شغلت احداث ليلة الخامس عشر من تموز-يوليو الماضي في تركيا وما تلاها من عمليات تطهير للقوى المشاركة في الحركة الانقلابية الفاشلة اهتمام الرأي العام الدولي، فظهرت الكثير من التحليلات التي تتحدث عن دوافع الحركة، والقوى التي تقف خلفها، واسباب فشلها، وتداعياتها المحتملة على الوضع الداخلي في تركيا وعلاقاتها الخارجية. ونظرا لحساسية ما يجري في تركيا على جارها الجنوبي (العراق) فقد أخذت العلاقة بين البلدين ومقدار تأثير الانقلاب الفاشل على الوضع في العراق -لاسيما مع الملفات المعقدة التي تتقاطع وجهات نظر الطرفين حولها- حيزا في اهتمام هذه التحليلات، ومنها مقال للمحلل الاستراتيجي الامريكي (مايكل روبن) المسؤول السابق في البنتاغون والذي اغلب مناطق ابحاثه هي الشرق الأوسط، وقد نشره (معهد المشروع الامريكي) تحت عنوان (كيف سيؤثر الانقلاب التركي الفاشل على العراق).
يبين السيد روبن في مقاله أن" هناك اجماع في الولايات المتحدة والعراق على ان عمليات التطهير العسكري الجارية سوف تعيق محاربة تركيا لتنظيم"داعش"، ومع احتجاز ثلث قادته وهروب اخرين خارج البلاد لايمكن ان يقوم الجيش التركي بعمله حتى لو طلب منه الرئيس اردوغان ذلك، كما ان هناك اعتقاد شائع في العراق بأن اردوغان يقوم بتمويل "داعش" سراً". ويضيف " فيما يتعلق باعتقاد حدوث الامر ذاته في العراق، هناك اختلافات كبيرة بين انقرة وبغداد ، اذ ان اردوغان ضيق الخناق على تركيا على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية ويسعى الآن الى الدخول في فترة من الديمقراطية المطلقة، لكن منذ استعادة العراق لسيادته عام ٢٠٠٤ مر بأربع حكومات، لكن لم تصل اي منها الى مستوى حكم اردوغان. يمر كلا البلدين بوضع سيء، ففي العراق ولد اكثر من ٤٠٪ من العراقيين بعد سقوط صدام فضلا على وجود فئة اخرى من الاطفال في ذلك الحين، اما النصف الآخر من العراقيين لم يلمسوا سوى الدور غير الفاعل للحكومات وذكريات مؤلمة عن الدكتاتورية. ربما لم يقم الجيش العراقي بما قام به نظيره التركي من اجل تنفيذ الانقلاب، على الرغم من ان لدى العراق- كجاره الذي يقع الى الشمال- تاريخ حافل بالانقلابات، لكن اذا حاولت وحدة عسكرية القيام بهذا الأمر فلن يكون هناك اي تأييد من قبل العراقيين لحكومة المنطقة الخضراء. وحتى لو استقر العراق فأن دكتاتورية اردوغان تنبيء بمزيد من التوتر بين بغداد وانقرة، وان اردوغان شخص طائفي وكرهه للشيعة ربما يتجاوز كرهه لليهود، ولهذا سيوجه حكومته بتقويض التقدم والتنمية في العراق؛ بسبب كرهه لطائفة معينة "الشيعة"، وعندما يتعلق الأمر بالحرب الطائفية فقد تتجاوز تركيا وقطر السعودية كأكبر مشجع على التطرف السني، وان حقيقة الوضع السياسي في الشرق الأوسط تكمن في احتمالية شن تركيا وايران حربا طائفية بالوكالة في العراق بينما تحتفظان بالعلاقات الودية بينهما. فضلا على ذلك هناك قضية كردستان، وبما ان الجيش التركي لن يكون قادراً على مواجهة تنظيم"داعش"، فلن يتمكن من اخماد ومواجهة التمرد الكردي المحتدم الآن في جنوب شرق تركيا، ويبدو ان تقوية اردوغان للسلطة جاء في مصلحة رئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، بعد هذا كله فإن بارزاني واردوغان شركاء تجاريين لكن في حال عدم حدوث انقلاب في كردستان العراق فسيكون هذا الانقسام نفسه الذي يضعف قدرة بارزاني على سحق المعارضة، كما ادت الفوضى الجارية في تركيا على تقوية حزب العمال الكردستاني الذي لديه اتباع في كردستان العراق، وخاصة من الايزيديين".
نظرة تحليلية
ان الاراء التي يثيرها السيد روبن في مقاله اعلاه مثيرة حقا، وفيها دلالات ليس على مسار العلاقة المستقبلية بين العراق وتركيا فحسب، وانما على طبيعة الوضع في العراق والمنطقة، فهو في الوقت الذي يستبعد حصول انقلاب عسكري وشيك في العراق شبيه بالانقلاب التركي، الا انه لا يخفي حقيقة انه في حالة حصول مثل هذا الانقلاب فأن مصير حكومة المنطقة الخضراء في خطر حقيقي، بل وربما تزول بسرعة؛ لانها لا تحضى بالدعم الشعبي الذي يحضى به اردوغان في تركيا. ان هذه الاشارة من السيد روبن في غاية الاهمية لما تظهره من تنامي الشعور لدى الرأي العام العالمي بأن الحكومة العراقية هي حكومة فاقدة للدعم الشعبي، وهذا ينعكس سلبا على رؤية العالم للتجربة الديمقراطية في العراق كتجربة فاشلة اولا، وكذلك تمثل جرس انذار للحكومة في ان غياب التأييد الشعبي لها يعرضها للزوال بسرعة عند اول تحرك انقلابي جيد الاعداد والتصميم ثانيا. قد يتصور صانع القرار العراقي أن هذا الاحتمال بعيد الحصول، ولكن معظم تجارب الانقلابات في العراق وخارجه حدثت عندما كان الحكام لا يتوقعون حصولها. وعليه فالمطلوب من الحكومة العراقية تصحيح علاقتها بشعبها من اجل ترسيخ بناء مؤسسات دستورية فاعلة منيعة بوجه الصدمات.
كذلك يتبين من المقال اعلاه أن الكره او التخندق الطائفي بين القوى الاقليمية في كثير من الاحيان قد يكون مفتعلا من السياسيين لتحقيق مصالح السلطة، وليس مصالح الشعوب، فعندما يعتقد الكاتب ان ايران الشيعية ممكن ان تحتفظ بعلاقات ودية مع تركيا السنية، في الوقت الذي يخوض الطرفان حربا طائفية بينهما بالوكالة في العراق، فهذا يدل على مقدار النفاق السياسي في العلاقات الاقليمية، لا يقتصر على تركيا وايران فقط، بل يشمل حكومات اخرى في المنطقة، نفاقا يحقق مصالح الانظمة التقليدية غير الديمقراطية في معظمها، أما ضحاياه فهم الضعفاء من الدول الهشة والفاشلة، فضلا على الشعوب التي تصبح وقود لحرب طائفية غير شريفة. وعليه لا سبيل امام العراق للخلاص من براثن هذه الحرب الطائفية الا بتشكيل حكومة قوية تمثل الجميع - بصرف النظر عن الطائفة والعرق والمعتقد- تتوفر فيها شروط العدالة الاجتماعية والكفاءة، وبناء مؤسسة عسكرية قوية مهنية ومستقلة تحقق الاستقرار الامني في الداخل، وتردع الاعتداء الاجنبي من الخارج، مع تاسيس ثقافة سياسية قائمة على التعايش وقبول الآخر.
اخيرا، وعلى الرغم من توقع الكاتب ان مسار العلاقة بين تركيا ما بعد الانقلاب والعراق قد تمر بدروب وعرة، الا اننا نتوقع ان تركيا الحانقة على اوروبا والولايات المتحدة؛ بسبب مواقف الاخيرة من الانقلاب، واحتمال التورط فيه، فضلا على تأثر أمنها الداخلي بالارهاب الناجم عن الفكر السلفي المتطرف، ستكون اكثر قربا من روسيا وايران والعراق، الا ان استثمار الوضع التركي الجديد سيتطلب وجود صانع قرار عراقي اكثر حنكة في ترتيب علاقاته الدولية، وأكثر ادراكا لطبيعة المتغيرات في البيئة الداخلية والخارجية، واسرع مبادرة لكسب الاصدقاء، وتحييد الخصوم، وربط المصالح العليا بما يخدم مصالح الطرفين.
https://www.aei.org/publication/how-will-turkeys-failed-coup-impact-iraq/
2024-11-20 ,
47 , سياسة