بدأت الشكوك تحوم حول قدرة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بشأن جهودها في إعادة احياء الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل المشتركة) التي توصلت لها دول (5+1) في العام 2015 قبل أن تنسحب منه الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب عام 2018، وهناك من تجاوز مرحلة الشكوك، وتنبأ بفشل المفاوضات الأمريكية – الإيرانية، وأقر بمرحلة موت الاتفاق، لكن لا أحد يملك القدرة على التصريح بحقيقة موته او فشل المساعي الأوروبية في اعادة احياء الاتفاق مرة أخرى والسيطرة على برنامج إيران النووي. فهل فعلاً فشلت الجهود الأوروبية في اقناع الولايات المتحدة الأمريكية وطهران في التوصل إلى صيغة اتفاق، وما هي الاسباب التي ادت إلى ذلك، وما دور الازمة الأوكرانية بها.
في الواقع ان الأزمة الاوكرانية – الروسية أثرت على العديد من الملفات العالمية، ومنها الملف النووي الإيراني والمباحثات الجارية بشأن احياء الاتفاق مرة ثانية، والوصول إلى صيغة توافقية تقرب وجهات النظر بين واشنطن وطهران، إذ انعكس هذا التأثير، عندما طلبت موسكو من الولايات المتحدة الأمريكية بضرورة الحصول على ضمانات قانونية حول حزمة العقوبات السياسية والاقتصادية الجديدة التي فرضها الغرب على روسيا بعد اعلانها الحرب على اوكرانيا، بأن لا تؤثر على مسار التبادل التجاري بين روسيا وإيران، في حال تمت العودة إلى الاتفاق النووي، ولاسيما ان موسكو لها الكثير من المشاريع الاستثمارية في إيران وهي التي تشرف على مفاعل (بوشهر النووية)، وعلى الرغم من ذلك، فهناك من يقول بأن موسكو حصلت على تلك الضمانات، لكنها متخوفة منها ولم تقتنع بها تماماً، ولاسيما ان الولايات المتحدة اتهمت روسيا بانها تعيق المفاوضات والمباحثات التي تجريها الولايات المتحدة والغرب مع إيران بشأن التوصل إلى صيغة توافقية بين الاطراف المعنية. بموازاة ذلك، رفضت الادارة الأمريكية بعض المطالب الروسية والمزج بين دورها في الاتفاق النووي والعقوبات التي فرضها الغرب عليها بعد الازمة الاوكرانية، وتأكيدها بانها تنظر إلى مسار الاتفاق النووي بشكل منفصل تماماً لما يحدث بين روسيا وأوكرانيا. وبغض النظر عن المواقف المعلنة من (واشنطن وموسكو) بشأن عدم تأثير الازمة الروسية – الأوكرانية على مباحثات الملف النووي الإيراني، يبدو بان الأزمة قد أثرت في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية وكذلك الروسية بشكل أو باخر، وتظهر المخاوف الأمريكية من أزمة الطاقة العالمية التي من الممكن أن تتسبب بها العقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا، وتأثيرها على اسعار النفط العالمية وامدادات الطاقة إلى السوق الأمريكي والعالمي. فقبل الازمة الأوكرانية كان الحديث عن وصول وشيك إلى صيغة مشتركة بين اطراف التفاوض بشأن الملف النووي الإيراني، وان المباحثات وصلت إلى مرحلة متقدمة، وكانت قاب قوسين او ادنى من الوصول إلى نتائج مرضية للجميع، إلا أن أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا احدث ارباكاً لتلك الجهود ودخلت كمتغير مهم في الاحداث العالمية، ولعلها سرقت الانظار والاهتمام العالمي عن مباحثات الاتفاق النووي، وجمدت الجهود الاوروبية والغربية بشأن اولوياتها في الوصول إلى اتفاق مشترك مع طهران، ولاسيما ان أزمة أوكرانيا وما يحدث بها، تمس بشكل مباشر المصالح الأوروبية والأمريكية (الأمنية والسياسية والاقتصادية) بشكلٍ خاص، لذلك من الطبيعي جداً ان تؤثر "الأزمة الأوكرانية" على اهتمام المجتمع الدولي بالملف النووي الإيراني والمباحثات الجارية في العاصمة النمساوية فيينا.
من جهة أخرى، يبدو بأن الأزمة الأوكرانية اثارت مخاوف بعض حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط من ان تقدم الولايات المتحدة بعض التنازلات لإيران في الملف النووي، ورفع العقوبات عن النفط الإيراني، بما يسم في السيطرة على تدفق الطاقة إلى الاسواق العالمية وبما ينعش الاقتصاد العالمي. وهذا ما تفطن له الروس مبكراً، اذ رأت موسكو بان ليس من مصلحتها انجاح مفاوضات الاتفاق النووي بعد حربها في اوكرانيا، ولاسيما ان روسيا بدأت تفكر في استخدام ورقة الاتفاق النووي الإيراني لصالحها في انجاح او فشل الاتفاق، وان لا تؤثر العقوبات الاوروبية والأمريكية على تواصلها التجاري مع طهران؛ الأمر الذي أزعج الاخيرة، لكنها لم تقف ضده وابقاها متأرجحة بين الطرفين؛ وذلك بسبب حاجتها لرفع العقوبات الأمريكية والغربية عنها، بموازاة عدم ثقتها بالجانب الأمريكي والغربي ايضاً. ففي الوقت الذي نجحت خلاله المناورة الروسية في تعطيل إحياء الاتفاق النووي، فإن واشنطن قد نجحت هي الأخرى في تعكير صفو التحالف الروسي الإيراني، لما رأته أوساط إيرانية من تضييع لفرصة انتعاشة اقتصادية للبلاد، كما قال أحد نواب البرلمان الإيراني: إن "مطالبة روسيا بضمانات أمريكية تعد سعياً منها لتأمين مصالحها الخاصة، لكنه أمر غير بنَّاء بالنسبة لمحادثات فيينا الخاصة بالاتفاق النووي"، فيما ذهبت أصوات إيرانية لإذكاء مشاعر عدم الثقة بالروس من خلال التذكير بانتزاع الروس لمساحات شاسعة من أراضي القوقاز التي كانت تسيطر عليها إيران في القرن التاسع عشر؛ ما يشير إلى بوادر استعداد إيراني لمسك العصا من المنتصف. لهذا تزداد مخاوف الروس وخشيتهم من إحياء الاتفاق النووي؛ وذلك لما يسببه من افتقاد روسيا لعنصر العداء الغربي لإيران وعزلتها، تلك السياسة التي منحت الروس مصالح متعددة، كحاجة طهران الدائمة لهم، وعجزها عن استثمار مواردها النفطية التي استغلتها موسكو، واعتمادها بشكل كبير على التكنولوجيا الروسية، فضلاً عن اتساق السياسات والتفاهمات الثنائية ضد واشنطن، ولاسيما أن موسكو لا تخشى من (إيران النووية) بقدر خشيتها من (إيران المتحالفة مع الغرب) التي من الممكن أن تكون أداة غربية في إضعاف الروس، والسيطرة على آسيا الوسطى. فموسكو التي كانت وسيطاً أساسياً بين واشنطن وطهران، منذ بداية المباحثات حتى بداية الأزمة الأوكرانية، وقادت المفاوضات النووية في مسار بدأ وكأنه يتجه نحو تحقيق الاتفاق، إلا أنه سرعان ما تراجع مع بداية الحرب الروسية على اوكرانيا، لتعيد موسكو تقييم دورها التيسيري، والتهديد ضمناً بضرب الاتفاق النووي الإيراني تحقيقاً لمصالحها الخاصة، بسياسة تبدو وكأنها ضامنة للمطالب الإيرانية التي يجب أن يتضمنها الاتفاق النووي، سواء فيما يتعلق برفع الحرس الثوري الإيراني من طائلة الإرهاب أو ما يتعلق بمشروعها الصاروخي ودورها الإقليمي؛ لذلك هناك من يعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في حلف الناتو، تسعى إلى "إحداث تصدع في التحالف الاستراتيجي بين الروس والإيرانيين، عبر تقديم إغراءات اقتصادية وجيوسياسية لطهران، بأن تضمن لها وفرة مالية والمزيد من إطلاق يدها في الإقليم، بهدف سحبها تدريجياً للمحور الغربي، ومن ثم تجريد موسكو، من أحد أعمدتها الأساسية في الشرق الأوسط؛ ما يحد من نفوذها في المنطقة، ويعيد ترتيب مراكز القوى الإقليمية بشكل يعطل المصالح الروسية". فضلاً عن ذلك، هناك من يعتقد بأن الأوروبيين على الرغم من اهتمامهم بالأزمة الأوكرانية، فإن حرصهم على الاتفاق النووي وفق الصيغة التي يرغبون بها، لا يقل أهمية واستراتيجية بالنسبة إليهم. وبذلك من الممكن ان يبقى دورهم متوازن بين حل الازمة الروسية الأوكرانية بموازاة الاهتمام بالمحادثات الاتفاق النووي، لكن يبقى الدور الروسي والصيني المعوق الأكبر أمام تحقيق اي تقدم إيجابي من شأنه أن يسهم في إعادة إحياء الاتفاق النووي في الوقت الحاضر.