مع انقداح شرارة الاحتجاجات في سوريا منتصف آذار /2011 التزمت إسرائيل الصمت واتخذت وضع المراقب بانتظار ما ستؤول اليه الأوضاع هناك معتقدة للوهلة الأولى ان ما يحدث ما هو إلا امتداد للاحتجاجات السلمية في كل من تونس ومصر في اطار ما اصطلح عليه ب"الربيع العربي" ، إلا ان استخدام النظام للحل الأمني بدلا من المعالجة الموضوعية للأسباب التي أدت اليها الاحتجاجات أدى الى تفجر الأوضاع وتحولها الى صراع مسلح بعد أقل من ستة أشهر من انطلاقها .ومع تصاعد حدة الصراع واتساع نطاقه وتحوله الى حرب إقليمية بالوكالة ،وبروز ظاهرة الجهاديين ، وتدخل حزب الله بشكل مباشر ،كل ذلك أدى الى زيادة قلق إسرائيل وتنامي الشعور بالتهديد القادم من سورية كما تبين خطاً التقديرات التي اطلقها مسؤولون إسرائيليون بقرب انهيار النظام .
اليوم وبعد خمسة أعوام من تفجر الأوضاع في سورية، فأن إسرائيل ترى أن خارطة الصراع قد تغيرت كثيراً وأن عناصر عدم الاستقرار قد ازدادت كما ان مستوى التهديد قد ارتفع الى مستويات عالية. فبالإضافة الى اعتباره "عدوا" بغيضاً لها، ترى إسرائيل ان هناك ما يهددها بشكل أكبر من التهديد المتأتي من النظام السوري نفسه. ويمكن ايجاز هذه التهديدات على النحو الآتي:
1- انهيار النظام وانتشار الفوضى: فمع قناعتها ان النظام السوري يعد مصدر قلق لها ويشكل تهديداً لمصالحها ويسعى لتقويض أمنها، إلا أن إسرائيل ترى في انهياره كارثة بكل المعايير فلا يمكن توقع ما سؤول اليه الأوضاع في ظل الفوضى التي ستعم نتيجة لذلك. ومع ان انهيار النظام يمثل مصلحة إسرائيلية لما يمثله ذلك من صفعة قوية لمحور إيران وتقويض ما يعرف ب “الهلال الشيعي " وأثر ذلك على حزب الله، إلا انها لا تريد رؤية "عراقاً أفغانستاناً" بالجوار. ففي ظل غياب البديل المضمون للنظام فان الفوضى هي الخيار المنطقي لانهياره لذا فان الدعوة الى اسقاط النظام هي خيار غير مقبول لإسرائيل لصعوبة التنبؤ بما سينتج عن انهياره. وعلى هذا فان إسرائيل تفضل نظاماً عدائياً ولكن متماسك ومسيطر على فوضى قد تفسح المجال امام جماعات الجهاد العالمي وجماعات أخرى محسوبة على المحور الإيراني نحو الاستيلاء على السلطة والسيطرة على ترسانته من الأسلحة وهذا اسوء سيناريو يمكن لإسرائيل ان تراه. وتأسيساً على ما تقدم فان النظام على أسوء حالاته أفضل بكثير من الفوضى الناجمة عن انهياره.
2- مخزون الأسلحة الاستراتيجية: تمتلك سورية كماً كبيراً من الأسلحة ذات الطبيعة الاستراتيجية كالصواريخ البالستية والسلاح الكيميائي _ وهو وان تم تفكيكه إلا ان شكوكاً تحوم حول تخزين كميات منه او حتى القدرة على تصنيعه وانتاجه _ بالإضافة الى صواريخ ارض- جو، وارض – بحر ،وأنظمة الإنذار المبكر والرادارات فضلا عن الكم الهائل من الأسلحة التقليدية .هذه الأسلحة تمثل تحدياً جدياً لإسرائيل لا تريدها ان تقع بيد حزب الله ، وهو ما يمثل تهديداً لأمن وسلامة الأراضي الإسرائيلية فضلا عن اخلاله بالتوازن والتفوق الاستراتيجي وتأثيره على سياسة الردع .
3- تدخل حزب الله وبروز ظاهرة الجهاديين: يشير المراقبون الى أن حزب الله قد تدخل مبكراً في الصراع السوري، إلا انها المرة الأولى التي يصرح فيها بتدخله المباشر في الصراع السوري بشكل رسمي وكان ذلك خلال المعارك التي جرت في بلدة القصير الحدودية مع لبنان في محافظة حمص أيار /2013. وهو ما عد مؤشراً خطيراً من وجهة النظر الإسرائيلية من ناحيتين على الأقل:
_ الأولى: ما يمثله ذلك من ازدياد الدور الإيراني في سوريا لما يمثله حزب الله من أهمية في السياسة الخارجية لإيران، وبالتالي فان الخشية من أن تعزز إيران من تواجدها وجعل سوريا قاعدة متقدمة لأي حرب مع إسرائيل بعدما كانت ممراً للأسلحة المتجهة الى حزب الله.
_الثانية: إمكانية أشراف الحزب على عملية تهريب الأسلحة الاستراتيجية الى قواعده في لبنان. الأمر الذي لن تسمح إسرائيل بحصوله فمن شان وضع حزب الله اليد على هذه الأسلحة ان يخلخل التوازن الاستراتيجي بين إسرائيل والحزب وتهديد قدرتها على الردع.
وفي الوقت الذي يشكل فيه الجهاديون تهديداً مباشراً للأمن والسلم الدوليين، فان تحالفاً دولياً لضرب هذه الجماعات من الجو قد تشكل بالإضافة الى أنشاء جماعات أخرى على الأرض لنفس الهدف. الا ان إسرائيل تجد نفسها وحيدة في مواجهة حزب الله فلا يشاطرها القلق أحد من تنامي وتوسع دور حزب الله على الساحة السورية لذلك فأن إسرائيل تقوم بشن ضربات جوية لمنع تحركات الحزب الرامية الى نقل الأسلحة الى لبنان كان آخرها استهداف قافلة تحمل شحنة أسلحة في بلدة عنجر اللبنانية الأربعاء الماضي. بالمقابل فأن إسرائيل لا تقوم بشيء حيال الجهاديين، ويمكن عزو ذلك الى ثلاثة أمور على الأقل:
1- وجود تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة يقود الجهود الرامية الى اضعاف هذه الجماعات والسعي الى تدميرها. كما تشارك روسيا كذلك بجهود مماثلة -وأن كانت ضئيلة-بمقابل الجهود التي تبذلها في استهداف المعارضة السورية-.
2- حرمان هذه الجماعات من استخدام التدخل الإسرائيلي كدعاية لكسب المؤيدين وتجنيد أعضاء جدد.
3- غياب الأرضية التي تمهد للقبول بالتدخل الإسرائيلي من قبل أطراف الصراع المختلفة (ربما باستثناء الكرد).
مثلت هذه التحديات الثلاث مشكلة حقيقية لدى إسرائيل اضطرتها الى تدخل تدريجي في الصراع السوري بعدما كانت تمارس دور المراقب للأحداث. وفي ظل التطورات الحاصلة على الأرض والتي نتجت عن تدخل روسيا العسكري في أيلول 2015 فأن تحديات أخرى قد تطفوا على السطح ستدفع إسرائيل للاستعداد لمواجهتها. فقد كادت التوقعات بانهيار النظام السوري أن تصدق بعد التقدم الواسع للمعارضة السورية في إدلب وحلب وريف اللاذقية وريف حماة الذي سبق التدخل الروسي بعد زيادة الدعم الإقليمي للمعارضة السورية، كما عزز هذه المخاوف تحركات تنظيم الدولة في وسط سوريا وشرقها بعد استيلاءه على مدن تدمر والسخنة والقريتين والذي أصبح على مشارف حمص وأقرب الى العاصمة من أي وقت مضى. إلا أن التدخل الروسي أربك الوضع وخلط الأوراق وقلب الطاولة وحول هزائم النظام وتراجعاته الى مكاسب واضحة على الأرض وهو ما عزز مواقفه في مفاوضات جنيف الجارية والتي انطلقت في فبراير الماضي، الأمر الذي أجهض محاولات او حتى أي طموحات إقليمية بإسقاط النظام. يعزز هذا الرأي عدم رغبة واشنطن في حصول فراغ في السلطة قد يستغله الجهاديون لصالحهم، كما ان شن النظام السوري حملة عسكرية لاستعادة تدمر والتي استعادها بالفعل بمساعدة روسية عمل على تحسين صورة النظام السوري وعززت من فرص بقائه وتلاشي الأصوات المطالبة برحيله.
ان سرعة التطورات على الأرض الناتجة عن تبدل التوازنات العسكرية والميدانية لأطراف الصراع والدور الذي تلعبه الدول الإقليمية وقيامها بدور الموازن كلما ضعفت كفة طرف أو رجحت أخرى، أفضى الى حالة من عدم اليقين حول مآلات الصراع ونتائجه وبالتالي فأن غياب أرضية مشتركة للتفاهم بين الدول الإقليمية المؤثرة في الصراع قد يمنع التوصل الى تسوية سياسية قد تنهي الصراع للتناقض الكبير بين مصالح وأهداف هذه الدول. الامر الذي يجعل خيارات مثل التقسيم وحرب طويلة الأمد هي مخرجات منطقية للصراع السوري. أن أي فرضية لتقسيم سورية لابد وان يتبعها حرب طويلة الأمد وهو أن تقسم سورية على أساس دويلات قومية –طائفية الى ثلاث دول كردية في الشمال الشرقي ودولة سنية في الوسط والجنوب والشمال ودولة علوية في الساحل وربما درزية وأخرى مسيحية. هذا المشهد وان كان احتمال نشره الفوضى كبيراً وهو ما يمثل تهديداً حقيقياً فأن بعض المنافع قد تجنيها إسرائيل من جراء ذلك أذ سيعمل على تحييد سوريا من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي كما أنه يعزز فرص إسرائيل بالولوج الى العمق السوري على شكل كسب ولاء بعض أطراف الصراع وربما من المحتمل جداً أن يكون الدروز والكرد أحد هذه الأطراف مما يهيئ لإسرائيل موطئ قدم قد يمكنها من رعاية مصالحها عن قرب. وباستثناء بروز تهديد حقيقي وواضح على الحدود في الجولان المحتل، أو محاولة نقل الأسلحة الاستراتيجية الى حزب الله، فأننا نرى إسرائيل ستنأى بنفسها عن الصراع فهي لا تريد التورط بمستنقع في سوريا وستكتفي بمراقبة الوضع هناك. الأمر الذي يجعل قدرة إسرائيل على المشاركة في تأطير مستقبل سورية أو حتى قدرتها على توجيه الصراع ضئيلة جداً. وأن أي تحرك مستقبلي لإسرائيل سيكون استجابة للتهديدات التي قد يفرزها الصراع هناك.
2024-11-20 ,
47 , سياسة