الدبلوماسية السعودية تغير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط

تقود الدبلوماسية السعودية منذ مطلع شهر آذار-مارس 2023 حراكا خارجيا نشطا من اجل إعادة تنظيم العلاقات الشرق أوسطية، نجحت من خلاله في تغيير قواعد اللعبة السائدة في المنطقة لأكثر من عقدين من الزمن، وبدت كأنها القاطرة التي تصنع الاحداث وتعيد ترتيب المصالح الإقليمية والدولية، لتغير كليا الصورة النمطية المأخوذة عن المملكة، والتي تظهرها بمظهر التابع او المذعن لما يقرره الاخرون، لا سيما في الولايات المتحدة الامريكية.

لقد صدمت المواقف الجديدة للسياسة الخارجية السعودية المراقبين لجرأتها وحسمها وسرعة اتخاذها، اذ بدأت بإعلان بكين في العاشر من آذار-مارس الماضي والذي تم فيه التطبيع المشروط للعلاقات بين الرياض وطهران بوساطة صينية، ليعقبه في السادس من نيسان-ابريل الجاري عقد لقاء جمع وزيرا خارجية البلدين في بكين-أيضا-نتج عنه بيان مشترك أكد على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، بعد قطعها لسبعة سنوات متتالية، رافقها صراع شديد بينهما على الهيمنة والنفوذ في ملفات وساحات عديدة في الشرق الأوسط.

ان هذه المواقف السعودية المفاجئة تأتي بعد إدراك صانع القرار السعودي أن العالم يتبدل، وان النظام الدولي السائد بعد الحرب الباردة على وشك التغيير، مما يقتضي التكيف مع التغييرات ولعب دور قائد فيها بدلا من دور التابع الذي-ربما-فرضته المرحلة السابقة، فالرياض اليوم في وضع يسمح لها تماما بلعب دور الشريك المؤثر في وضع جدول الاعمال وبما يضمن مصالحها ودورها الإقليمي والدولي الفاعل.

ويبدو-أيضا-أن صانع القرار السعودي فهم أن انسياقه الكامل وراء واشنطن وحلفائها الغربيين، وعدم تحفظه وتناغمه مع المشاريع الإسرائيلية الإقليمية لن يسهم الا بالمزيد من استنزاف قدراته في الصراعات الإقليمية، وتعطيل الرؤية الاستراتيجية للبناء الداخلي للدولة التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، وعرف ان مفتاح حلحلة الازمات الرئيسة المتورط فيها يكمن في انهاء صراعه مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد نجح تماما في ما توصل اليه، لاسيما انه عند تطبيعه لعلاقاته مع الأخيرة لم يذعن لشروطها، بل دخل معها في مفاوضات شاقة ومرهقة بوساطة عراقية وعمانية استمرت لسنتين حتى توصل الى اتفاق نهائي بضمانة صينية لا يقتصر على التطبيع وعودة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، بل وفي التعاون المشروط بينهما على تسوية الصراعات الإقليمية وإيجاد حلول حاسمة للملفات الشائكة.

وفعلا كان الاتفاق مع طهران مفتاحا مهما لانطلاق الرياض نحو إيجاد تسويات أخرى، ولذا اخذت الدبلوماسية السعودية تتحرك في الوقت الحاضر في مسارين متوازيين لحل الصراع في اليمن، وإيجاد تسوية للازمة السورية. ففي يوم الخميس الموافق للثالث عشر من نيسان-ابريل الجاري التقى وفد سعودي في اليمن بجماعة أنصار الله الحوثي من اجل التوصل الى هدنة نهائية هناك تمتد الى ستة أشهر بهدف بناء الثقة، ستعقبها مفاوضات لمدة ثلاثة أشهر لإيجاد تصورات متفق عليها من الطرفين لإدارة المرحلة الانتقالية التي ستستمر لسنتين يجري خلالهما التفاوض حول الحل النهائي المناسب للازمة والذي يرضي جميع الأطراف.

وعلى الرغم من ان جهود الوفد السعودي لم تثمر عن اتفاق نهائي ووجود حاجة الى مزيد من التفاوض حول المسار أعلاه، الا أن أجواء التفاوض وصفت بـ "الإيجابية"، وما يدل على نجاحها المبدئي هو انه في اليوم التالي، أي يوم الجمعة بدأت عملية استمرت لثلاثة أيام لتبادل الاسرى في اليمن، تم خلالها تبادل 880 أسير، منهم 706 من الحوثيين و181 من أسرى الحكومة اليمنية والسعوديين.

وفي الساحة السورية لا يقل نشاط الدبلوماسية السعودية عن نشاطها في اليمن، بل يبدو انها اكثر فاعلية ونجاحا، اذ تقود الرياض حراكا قويا لاستعادة دمشق عربيا، وإعادتها الى مقعدها في جامعة الدول العربية، وتكلل هذا الحراك باستقبال وزير الخارجية السوري في الرياض يوم الأربعاء الموافق للثاني عشر من نيسان-ابريل الجاري، حيث جرت بينه وبين نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان مباحثات مطولة انتهت ببيان مشترك تم فيه الاشارة الى خمسة ملفات مهمة هي: الملف الإنساني المرتبط بتقديم المساعدات الإنسانية لجميع السوريين فوق الأراضي السورية، وتهيئة الظروف الملائمة لعودة النازحين الى مناطقهم. والتأكيد على " تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب بجميع أشكاله وتنظيماته". فضلا عن التشديد على " تعزيز التعاون بشأن مكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها". ودعم مؤسسات الدولة السورية على أراضيها، وانهاء تواجد المليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن السوري. وأخيرا مناقشة ملف إيجاد تسوية سياسية شاملة للازمة السورية، وعودة الاخيرة الى محيطها العربي لأخذ دورها الطبيعي فيه.

وبعد يومين من هذا اللقاء، وفي وقت متأخر من مساء الجمعة الموافق للرابع عشر من نيسان-ابريل الجاري دعت وزارة الخارجية السعودية الى اجتماع تشاوري غير رسمي حول سوريا في مدينة جدة السعودية ضم دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة الى العراق والأردن ومصر، وانتهى الاجتماع الى اعلان بيان مشترك في وقت مبكر من يوم السبت، جرى فيه إعادة التأكيد على الملفات الخمسة المذكورة في البيان السعودي-السوري أعلاه، كما تم الاشارة الى "أهمية أن يكون هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الازمة (السورية)، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور".

وعلى الرغم من تعقد الملف السوري وكثرة المصالح الإقليمية والدولية المتقاطعة فيه، الا ان الدبلوماسية السعودية تسير في خطوات جيدة لإيجاد حلول نهائية له، ولديها مفاتيح جيدة يمكن ان تستثمرها لتحقيق ذلك، ومنها علاقاتها الجيدة مع الصين وروسيا وتركيا ومصر، ودورها القيادي في مجلس التعاون الخليجي، وأخيرا توظيفها الجيد لثمار التطبيع مع طهران، لاستثمار دور الاخيرة الضاغط على وكلائها في المنطقة.

إدراك سعودي متأخر للدرس العراقي المؤلم

لم يكن يخطر ببال الكثيرين، ومنهم صانع القرار السعودي ان الوقوف الى جانب الجهود الرامية لتفكيك واضعاف الدولة العراقية بعد الغزو الأمريكي لهذا البلد سنة 2003 سيجر على المنطقة كل هذه النتائج الكارثية التي هددت أمنها واستقرارها، وللأسف قادها عدم الادراك لهذه الحقيقة الى تكرار الخطأ بعد موجة ما يسمى بالربيع العربي التي انطلقت شرارتها سنة 2011، فتورطت معظم الأطراف في صراعات سياسية طائفية وقومية وسلطوية ومشاريع تفكيك للدولة الحديثة في المنطقة شملت أجهزتها الأمنية ومؤسساتها الدستورية وسيادتها الحاكمة فوق أراضيها، وقد استنزفت هذه الصراعات موارد مادية وبشرية عزيزة وغالية لو تم المحافظة عليها، وجرى توظيفها في مشاريع التنمية المستدامة لحققت لشعوبها الكثير من الفوائد، وخطت للأجيال القادمة مستقبلا افضل مما ينتظرها اليوم، ولتجنبت الالام والاهوال العظيمة التي لحقت بالدولة والانسان.

على أي حال، ربما تكون مجريات الاحداث والمواقف التي حصلت كانت متأثرة بقواعد اللعبة التي فرضها عالم ما بعد الحرب الباردة، والقيادة الامريكية السيئة للعالم آنذاك، وخضوع معظم حكومات المنطقة لإملاءات واشنطن وقراراتها غير الحكيمة، ولكن ما فات صناع القرار في المنطقة هو ان اضعاف الدولة الحديثة وتفكيكها يمثل صندوق باندورا الذي سيخرج كل الشياطين والشرور في منطقة كالشرق الأوسط لم تهضم وتستوعب تماما فكرة الدولة الحديثة، ولا زالت ثقافاتها الفرعية المنغلقة أسيرة مخاوف واحقاد تمتد لقرون طويلة، وتعاني في الوقت نفسه من فوضى مستمرة في فهم الحقوق والحريات، زادها بلة انعدام الثقة بين الحكومات وشعوبها، فضلا على وجود أجندات خارجية هدفها تقطيع اوصالها وتأجيج الكراهية والصراع بين شعوبها وحكوماتها.

ان الثمن الباهض الذي دفعه صانع القرار العربي والإسلامي الشرق أوسطي ولمرتين متتاليتين يبدو انه تم استيعابه أخيرا بشكل ما، وما التوجه السعودي باتجاه الحفاظ على سيادة الدولة الحديثة، وتقوية مؤسساتها، وعدم التدخل الخارجي في شؤونها، سواء في اليمن ام سوريا ام العراق ام غيرها الا مؤشر على هذا الامر، ولكن تحرك الرياض بحاجة الى دعم واسناد واتخاذ خطوات مماثلة له من بقية الأطراف الإقليمية، بل والتعجيل في إنجاح مساره لبلوغ أهدافه النهائية، فالرؤى الاستراتيجية التي تضعها حكومات المنطقة، كالرؤى التنموية لسنة 2030 وغيرها لن يكتب لها النجاح بدون تحقيق الامن والاستقرار والسلام المستدام في الشرق الأوسط، ولن يتحقق ذلك بدون إعادة الاحترام للدولة الحديثة، والحفاظ على بنيتها وقوتها وسيادتها على أراضيها.

 

التعليقات
تغيير الرمز