على الرغم من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية العصيبة والخطيرة التي ولدت منها الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، إلا أن هناك من يرى بأنها تتمتع باستقرار سياسي نسبي، ربما يكون واضح ومؤشر على مختلف المستويات، بغض النظر عن طبيعة الاستقرار ودوافعه وآلياته واسبابه، وإذا ما كان متفق عليه سياسيًا ومجتمعيًا أم لا، وهل سيقود إلى استقرار سياسي شامل وتنمية اقتصادية وبشرية ويمهد لاستقرار سياسي مستدام، أم أنه مرهون بظروف ومواقف سياسية واقتصادية ومجتمعية ودعم دولي وإقليمي لمرحلة زمنية معينة، من الممكن أن تتفجر في لحظة أو مع ولادة أزمة جديدة وتعيد البلاد إلى مربع الأزمات؟
كيف نفهم الاستقرار السياسي والاستقرار المسيس؟
يصف أغلب الباحثين الاستقرار السياسي بأنه يتمثل بمدى قدرة النظام السياسي على استثمار الظروف وقدرته على التعامل بنجاح مع الأزمات لاستيعاب الصراعات التي تدور داخل المجتمع، مع عدم استعمال العنف فيه؛ لأن العنف هو أحد أهم ظواهر عدم الاستقرار السياسي، والاستقرار السياسي أمر تسعى إليه الأمم والشعوب؛ لأنه يُوفر لها الجو والبيئة الضروريين للأمن والتنمية والازدهار، ومفهوم الاستقرار السياسي مفهوم نسبي تختلف بعض مفرداته حسب المجتمعات. والاستقرار السياسي في الدول الحديثة، لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة، أو فرض النظام السياسي بالسلاح أو القوة والترسانة العسكرية. وإنما لابد أن يتوافر الاستقرار على جميع مؤشراته دون انتقائية، فلا يمكن أن تكون هناك انتخابات حرة ونزيهة في ظل حالة عدم تساوي الفرص وسوء في توزيع الثروة وتفاوت مجتمعي كبير في مستوى دخل الفرد، ولا يمكن تحقيق المغزى الحقيقي من الانتخابات في ظل عدم تطبيق الدستور وانتشار السلاح خارج سلطة الدولة، وانتقائية في سلطة انفاذ القانون على مستوى المؤسسات والافراد والجماعات. فبهذا الشكل لا يمكننا أن نقول هناك استقرار سياسي في بلدٍ ما.
أما بالنسبة للاستقرار المسيس، فهو في الاصل ليس استقرارا ولا يمكن أن نسميه بالاستقرار؛ لكونه لا ينطوي على أي مؤشر من مؤشراته، وهو في كثير من الاحيان، قد يكون اخطر وأكثر فتكًا بالمجتمعات من حالة عدم الاستقرار، وربما هو بمثابة احتيال على الاستقرار؛ لأنه عادة ما يكون استقرار خادع وكاذب وربما يكون مرهون بظروف ومواقف سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية معنية، وحين تتلاشى تلك الظروف أو في حالة حدوث أزمة معينة، من شأنها أن تؤدي إلى تداعيات خطيرة على كافة المستويات. بهذا السياق يمكن أن نفهم طبيعة الاستقرار الحالي من عدمه، واذا ما كان هناك استقرار سياسي أم لا؟
إنَّ وصف الحالة "بين الاستقرار السياسي والمسيس" ربما تكون متفاوتة، فهناك من يعتقد بالاستقرار الحالي وهناك من يقدح به، وهذا بطبيعة الحال واضح ومؤشر بشكل فعلي، وخاضع لمجموعة أمور، تأتي في مقدمتها مدى المنفعة المتحققة من الحكومة والنظام السياسي والقوى السياسية والمكاسب السياسية والاقتصادية المتحققة وطبيعة الوضع القائم، القائم على مقايضة الرأي بالمكاسب المادية، او ما يمكن أن نسميه بالرأي المسيس، وبين من يدرس طبيعة الحالة بمنهج ومؤشرات علمية متحققة على أرض الواقع، وهو ما يمكن أن نسميه بـ"الرأي الموضوعي". ووفقًا للمنهج الأخير، فأن العراق بالتأكيد يعاني من حالة عدم استقرار بشكل عام على كافة المستويات، منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا. لكن ربما تكون هناك نسبية في الاستقرار السياسي حسب طبيعة الوضع الداخلي والخارجي والإرادات الإقليمية والدولية، فضلًا عن طبيعة تفاعلات وعلاقات القوى السياسية، فمن الممكن أن يكون هناك استقرار نسبي او استقرار محفوف بالمخاطر، كدعم النظام السياسي في وقت الأزمات الخارجية او تلك الازمات التي تمثل تهديد وجودي على حياة المواطنين، كالحرب ضد تنظيم داعش على سبيل المثال، أو اثناء انتشار الاوبئة والكوارث الطبيعية، كما حصل في أزمة كوفيد 19. ولعل أحداث انتفاضة تشرين 2019 التي جاءت بعد الانتصار العسكري على تنظيم داعش، وما رافقها من أحداث كانت مثال واضح على حالة فرض الاستقرار بالقوة أو نتيجة لظروف سياسية وأمنية امتدت لأكثر من عقد ونصف.
بشكل عام، اذا ما اردنا أن نشير إلى مدى الاستقرار السياسي، فلا بد أن نأخذ بنظر الاعتبار مدى تماسك فئات المجتمع داخل الدولة "قبل كل شيء" ومدى ترابطهم فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين السلطة من جهة أخرى، وبين مؤسسات هذه السلطة من جهة ثالثة، ترابطًا عضويًا يكفل وقوف هذه الدولة ومجتمعها أمام التقلبات والمتغيرات المختلفة كوحدة متماسكة. بهذا السياق، يمكننا أن نربط المشهد السياسي العراقي الحالي، وطبيعة النظام السياسي وما يجري من صراع بين القوى السياسية فيما بينها، والاقتصاد الريعي وتفشي الفساد، وانتشار السلاح خارج سلطة الدولة وتجميد استخدامه "داخليًا وخارجيًا" وتنامي تجارة المخدرات، وحالة عدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، فضلًا عن حجم الانقسام السياسي التي تسبب بشرخ مجتمعي خطير بين مختلف مكونات المجتمع العراقي بشكليه العمودي والافقي، ولاسيما في البيئة الشيعية، وحالة العداء التي خلقتها القوى السياسية على المستوى الشعبي والجماهيري، وسخط المواطن على الحكومة والنظام السياسي والقوى السياسية، جراء الفشل المتكرر في قطاع الخدمات، ولاسيما في قطاع الكهرباء والقطاعات التي تمس راحة وصحة المواطنين بشكل مباشر. نفهم بأنه استقرار مسيس؛ خاضع لظروف سياسية "محلية وإقليمية" ترتبط بطبيعة تشكيل الحكومة الحالية، وبالتالي من الممكن أن يتلاشى هذا الاستقرار مع عمر الحكومة والظروف السياسية والأمنية والاجتماعية التي رافقتها، أو من الممكن أن ينفجر نتيجة ولادة أزمة جديدة. بالمجمل لا يمكن أن يكون هناك استقرار سياسي في ظل انتشار السلاح خارج سلطة الدولة، أو تجميده لغايات سياسية، وضعف في سلطة انفاذ القانون أو انتقائية في تطبيقه، أو في ظل اعتماد الدولة على الاقتصاد الريعي بشكل كامل، فضلًا عن الانقسام المجتمعي الخطير بين مكونات المجتمع العراقي (أفقيًا وعموديًا)، حتى وأن كان هناك استقرار نسبي؛ لأن الاستقرار كالوحدة المتكاملة التي تكمل بعضها البعض.