حقق حزب الشعب الجمهوري المعارض في تركيا فوزًا كبيرًا بتصدره لنتائج الانتخابات المحلية التركية التي أُجريت يوم الاحد الماضي 31اذار، إذ تصدر الحزب المعارض "لأول مرة" النتائج الأولية للانتخابات المحلية في البلاد على حساب حزب العدالة والتنمية الحاكم. وتصدر مرشحو الحزب المعارض في المدن الكبرى أبرزها اسطنبول وأنقرة، وأعلن أكرم إمام أغلو فوزه برئاسة بلدية اسطنبول للمرة الثانية تواليًا. وفي العاصمة أنقرة أيضًا، أعلن منصور ياباش احتفاظه برئاسة بلديتها، في نتائج أسعدت زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل وعدها قرارًا من الناخبين بتدشين سياسة جديدة في تركيا، واغضبت الرئيس التركي الحالي رجب طيب اردوغان، إذ مثلت نتائج الانتخابات المحلية بالنسبة له ضربة قوية جدًا، إذ كان يأمل في استعادة السيطرة على المدن بعد أقل من عام من فوزه بولاية رئاسية ثالثة، إلا أن الخسارة ربما كانت بمثابة خسارة مركبة، فحزبه "حزب العدالة والتنمية" لم يتمكن من استرجاع سيطرته على المدن والبلديات التي خسرها في الانتخابات الماضية، وإنما خسر مدنٍ أخرى، تضاف إلى خسائره السابقة. فضلًا عن ذلك، فأن نتائج الانتخابات الرئاسية قبل أقل من سنة، قد أوهمت كثيرًا حزب العدالة والتنمية. فقد تقدم حزب الشعب الجمهوري على باقي الأحزاب التركية وتفوق لأول مرة على حزب العدالة والتنمية منذ تأسيس الأخير، محققاً بذلك نسبة أصوات بلغت 37.5% بينما حل حزب العدالة والتنمية – ولأول مرة – في المركز الثاني بنسبة تصويت 35.6%، والرفاه مجددًا في المركز الثالث بنسبة 6.1%. وبهذا فقد افرزت نتائج الانتخابات المحلية خارطة جديدة في نفوذ الاحزاب التركية وتأييدها الجماهيري، إذ فاز الشعب الجمهوري برئاسة بلدية 36 مدينة ومحافظة منها 15 مدينة كبرى و21 محافظة، مقابل فوز العدالة والتنمية بـ 23 منها 11 مدينة كبرى، و12 محافظة، وحزب مساواة وديمقراطية الشعوب (خليفة حزب الشعوب الديمقراطي "الكردي") بـ 10 بلديات منها ثلاث مدن كبرى وسبع محافظات، وحزب الحركة القومية برئاسة بلدية ثماني محافظات، وحزب الرفاه مجددًا ببلديتَين إحداهما مدينة كبرى، والأخرى محافظة، وحزب الجيد ببلدية محافظة واحدة. وبهذا قد يكون الحزب الجمهوري المعارض أكبر الفائزين، بينما يعد حزب العدالة والتنمية أكبر الخاسرين، على الرغم من احتلاله المركز الثاني في نتائج الانتخابات. وهذه النتائج من المؤكد ستؤثر في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فالمجالس المحلية، على الرغم من كونها ليس لها تأثير سياسي كبيرة على مستوى الدولة التركية، إلا أنها لها تأثير مباشر في حياة الناس، وهي على تماس بحياتهم اليومية ومشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية، وهذا من شأنه أن يغير سلبًا أو إيجابًا في قناعات الناخب التركي، التي من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على خياراته في الانتخابات الرئاسية، وما يمكن أن تصنعه من مستقبل سياسي للأحزاب التركية، كما هو الحال في الحياة السياسية لحزب العدالة والتنمية، الذي سيطر على مفاصل الدولة التركية منذ أكثر من عشرين عام، ولعله من أكثر الأحزاب السياسية التركية وأبرزها عرضة لهذا التأثير وبشكل سلبي.
إنَّ خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، ربما كانت متوقعة، لكن ليست بهذا الحجم، وهذه الخسارة بالتأكيد لها ما يبررها، سواء فيما يتعلق بسياسة حزب العدالة والتنمية، أو ما يتعلق بوضع الدولة التركية بشكل عام (الداخلي والخارجي). فهناك من يرى بأن نتائج الانتخابات المحلية كانت بمثابة تصويت عقابي؛ لكون المدة الزمنية القصيرة بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي فاز فيها أردوغان بالرئاسة وتحالف الجمهور الحاكم بأغلبية البرلمان، وبين الانتخابات المحلية الحالية التي سبق تفصيل نتائجها اعلاه، تدفع للنظر في الاختلاف بين الاستحقاقين من جهة والأسباب والعوامل المستجدة من جهة ثانية، ولاسيما أن تقدم حزب الرفاه مجددًا في هذه الانتخابات وحلوله في المركز الثالث، وهو حزب إسلامي، كان تحالف مع حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2023، يدعم فرضية التصويت العقابي لحزب العدالة والتنمية، فضلًا عن ذلك، تشير نسبة المشاركة المتدنية إلى عزوف واضح عن المشاركة في الانتخابات بين أنصار العدالة والتنمية، فاذا ما استثنينا نتائج الانتخابات المحلية عام 2004، وهي الانتخابات الأولى بالنسبة لحزب العدالة والتنمية بنسبة مشاركة 76.2% تكون هذه النسبة، هي الأقل في الانتخابات المحلية منذ سبعينيات القرن الماضي، كما أن تراجع عدد الأصوات التي حصل عليها الحزب بأكثر من مليوني صوت (15.7 مليون صوت مقابل 18 مليون صوت في 2019)، رغم ارتفاع عدد المصوتين، يدعم فرضية القائلين بالتصويت العقابي. ولعل هذا العزوف، له ما يبرره بالنسبة للجمهور التركي، ولاسيما أنصار حزب العدالة والتنمية، وربما يكون موقف الحزب وطبيعة تعاطي الحكومة مع حرب غزة والعدوان عليها وعلى أهلها والوضع الإنساني فيها، من أبرز الاسباب التي أثرت على نتائج حزب العدالة والتنمية، فالكثير من شرائح المجتمع التركي، ولاسيما شريحة المحافظين كانت غير راضية عن الموقف الرسمي، وطالبت بمواقف عملية لنصرة أهل غزة وتحديدًا ما يتعلق بالتجارة مع دولة الاحتلال دون أن تلقى آذانًا صاغية؛ لهذا ريما كان الاحتجاج أو المقاطعة أو العزوف وابطال الصوت أو التصويت لأحزاب أخرى أداة لتنبيه حزب العدالة والتنمية في تصحيح مساره السياسي وطريقة تعاطيه مع القضايا العامة على المستوى السياسي والاقتصادي، ولاسيما أن انصار الحزب ذات توجهات دينية – إسلامية، يتعاطون بشكل كبير مع القضايا الدينية، كموضوع العدوان على غزة وموقف الحكومة التركية منها أو من الكيان الصهيوني. فضلًا عن ذلك، فهناك اسباب أخرى أثرت على نتائج حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، منها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي ، واستمرار الأزمة الاقتصادية في البلاد، على الرغم من تعهد أردوغان في الانتخابات الرئاسية بأنه سيعمل على حلها بالخبرات التركية، او ما يتعلق بانهيار الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، وارتفاع نسبة التضخم وضعف القدرة الشرائية، وانتشار الحديث عن الفساد في المحليات وفي مجال المقاولات وبناء المنازل في جنوب البلاد، ولاسيما بعد وقوع زلزال كهرمان مرعش في تلك المنطقة. بالإضافة إلى الصوت الكردي، الذي عزز فرص إمام أوغلو حتى أمام مرشحة الحزب الكردي، ميرال دانيش بشتاش. والاداء غير الموفق لحزب الخير المعارض؛ مما مكن الشعب الجمهوري من الحفاظ على ناخبيه في إسطنبول. بالمجمل، تعد نتائج الانتخابات المحلية التركية مؤشرا واضحا للتراجع السياسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وهي بنفس الوقت تعد بمثابة جرس أنذار اعطاها الجمهور التركي للحزب من اجل تصحيح مساره السياسي وطبيعة تعاطيه مع القضايا العامة على المستوى الداخلي والخارجي، فعلى الرغم من أن الجمهور التركي قد اعاد الثقة في حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية الماضية قبل اقل من سنة، إلا انه أوصل رسائله لحزب العدالة والحكومة، بانه قادر على معاقبتهم انتخابيًا في الانتخابات القادمة، ولاسيما اذا ما بقي الحال على ما هو عليه على المستوى الاقتصادي وكذلك السياسي، او في حال كان هناك تراجع سياسي او أزمة اقتصادية من شأنها أن تؤثر سلبًا على الوضع العام في تركيا وما يمكن أن تعكسه من تداعيات على حياة المجتمع.