تضغط روسيا الداعم الاكبر للنظام السوري وحكومة بشار الأسد – بموازاة علاقاتها الوثيقة والمتينة مع تركيا – من أجل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وقد ضاعفت موسكو جهودها السياسية في الفترة الاخيرة؛ من أجل انجاح جهودها الدبلوماسية وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين اسطنبول ودمشق، والشروع بالتطبيع بينهما للمرة الأولى منذ عام 2011، بعد أن اندلعت الاحتجاجات السورية ضد نظام بشار الأسد، ووقوف تركيا إلى جانب المحتجين. وعلى الرغم من الملفات الخلافية بين تركيا وسوريا، ولاسيما في ظل تواجد القوات التركية في شمال غربي سوريا، إلا أن موسكو اصرت على التطبيع وإعادة العلاقات بين الجانبين منذ عام 2022. ففي ديسمبر من ذات العام، أجرى وزراء الدفاع التركي والسوري والروسي محادثات في موسكو، في أول اجتماع وزاري بين تركيا وسوريا منذ عام 2011. كما توسطت روسيا في اجتماعات بين مسؤولين سوريين وأتراك في العام الماضي، إلا أن بشار الأسد وحكومته عارضت تلك الجهود بذريعة أن التطبيع التركي مع سوريا يهدف إلى اعطاء الشرعية إلى قواتهم المتواجدة في سوريا. فكيف لنا أن نفهم دلالات الجهود الروسية في هذا الموضوع وما هو دور العراق بذلك، وكيف لنا أن نصف ونفكك الاهداف والمصالح المشتركة بين كل هذه الأطراف؟
على ما يبدو أن التطورات السياسية في المنطقة بعد حرب غزة وتطورها بشكل سريع في الاسابيع القليلة الماضية، والمخاوف من اتساع دائرتها، فرضت على بعض دول المنطقة أن تتعاطى مع الاحداث الجانبية الآخرى بواقعية وجدية أكثر؛ تحسبًا لأي تغيير قادم في المستقبل القريب أو المتوسط؛ ولهذا ربما الحكومة العراقية كانت موفقة في دفع السعودية وإيران إلى إعادة علاقاتها الدبلوماسية وأنهاء الصراع السياسي والإعلامي بينهما. وقد دخل العراق مؤخرًا إلى جانب الدور الروسي، على خط الازمة بين سوريا وتركيا، تحسبًا للتطورات السياسية الجديدة في المنطقة، فموسكو تسعى مجددًا لإجراء محادثات بين تركيا وسوريا. وأن العراق - الذي تشترك حدوده مع تركيا وسوريا - القيام بدور وساطة، كما فعل سابقًا بين الخصمين الإقليميين السعودية وإيران "ونجحت مساعيه الدبلوماسية". وتعليقًا على هذا التطور والدور الذي يقوم به العراق، يقول آرون لوند، الزميل في مركز أبحاث (سنتشري إنترناشيونال): "إنَّ العراق ربما عرض الوساطة كأحد سبل تخفيف الضغط التركي عن حزب العمال الكردستاني الانفصالي، الذي يشن تمردًا ضد تركيا منذ الثمانينيات، وله قواعد في شمال العراق". إذ يعتقد، بأن من خلال دفع التقارب مع سوريا، ربما تسعى بغداد إلى إيجاد أحد أشكال التواصل الإيجابي مع تركيا، وخفض تهديد تركيا بالتدخل، فضلًا عن تغير الوضع الجيوسياسي في المنطقة في ظل حرب غزة، ومخاوف من تحولها إلى صراع إقليمي أوسع من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على الأمن القومي العراقي، ولاسيما فيما يتعلق بالرغبة الأمريكية – الإسرائيلية الطامحة إلى أقامة دولة كردية داعمة لهما في وسط الشريط الحدودي بين (العراق وتركيا وإيران وسوريا).ويعتقد محلل الشؤون التركية ومدير صندوق مارشال الألماني في أنقرة، (أوزغور أونلوهيسارسيكلي): إن البلدين – تركيا والعراق – ربما يشعران بعدم الأمان، لذا يسعيان إلى إقامة تحالفات جديدة في مواجهة أي تأثير إقليمي محتمل للحرب. كذلك أن الحديث عن إعادة العلاقات التركية – السورية، لم تكن رغبة بحتة للحكومة التركية فقط، ولم تكن سياسة خارجية انتهجها الحزب الحاكم، بل كانت المعارضة التركية لاعبًا مهمًا في هذه العملية، ولاسيما في ظل التطورات الراهنة التي تشهدها المنطقة منذ اندلاع الحرب على غزة.
هناك حديث عن لقاء مرتقب بين طرفي الأزمة (سوريا وتركيا)، وهذا اللقاء ربما لا يمكن أن يحصل دون حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًا وفي موسكو أيضًا من دون تعين موعد دقيق. وعلى الرغم من أن اللقاء لم يتحقق بعد، لكن من الوارد جدًا تحقيقه في الأيام المقبلة؛ وذلك لما له من أهمية على مستقبل المنطقة ومصالح الدول الساعية لهذا التقارب. فسوريا تعد استئناف العلاقات مع تركيا خطوة نحو إنهاء عزلة الأسد السياسية في المنطقة، بعدما ظل منبوذًا لأكثر من عقد، عقب حملة القمع الحكومية الوحشية ضد المتظاهرين عام 2011. ورغم خلافاتهما حول الوجود التركي في شمال غرب سوريا، فإن لدى دمشق وأنقرة مصلحة مشتركة في الحد من الحكم الذاتي للأكراد في شمال شرقي سوريا. اما تركيا فقد تشعر بالقلق من احتمال تدهور الوضع الأمني في شمال شرق سوريا في حال سحبت واشنطن قواتها المتمركزة هناك حاليًا؛ الأمر الذي يتطلب التعاون مع سوريا لمعالجة تبعات الانسحاب الأمريكي من هناك. كذلك تأمل تركيا بأن التوصل لاتفاق بين الطرفين من شأنه أن يساعدها في عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم والبالغ عددهم 3.6 ملايين لاجئ. فضلًا عن المكاسب الاقتصادية التي تطمح بها حكومتي البلدين من هذا التقارب، على الرغم من أن التبادل التجاري بينهما لم يتوقف على الإطلاق، إلا أنه يجري حاليًا من خلال وسطاء، في حين يسمح استئناف العلاقات الدبلوماسية بالقيام بعمليات تجارية رسمية. أما المصلحة الروسية الدافعة بهذا الاتجاه ربما تكون بديهية جدًا؛ كونها لا تريد أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية القوة الوحيدة المهيمنة في الشرق الأوسط، إلا أن المتغير الخطير هذه المرة وغير البديهي هو وضع ما بعد حرب غزة، أي بمعنى أن وضع ما بعد حرب غزة من الممكن أن يكون مختلفًا عن ما قبلها، فمن الممكن أن تكون إسرائيل اللاعب الأبرز الذي يتحكم بقواعد اللعبة في المنطقة من خلال الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما في حال تأكد ذلك بفوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية القادمة، ونجاح إسرائيل في حربها في غزة، أو تمددها باتجاه لبنان والحرب ضد حزب الله. فروسيا ليست متخوفة من الوضع القائم حاليًا فقط، وإنما متخوفة من وضع ما بعد حرب غزة. فمن المتوقع أن يتجه التحالف الأمريكي - الإسرائيلي نحو سوريا، وربما تدخل إسرائيل أيضًا في حرب مع حزب الله اللبناني، وهذا لن يكون إلا بدعم أمريكي مباشر. فضلًا عن ذلك فروسيا تفكر على "المدى المتوسط والبعيد" بأن تكون لدى واشنطن رغبة جادة في إقامة دولة كردية في المنطقة، وهذه الدولة المحتملة الإنشاء، من شأنها أن تكون على غرار إسرائيل في المنطقة ومتحالفة مع المحور الأمريكي – الإسرائيلي في المنطقة، ولاسيما أن هناك تقارير استخبارية روسية، تؤكد أن هناك نية حقيقة لإقامة هذه الدولة؛ ولذلك ترى موسكو أن التطبيع المحتمل بين تركيا وسوريا سيسهم بصورة كبيرة في منع حدوث مثل هذا المخطط، ويقف حائلًا أمام إقامة الدولة الكردية المزمع اقامتها. وهذا المخطط ربما تتشارك فيه المصلحة الروسية مع دول المنطقة؛ لكونها المنافس الاكبر للولايات المتحدة في النظام العالمي. اما بالنسبة لدول المنطقة فمن المؤكد أن الأمر يهدد أمنها القومي ومصالحها الوطنية والقومية على المدى المتوسط والبعيد. لهذا لابد أن يكون للعراق دور فاعل ومؤثر في الاحداث الراهنة والتطورات السياسية القادمة في المنطقة بما يضمن المصالح العراقية العليا والأمن القومي العراقي، وبما يعيد للعراق ثقله ووزنه السياسي كلاعب مهم وفاعل على المستوى الإقليمي. والعراق بالتأكيد مؤهل لاستعادة هذا الدور، إذا ما أخذ صانع القرار العراقي عملية الاستقرار السياسي الداخلي بنظر الاعتبار، على اعتبار أن السياسة الخارجية وفاعليتها، هي فعل مكمل وامتداد للسياسة الداخلية.