بالأمس عندما كانت عقارب الساعة السياسية تدور في فلك الهيمنة الأوربية، وكان العالم الثالث حينئذ يخضع قهراً لتقديرات هذا التوقيت العالمي وإملاءاته، بحث المنظر الجيوبولتيكي (ماكندر) عن (قلب العالم) حتى استقرت بوصلته الإستراتيجية في شرق أوربا بفضل مزايا الموقع والموارد والصراعات الدامية التي غذتها أطماع التوسع باتجاه الشرق، فأصدر حكمه: بأن من يسيطر على هذه المنطقة يسيطر على العالم، وكان هذا الإقليم بالفعل مسرحاً لأهم الحروب في تاريخ العالم.
واليوم بعد أن شغل العملاق الأوربي الموحد هذه الرقعة الحيوية من العالم وسد ثغراتها حتى انقطع عنها سبيل المغامرين الدوليين وخمدت فيها نار المنافسة والصراعات، استدارت دفعة الاهتمامات الدولية وعقارب الساعة السياسية لتكشف عن (قلب جديد للعالم) يمتد على شكل نطاق مستعرض من أفغانستان وحتى لبنان، وفيه أكبر خزين للطاقة في العالم، وعلى أرضه استوطنت حضارات عريقة وشعوب ذات تركيبة قومية مذهبية متنوعة، مثلما استوطنت صراعات إقليمية شرسة ومزمنة لم تخمد نارها حتى اليوم بدءاً من الصراع العربي الإسرائيلي وانتهاءً بالصراع الهندي الباكستاني، وعند تخومه تقع أهم القوى المرشحة للتنافس على الزعامة العالمية مستقبلاً.
وهكذا وجدت الولايات المتحدة في هذا القلب الأرضي الجديد النابض بالحيوية، مفاتيح السيادة العالمية المستقبلية مطمورة في أرضٍ رخوة تمور بصراعاتها السياسية وتنوعاتها الاجتماعية وعداء أهم قواها الحضارية للهيمنة الأمريكية.
وعلى خط المواجهة الحضارية مع قوى التطرف التي انبعثت من هذه الأرض لتوجه أخطر تهديد لأمن الولايات المتحدة ومستقبلها، أعادت الأخيرة تشكيل ملامح إستراتيجيتها في هذه المنطقة والعالم للمرحلة القادمة استناداً إلى مرتكزات جيوثقافية استبدلت بها طروحات ماكندر الجيوسياسية حول القلب الأرضي وموقعهُ، وترتيباً على ما تقدم، انقضت الكماشة الإستراتيجية الأمريكية بأسلوب الإجهاز العسكري المباشر على الطرف الشرقي لهذا النطاق الساخن ممثلاً بأفغانستان ثم انقلبت باستخدام الأسلوب ذاته للسيطرة على العراق (مركز النطاق والقلب الأرضي)، ولتثبيت ركائزها الإستراتيجية شرعت الولايات المتحدة –بعد ذلك- بعمليات الترويج الإستراتيجي لأعداءها والترويض السياسي لحلفائها عبر قنوات الإصلاح الديمقراطي داخلياً والانخراط في مسار التطبيع مع إسرائيل وتشكيل ما يعرف بـ الشرق الأوسط الجديد إقليمياً، والانغماس المكثف في محيط العولمة عالمياً، وتحت جناح السعي لغاية مؤداها إعادة تفكيك وهيكلة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة لتحقيق شرق أوسط جديد خاضع لهيمنة الولايات المتحدة وحليفها إسرائيل، أجادت واشنطن ورقتي الإصلاحات الديمقراطية والتنوعات الاجتماعية والثقافية لإشعال فتيل الفوضى سبيلاً لإنهاك قوى المنطقة ونزع أشواك المقاومة عنها لخلق شرق أوسط جديد أي إنها (الفوضى الخلاقة) كما وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية وهذه الإرهاصات قد بدت أوضح على الضفة الغربية من القلب الأرضي الجديد في لبنان وفلسطين حيث استكملت واشنطن تثبيت الفك الغربي لكماشتها الإستراتيجية الطائفية ولكن بأسلوب سياسي قائم على توظيف مخرجات اللعبة الديمقراطية النخبوية في لبنان والرخوة (في فلسطين لإشعال فتيل الفوضى والتناحر بين الأشقاء في الوطن الواحد كمدخل لتحقيق إرادتها في تفتيت بنية هذه البلاد وإخضاعها عن طريق الارتباط الرأسي بالنخبة الحاكمة لإرادة ومرامي الإستراتيجية الأمريكية.
والواقع إن مدى الإصابة بسلاح الديمقراطية المدعومة أمريكياً يتعدى مرمى شد النخب السياسية إلى دولاب الإستراتيجية الأمريكية أو ابتزازها لتقديم المزيد من التنازلات، إلى مرمي أخرى تتمثل بإحياء النزاعات القومية والطائفية وافتعال كيانات لم تكن موجودة على الخارطة السياسية، وتتمثل ثانياً في الإجهاز على المد الإسلامي من خلال استنزاف مصداقية الأحزاب الإسلامية التي نجحت -بأسلوب ديمقراطي- في الوصول إلى السلطة كما هو الحال في العراق وفلسطين، أو استخدام أدوات السلطة القمعية لمكافحة واحتواء ذلك المد الإسلامي كما يحصل في مصر وتونس والجزائر.
وعند تحليل تلك الحزمة من الإجراءات الإستراتيجية الأمريكية بموشور الواقع الموضوعي يرشح لنا أفق الترابط الجدي بين نمط الإرهاصات التي تعيشها دول النطاق الساخن أو القلب الأرضي الجديد وبين إسقاطات الدور الأمريكي في المنطقة وانعكاسيتهُ على أحداثها حتى جاز الاستنتاج بأن طريق المستقبل أخذ يتجه صوب المزيد من الضعف والتشتت والتفكك، وحتى الإصلاح الديمقراطي الموعود سينتهي عند حدود إشعال الفتن وتخريب الوطن وتفكيكهُ.
2024-11-20 ,
44 , سياسة