يدخل العراق اليوم مرحلة بنيوية ديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعيا، المرحلة باتت حرجة للغاية ، بحيث تسببت بظهور مشكلة قابلة للتراكم والتمدد ، ألا وهي هجرة الشباب ، وطالما نجد النظريات في التحليل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تُحيل أسباب ظهور المشاكل الكبيرة من هذا النوع أو ما شاكلها في الدول النامية الى نظرية المؤامرة وتشعباتها المعقدة ، وأحيانا كثيرة أضم صوتي لهذه النظرية إلا انه في الوقت الراهن والبلد يمر بهذه الأزمة التي سوف تتراكم تداعياتها في المستقبل القريب ، تدخل عوامل واقعية وملموسة ساهمت مساهمة كبيرة في ظهور هذه المشكلة .
يعرف القاموس الاجتماعي والسياسي مفردة الهجرة على أنها: عملية انتقال فردي أو جماعي أو اجتماعي من منطقة الى أخرى لأسباب خاصة أو أسباب أخرى كأن تكون سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو اجتماعية ... ، وتنقسم الى نوعين : داخلية تحدث من مكان الى آخر داخل حدود البلد الواحد ، أو خارجية من دولة الى أخرى ، مرَ ويمر العراق بكلا النوعين .
بدأ النوع الأول من الهجرة بتاريخ 3 / 7 / 2006 عندما بدأت الحرب الطائفية تعصف في استقرار البلاد وتهدد أمنه الاجتماعي والسياسي، وحينها بدأت الكابينة السياسية بركوب موجة العنف السياسي والطائفي، الأمر الذي أدى الى ظهور المزيد من التراكمات على أثر هذه السلوكيات السياسية.
الثانية بدأت الآن ونقصد الهجرة الخارجية التي باتت تمثل اليوم المأوى البديل للعراقيين عامة ، والشباب خصوصا ، في دلالة على ان الفشل الذريع والأزمات والأخطاء السياسية التي ارتكبها السياسيين بالأمس واليوم من الصعب موازاتها ، أو مجاراتها على اعتبار ان المأوى البديل عن الموجة الطائفية الداخلية الأولى ، قد تعرض للانهيارات النفسية والسياسية والاجتماعية والخدمية ، بمعنى أدق كان المهاجر بسبب موجة طائفية في محافظة الانبار الى كربلاء ، أو من كربلاء الى الانبار أو من الأحياء الشيعية الى الأحياء السنية السنية ، أو من الأحياء السنية الى الأحياء الشيعية الشيعية ، مهاجراً هاربا من جراء سبب واحد متمثل بموجة العنف الطائفي التي ركبها السياسيين آنذاك ، تطور المشهد فيما بعد ليجد المواطن المهاجر - داخليا - نفسه بين عوامل أخرى معقدة و معيقة للحياة العامة بشكل عام ، فالإرهاب المقيت الذي فتح السياسيين أمامه الأبواب على مصراعيها ، بالخيانات تارة ، والغباء السياسي تارة أخرى ، وشبه انعدام الخدمات العامة ، والمحاصصة ، والحزبية ، والمحسوبية ، و المنسوبية ، والفساد الإداري والمالي ، والبطالة التي وصل وحشها الكاسر ليهدد الشهادات العليا (البكالوريوس - الماجستير - الدكتوراه ) ، وغيرها من الأزمات الكثيرة والكبيرة التي أخذ الوعي السياسي المتراجع في البلاد يُنتجها منذ العام 2006 الى الآن ، بل ويصدرها جاهزة الى الواقع العراقي مباشرة ، ومن جراء هذا التصدير وهذا الوعي السياسي والعوامل المتراكمة أعلاه ، بدأت الظاهرة الجديدة القديمة بالأصل ، بل وتطورت بالتدريج شيئا فشيئا وتتحول أنظار العراقيين والشباب على وجه الخصوص الى الهجرة الخارجية ، لتتضح الأمور بشكل كبير ، مؤشرة بوضوح على ان العملية السياسية المركبة والمتناقضة التي ارتكزت عليها آنذاك المبادئ العامة لحكم البلاد وإدارته لعبت دورا رئيسيا ومحوريا في تفاقم الأزمات وبداية مرحلة حرجة في تاريخ البلاد السياسي والاجتماعي ونقصد بها (الهجرة الخارجية) بالوقت الذي يتوافد فيه على البلاد إرهابيين جدد من 90 دولة أجنبية .
المشكلة تكمن في ان اغلب المسؤولين في الدولة ، وأغلب الأحزاب السياسية تضع اللوم بشكل مباشر على الشباب متهمة الشباب بالهروب من الواجب الوطني واصفة إياهم بالمتميعين الباحثين عن ملذات جاهزة أو سريعة توفرها دول غربية معروفة ، وأحيانا كثيرة تضعهم الدولة موضع الخائن لوطنيته ، متناسية حجم الدمار الذاتي والاختناق النفسي الذي عانى منه الشعب على يد الدواعش بأشكالهم المختلفة ( الإرهابية ، والسياسية ، فظلا عن مافيات المال الذين استولوا على ينبوع البلد الاقتصادي وأمله المنشود لتحقيق الرفاهية الاجتماعية ، ونقصد النفط الذي راحت عائداته تذهب بشكل مباشر باتجاه جيوب السياسيين والفاسدين) ليبقى الهروب أو الهجرة ان صح التعبير ، يمثل محاولة للخروج من واقعٍ صنعه الإرهاب والسياسة ، ذلك الواقع المغطى بغطاء التزمت السياسي المبني بالأصل على حجب الحقائق ، الذي يقابله عدم القدرة على رسم الإستراتيجيات التي من شأنها أن تنقذ حياة المواطن ، أو تحسن مستوى الخدمات ، أو تعالج المآسي التي كانت ولاتزال سببا مباشرا في هروب الشباب من الواقع المأساوي الذي يعيشه المواطن العراقي بشكل عام وشريحة الشباب على وجه الخصوص ، وثمة بناءات خطيرة جدا أخذ أغلب السياسيين ببنائها على أثر هذه الظاهرة الخطيرة ، وأهم هذه البناءات بث سياسة الهلع الصحي في نفوس العراقيين ، فبدلا من أن تقوم الدولة باستهداف مباشر للمشاكل التي تسببت في هجرة الشباب الى الخارج ، وتتخذ خطوات إستراتيجية و تنفيذية لمعالجتها ، وذلك لغرض تلافي مشاكل وتراكمات الهجرة واحتواء مخاطرها ، تسعى اليوم جاهدة لنشر خبر ظهور وباء الكوليرا وتحويله الى كابوس مرعب (وان كانت أنباء انتشارها دقيقة ) ، يقض على مضاجع العراقيين ويتأخر من جراءه الدوام الرسمي ويستمر البلد في التراجع أكثر فأكثر ، ويٌعتقد ان وباء الكوليرا الذي تروج له اليوم مؤسسات الدولة ما هو إلا فلسفة خفية خاطئة تستهدف بشكل مباشر وقف تدفق المهاجرين الى الخارج بصورة غير مباشرة من خلال التأثير على الرأي السياسي الغربي وعلى أثر ذلك تتوقف الموافقات على طلبات اللجوء .
صفوة القول على الدولة أن تؤسس لفلسفة بناء الدولة ، وتبتعد عن فلسفة إثارة الهلع بكل أشكاله أو سياسة التهويل ، وتتوقف فورا عن أغلب إجراءاتها التي ستحول المواطن العراقي بمرور الوقت الى مواطن منبوذ على المستوى الدولي والإقليمي ، وأن تتخذ خطوات جريئة وتنفيذية وذات أبعاد إستراتيجية من شأنها أن تتناغم وطموحات المجتمع العراقي المستقبلية ، فإذا كان الشباب يبحثون عن الملذات لكانوا بحثوا عنها عندما بدأت الفتنة الطائفية بداية العام 2006 ، أو عندما اجتاحت داعش ثلاث محافظات عراقية ، لتبقى الإستراتيجية الشاملة في بناء الدولة وإعادة ترميم حياة المواطن العراقي حلا لا يمكن الاستغناء عنه ، بل ربما إنقاذ البلد لا يبدأ إلا من خلال الرؤية الإستراتيجية لحل المشاكل التي باتت تمثل عوائق تحول دون تقدم العراق واستقراره .
2024-11-20 ,
45 , سياسة