية على حساب قوتين أساسيتين هما قوات النظام السوري والمسلحين الموالين له من جهة وتنظيم جبهة النصرة والأكراد من جهة أخرى، الا التنظيم تقدم في حربه مع الجيش السوري في الريف الجنوبي الغربي لمدينة تدمر الأثرية، وتمدد في ريف حمص عبر السيطرة على بلدة البصيري جنوب تدمر التي استولى عليها في 21 آيار 2015. وتتمثل أهمية بلدة البصيري في إنها تقع على مفترق طرق يؤدي الى دمشق جنوبا والى حمص غربا واستولى على منطقة الجزيرة شرق سوريا. الا ان التنظيم بدا يتراجع بشكل كبير امام تقدم قوات سوريا الديمقراطية المدعومة امريكا في شرق سوريا وخاصة في الرقة معقل التنظيم الاساسي. فقد بدأت هذه القوات بالتقدم نحو الرقة من الشمال والشرق محققة بعض التقدم، وذلك من اجل السيطرة على مدينة الرقة معقل تنظيم داعش الارهابي الرئيس في وسط سوريا وضمها للكانتون الكردي في الشمال. كذلك ان انتزاع الرقة من تنظيم داعش الارهابي يعني عمليا فصل معاقله الاخرى في شرق سوريا والسيطرة عليها. الا ان هذه الخطة تم كشفها من قبل الجيش السوري لذا نراه يتقدم وبقوة نحو مدينة الرقة من جهة الجنوب والغرب وحقق تقدما مهما من خلال السيطرة على مواقع مهمة والتقدم على مطار الطبقة للسيطرة عليه لمنع سيطرة الاكراد عليه واستخدامه من قبل الجيش الامريكي.
ان تقدم جبهة النصرة وحلفاءها نحو شرق وشمال حلب السورية والسيطرة عليها عام 2012، انطلاقا من الاراضي التركية، هو الآخر كان محاولة من قبل المجموعات المسلحة المدعومة من قوى دولية واقليمية من اجل السيطرة على شمال سوريا بالكامل في محاولة من الولايات المتحدة لإضعاف كل من الجيش السوري النظامي والمعارضة المعتدلة لإفساح المجال للأكراد للتقدم بدعم التحالف الدولي للسيطرة على شمال سوريا لإقامة اقليم خاص بهم. وهو ماكان واضحا من سير المعارك في حلب.
فبعد سيطرة المعارضة على اجزاء واسعة من حلب تقدمت قوات سوريا الديمقراطية نحو شمال حلب واستولت على عدد من المناطق، بعدها تمكن الجيش السوري، بدعم من القوات الروسية، من السيطرة على حلب واستعادتها من المعارضة المسلحة عام 2016. وقد كان للتوافق الروسي التركي دورا في تسهيل مهمة الجيش السوري في حلب، وذلك خشية الاتراك من تقدم الاكراد نحو عفرين في شمال سوريا وربط مناطقهم المتناثرة في الشمال السوري.
وفي الشمال, على الرغم من وصول تنظيم داعش الارهابي إلى مسافة كيلومترين تقريبا من مدينة الحسكة السورية، وخوض معارك شرسة مع الجيش السوري وفي الشمال في محافظة حلب وسيطرته على مساحة تقارب الـ300 ألف كيلومتر مربع من الأراضي بين سوريا والعراق، الا انه بدا بالتراجع وخسارته للعديد من المعارك مع المقاتلين الأكراد في أجزاء من محافظتي الحسكة وحلب ودير الزور. صحيح ان المقاتلون الأكراد قد استفادوا من الدعم الجوي المقدم من طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الا أن تقدمهم في محافظة الرقة السورية معقل تنظيم داعش الإرهابي وسيطرتهم على منبج والباب والتقدم نحو حلب يضع أكثر من علامة استفهام. فقد تمكنوا بالفعل من السيطرة على قرى عدة في محافظة الرقة معقل التنظيم، كذلك سيطرتهم على منطقة تل ابيض في محافظة الرقة على الحدود مع تركيا. وبهذا فهناك تقدم واضح للمقاتلين الأكراد في المناطق الكردية وانسحاب داعش منها.
وهذا لا يعني أن المقاتلين الأكراد أقوى من تنظيم داعش, بل هناك سيناريو قد وضع مسبقا لتقسيم سوريا. اذ نلاحظ أن المقاتلين الأكراد على الرغم من أنهم يعدون تنظيم داعش عدوا لهم ويرفضون أي تعاون مع الحكومة والجيش السوري في قتاله ضد داعش. ففي هجوم التنظيم على الجيش السوري في الحسكة، نلاحظ أن الأكراد يأخذون منحى الحياد وعدم التدخل. وقيام الاكراد اخيرا بالهجوم على الجيش السوري في الحسكة بدعم امريكي للسيطرة عليها، وقيام المقاتلين الأكراد بتهجير العرب والتركمان من المناطق التي دخلوها في شمال سوريا وآخرها تهجير الآلاف من العرب والتركمان من مدينة تل ابيض صوب تركيا في عملية تطهير عرقي ممنهج.
لقد بدأت الطموحات الكردية في النمو بعد اللقاءات بين وحدات حماية الشعب الكردي في سوريا وأقليم كردستان في العراق، وهو الأمر الذي لم يكن وارد الحدوث في الماضي، وجاء بتنسيق من قبل المخابرات الامريكية في المنطقة. وبهذا فأن الزعماء الأكراد وجدوا نقطة تجمعهم من خلال محاربة تنظيم "داعش".
والملاحظ ان جبهة النصرة وداعش رغم تقدمهم في اللاذقية ذات الأغلبية العلوية لأكثر من مرة، ألا انهم ينسحبون منها في مواجهتهم مع الجيش السوري. صحيح ان هذه المناطق هي موالية للنظام السوري بشكل مطلق، وقد يكون عدم وجود حواضن للتنظيمات الارهابية المسلحة سبب في عدم تمكنهم من السيطرة عليها، الا ان الملاحظ من جهة اخرى ان التنظيم لم يركز على هذه المدن كثيرا بل يكون هجومهم لإشغال الجيش السوري لا اكثر من اجل التقدم في مناطق اخرى في شمال وشرق سوريا. اذ في الوقت الذي ركزت فيه الحكومة السورية قبل التدخل الروسي المباشر عام 2015 للدفاع عن العاصمة ومناطق الساحل السوري ومراكز بعض المدن في الوسط السوري، ركزت المعارضة المسلحة والمجموعات الارهابية على مدن مهمة مثل الرقة والحسكة وحلب وادلب وريف حمص ومناطق في ريف دمشق ودرعا والجزيرة والبادية السورية. وهذا يدل حسب بعض التحليلات عن وجود مخططات مسبقة لهذه التنظيمات بالسيطرة على مناطق محددة من اجل ان تكون اهدافا للتقسيم القادم في سوريا.
كذلك يأتي عدم استهداف المجموعات المسلحة والتنظيمات الارهابية لبعض الاقليات في سوريا لاتخاذها ادوات للتقسيم. اذ اعلن تنظيم جبهة النصرة انه سوف يحاكم مسلحيه الذي اتُهِموا بقتل اكثر من 20 درزيا سوريا في ادلب بعد دخولها عام 2015, وذلك بعد الانتقادات التي جاءت من اسرائيل ضد هذه المجزرة. كما ان العديد من التقارير اشارت الى ان هناك غرفة عمليات للمخابرات الامريكية البريطانية في الاردن قد امرت المجموعات المسلحة بعدم الهجوم على الدروز في محافظة السويداء السورية، والتي تتهمهم الجبهة بأنهم موالون للجيش السوري. وهذا تكتيك جديد غير مسبوق يُتبع من قبل التنظيمات الإرهابية بالتعاون مع بعض دول المنطقة وامريكا وبريطانيا التي هي من المفترض انها تحارب التنظيمات الارهابية، والهدف منه هو سلخ المجموعات الدينية في سوريا عن الدولة والنظام وأعطاها وزنا مستقلا تمهيدا لتجزئة الدولة. حتى ان المجموعات المسلحة لكلا التنظيمين اوقفت هجومها على الدروز في السويداء, وكأنهم ينفذون مخطط معد مسبقا في حربهم مع قوات النظام السوري.
كذلك نلاحظ ان قوات التحالف الدولي التي تقوم بعمليات جوية ضد التنظيمات الإرهابية – النصرة وداعش- في سوريا وتتدخل عندما ترى ان احد التنظيمات قد خرق قواعد اللعبة. وهذا واضح من تدخل التحالف بقوة ضد هجوم داعش على مدينة عين العرب – كوباني- ذات الأغلبية الكردية على الحدود مع تركيا واجبر التنظيم على التراجع. وبهذا لا نلاحظ للتحالف اي دور ضد داعش عندما احتل مدينة تدمر الاثرية في حمص, وهو السيناريو ذاته يطبق في العراق, اذ نرى أن أي تقدم لداعش صوب مناطق الأكراد يواجه بقوة من قبل قوات التحالف. ولكن هذه القوة والرد لم نلحظها عندما دخل داعش إلى محافظات نينوى والانبار وصلاح الدين وديالى وكركوك العراقية في حينها. كما انه وعلى الرغم من ان الامم المتحدة والولايات المتحدة والكثير من الدول الغربية اصدرتا قرار باعتبار جبهة النصرة من المنظمات الارهابية, الا ان التحالف الدولي لم يتدخل ضد جبهة النصرة عند احتلالها مدينة ادلب، وضد تواجدها في درعا. ولا زالت عمليات الدعم المعنوي والعسكري للجبهة تأتي من إسرائيل تركيا وقطر والسعودية والاردن, بل تم اعتبار مناطق تواجد النصرة في جنوب سوريا ضمن مناطق وقف الاقتتال فيها. ولم نرى اي اعتراض من قبل الامم المتحدة او الدول الاخرى.
هذا التقسيم الجديد الخاضع للتطورات الميدانية يؤكد الخشية من حصول "تقسيم بحكم الأمر الواقع" في سوريا حيث وجود النظام السوري في المنطقة الممتدة من دمشق في اتجاه الشمال نحو الوسط السوري الجزء الأكبر من محافظتي حمص وحماة وصولا إلى الساحل غربا وطرطوس واللاذقية وحلب وتدمر وصولا للحدود العراقية. بينما تتراجع سيطرة تنظيم داعش الارهابي على المنطقة الشرقية والرقة لصالح تمدد الاكراد نحو شمال وشرق سوريا. اذ يسيطر الأكراد على مناطق واسعة في القامشلي والحسكة وشمال حلب والرقة واجزاء من دير الزور. وهناك دولة النصرة في أدلب في الشمال، ودرعا في جنوب سوريا، بينما تتواجد القوات الامريكية في شمال سوريا لدعم الاكراد، وفي الجنوب لدعم مجموعات مسلحة من المعارضة السورية كالجيش الحر والنصرة، ويبقى الدروز في مناطقهم المحدد لهم سلفا.