عند مراجعة كتب الفلاسفة - الفارابي مثلا- نجد لديهم تشبيه جميل للدولة بجسم الإنسان، فيعدون الرئيس بمثابة الرأس، والطرق والمواصلات بمثابة الشرايين والأوردة، والقوة العسكرية بمثابة الأذرع وهكذا بالنسبة لبقية مفاصل الدولة، وجمال هذا التشبيه يتضح عند تصور إمكان نمو احد أجزاء الجسم البشري بشكل يفوق البقية إذ كيف يمكن تخيل هكذا إنسان؟ وعلى سبيل المثال كيف يكون إنسان رأسه بحجم بقية جسده؟ حتما مثل هذا الإنسان سيكون مشوه الخلقة وبعيد عن الكمال، كذلك الحال بالنسبة للدولة –أية دولة– إذا ما تضخم دور إحدى مؤسساتها على بقية المؤسسات ستكون دولة مشوهة البناء وتجر الخراب والوهن لأبنائها.
ومن هذه المقدمة ننطلق في الحديث عن دور المؤسسة العسكرية العراقية في بناء الدولة، وما يمكن أن يؤشر من مخاوف مستقبلية على مسار العملية السياسية الجارية – الآن- في البلد ،فكما يعرف الجميع إن القوة العسكرية في أي دولة إنما تعد لحماية الحدود الخارجية للدولة من أي اعتداء خارجي، وكفاءة أفراد هذه المؤسسة إنما تتضح عند نجاحهم في تحقيق هذا الهدف، تاركة ضبط شؤون الأمن الداخلي للقوى الأمنية المرتبطة بوزارة الداخلية بكافة تشكيلاتها، ومتخذة جانب الحياد فيما يتعلق بالخلافات السياسية بين الفرقاء الداخليين. لكن هذا الكلام لا يصح بمجمله بالنسبة للمؤسسة العسكرية العراقية، فقد استخدمت هذه المؤسسة منذ نشوئها لتكون وسيلة بيد السلطة لضرب مواطنيها أكثر من حماية حدودها الخارجية، إذ يذكر التاريخ كيف استخدم العراق الملكي في بداية تأسيسه العسكر في إخضاع العشائر في مناطق العراق المختلفة، فكان قصب السبق للقوة على الكلمة في حل الخلافات السياسية، بل وصنعت القوة صورة نمطية للسلطة في أذهان العراقيين مرتبطة بالخوف والقهر والإذلال، بدلا من أن تمارس الكلمة دورها في الارتقاء بالوعي السياسي للشعب العراقي بما يعزز المواطنة والحس الحضاري المشترك،
وتعاظم مع الأيام شعور الناس بأن السلطة تبني المؤسسة العسكرية لحمايتها من مواطنيها وليس للدفاع عن تراب الوطن وأهله، وأدى هذا الدور المعكوس للعسكر في العراق إلى أن يقود هؤلاء أول انقلاب عسكري في المنطقة بقيادة بكر صدقي عام 1936 بتآمر مشترك مع السلطة - آنذاك- التي كان محورها الوصي عبد الإله ومن لف في ركبه للتخلص من وضع سياسي غير مرغوب فيه، فكان العسكر أداة لحسم الخلافات السياسية لطرف سياسي على حساب طرف آخر، ثم تكرر هذا المشهد العراقي بامتياز بعد ذلك بوقت قصير من خلال تآمر جديد يشترك فيه العسكر مع رجال السلطة وذلك بتحالف رشيد عالي الكيلاني مع العقداء الأربعة فكانت أحداث مايس عام 1941، واستمر الفشل السياسي يقود إلى تضخم وانفلات في إدراك المؤسسة العسكرية لدورها حتى وصل الأمر إلى عدم اكتفاء أفراد هذه المؤسسة بالتحالف مع احد الأطراف السياسية، بل طمعوا في طرح السياسيين جميعاً خارج اللعبة واخذ المبادرة للإمساك بكامل السلطة من خلال انقلا بـ عام 195، وبصرف النظر عن أسباب ودوافع هذا الانقلاب، فأن مجرد حصوله هو علامة سيئة في حياة الأمم والشعوب عندما يفشل سياسيوها في ضبط أمورها. وبعد هذا التأريخ أخذت الأحزاب السياسية العراقية كافة الوطنية والقومية والأممية تضع في أجنداتها استقطاب أفراد المؤسسة العسكرية لاستغلالهم في الوصول إلى السلطة فتمزقت المؤسسة العسكرية العراقية بين هذه الأحزاب ومعها تمزق البلد أرضاً وشعبا أشلاء في مسلسل درامي دموي من الانقلابات العسكرية التي توجت بانقلاب 1968 البعثي وما جره من كوارث على البلد سواء على الصعيد العسكري أو على الصعيد السياسي ، فلم تكن مغامراته العسكرية مدروسة بلغة عسكرية تحدد نجاحها لان العسكري العراقي المحترف غيب وتم تجاهل دوره ورأيه من قبل قيادات سياسية لا تعرف ألف باء العلوم العسكرية، ولم تكن الأبعاد السياسية الداخلية والخارجية مفهومة أو ذات تأثير جيد على الداخل أو الخارج العراقي، لعدم جدارة السياسي للقيام بدوره، وبدون الخوض في التفاصيل الكارثية المعروفة للجميع، فأن تفسيرها يعود إلى ذلك الهجين المشوه الذي نجم عن خلط الأدوار والـتآمر المقصود بين السياسي والعسكري العراقي، والذي انتهى في عام 2003 بإصدار قرار إعدامه من خلال حل المؤسسة العسكرية العراقية وحل كافة المؤسسات الحزبية والسلطوية المشاركة في بقائه أو التي تشكل جزءا منه، وبصرف النظر عن الآراء الرافضة أو المنددة بهذا القرار، فان القرار كان صحيحاً لان الورم الخبيث لا يعالج إلا بالبتر وتركه والقبول بوجوده لن يؤدي إلا إلى هلاك الجميع، كما لا يمكن توقع نجاح المعالجة غير الجذرية، وكان الأمل –ولا يزال– بعد ذلك القرار أن تبدأ ولادة جديدة لمؤسسة عسكرية عراقية محترفة لا تتجاوز دورها المطلوب منها، إلى جانب ولادة صحيحة لبناء مؤسساتي يمارس في ظله السياسيون عملهم السياسي بصورة فعالة تأخذ عبرة من الماضي القريب، على الرغم من صعوبة المهمة، ووعورة المسار، وجسامة التحديات التي تواجه الولادتين، لكن الأحداث التي جاءت بعد ذلك، وما يراه المراقب والمحلل لها يثير الخوف من مسارها المستقبلي، وفي هذا الصدد يمكن أن نستحضر خوف الرئيس الأمريكي آيزنهاور في نهاية الخمسينات عندما حذر مواطنيه من سيطرة المركب الصناعي –العسكري– السياسي على مقاليد الأمور في أمريكا بش كل يكون على حساب حرية ومستقبل المواطن الأمريكي، وبالفعل أثبتت الأيام صدق مخاوفه وهو الأمر الذي لا ينكره المهتمون والعارفون بالشأن الأمريكي، وبالقياس على ذلك –فيما يتعلق بالشأن العراقي– نود أن نطلق صرخة تحذير للساسة والمسؤولين وأصحاب القرار في العراق في الوقت الحاضر ندق بها ناقوس الخطر من احتمال إعادة إحياء جديدة للهجين الذي لعب بأرواح وسيادة العراقيين طيلة عمر الدولة العراقية الحديثة، حيث إن بوادر هذا الأحياء أصبحت موجودة وقوية تعززها تصرفات الساسة والعسكريين كل يوم، لاسيما إن المؤسسة العسكرية العراقية عادت تحصد من أرواح العراقيين أكثر مما تحصده من أرواح الأجانب الذين يعبرون الحدود، كما إن القوة العسكرية عادت - أيضاً- لتكون أداة حسم لصراعات سياسية فشل الساسة في وضع حسم لها، وظهرت في الأفق بوادر تآمر جديد بين الساسة والعسكر سوف يكبر خطره في المستقبل إذا لم يوضع له حد وبسرعة. قد يقول البعض من أصحاب القرار إنهم أصحاب قضية صحيحة، وان دور الجيش يحظى بقبول الشعب، وان ظروف ما بعد 2003 لا تقاس بظروف 1921، وان الكلام بهذا الشكل ينطوي على التشاؤم وتضخيم الأمور، إلا إنهم في انسياقهم هذا يسيؤون التقديرات وسوف يتكرر المشهد العراقي الآنف الذكر مرة أخرى بشخوص وظروف جديدة قد تكون نتائجها مأساوية أكثر، إذا المطلوب لتلافي هذا المصير هو الارتفاع عن المصالح الآنية والضيقة والعمل من اجل المصلحة العراقية العليا، واكبر خدمة يقدمها أي وطني عراقي نزيه هي احترام حدود الأدوار المرسومة لكل مؤسسة من مؤسسات الدولة، ولاسيما دور المؤسسة العسكرية، وفك الارتباط التآمري بين السياسي والعسكري العراقي لأن هذا الارتباط مكاسبه آنية لكن مآسيه كبيرة وطويلة على كلا الطرفين، كما يجب أن يكون للكلمة قصب السبق في فض النزاعات السياسية وإعادة اللحمة بين أبناء الشعب العراقي، والارتقاء بمستوى وعيه.
2024-11-20 ,
45 , سياسة