لا شك أن جهاز الدولة العراقية في وضعه الحالي لم يكن مصمما على أساس الوظيفة وشروط الكفاءة، اي ما هي الواجبات الرئيسة للدولة والمهام المطلوبة لأداء تلك الواجبات، والكيفية المثلى لأدائها، ليُرسَم التنظيم بالإجابة الصادقة على تلك الأسئلة. بل تكونت تلك التشكيلات من تراكم اجتهادات وترضيات عبر زمن طويل اختلفت فيه الحكومات وتوجهاتها الأيديولوجية، ومطامح المجموعات الحاكمة، وشروط الحفاظ على النظام السياسي وآليات عمل الاقتصاد الوطني ودور قطاع الأعمال العام. وليس من المبالغة وصف الخارطة التنظيمية للدولة كما انتهت إليه بالعبث واللا مسؤولية. ولا نتوقع أن عاقلا يريد ممن يبادر بمثل هذه الملاحظات تقديم صورة الدولة البديلة في وثيقة جاهزة للتشريع، نيابة عن أحزاب السياسة، بأجمعها، وخبراء الدولة ومستشاريها والعديد من دوائرها المتخصصة في القانون والإدارة وجامعاتها. كما لا نتصور أن إنسانا بوجدان حي، ويعرف قيمة الصدق، يتجرأ على القول أن تنظيم أجهزة الدولة في العراق ليس بحاجة إلى معالجة عاجلة، او لا علاقة له بفرض القانون والنزاهة والإصلاح عموما.
القسم الأول
الوعي السياسي لغالبية العراقيين لا يتجاوز، إلى الآن، وقائع التاريخ الطويل من التعددية الأثنية – الدينية بين تعايش سلمي اعتيادي، أو يشوبه قدر من التنافر، ونزاعات مريرة تصل أحيانا حد الكراهية أو سفك الدماء. المجتمع العراقي لم يتحرر بعد من قيم عهود الاستعباد ومنها التفاوت بين البشر في استحقاق الكرامة، والتراتبية العمودية للأسر والأفراد في المكانة حيث تتربع الزعامة والرئاسة عند ذروة الهرم. ولا شك ان هذه الحقيقية تُفّسر، إلى حد كبير، الأهمية الطاغية لقيمة السلطة في فهمنا للتاريخ، وشراسة التنافس على مواقع الدولة والقيادة السياسية هذه الأيام. ومن نتائج هذا التكوين السيكو-ثقافي المنافي لروح العصر ومقتضيات الارتقاء الحضاري والأخلاقي ظاهرة التشرذم السياسي وكثرة الزعماء، والانفصام الحاد بين الممارسة السياسية ووظائف الدولة ومصالح المجتمع وبرامج عمل الحكومات، لأن السلطة قيمة عليا بذاتها والرئاسة استحقاق وليست وظيفة مُعرّفة بمهام وصلاحيات ومساءلة وعقوبة.
لا شك أن بنية الدولة العراقية معقدة محورها السلطة التشريعية المتمثلة بالهيئة المنتخبة التي تنبثق عنها السلطات الأخرى في الديمقراطية النيابية التي يستند إلى مبادئها نظام الحكم في العراق. الديمقراطية قذفت السياسة والدولة في خضم الثقافة الاجتماعية، آنفا، فصارت مسرحا لمفاعيل التعددية الأثنية – الدينية، ومرض التدافع المحموم على المكانة العليا والمواقع القيادية. والمجلس النيابي بعبر بدقة عن هذه الخصائص، ثم يرسمها في أجهزة الدولة كافة من الرئاسات الثلاث ودوائرها ومنتسبيها ومجلس الوزراء والوزارات، إلى عشرات أخرى من الهيئات والدوائر غير المرتبطة بوزارة وشركات عامة مستقلة إداريا وماليا... والمزيد من الاستحداث والتشرذم والمكاثرة الجنونية في مراكز اتخاذ القرار، ونثر الصلاحيات، خارج سلطة الوزارات، حتى صار مجلس الوزراء دائرة بين العديد من الدوائر ورئيس الوزراء موظفا بين الموظفين فضاعت المسؤولية وفشلت الدولة. بعد أيام سوف يحضر رئيس الوزراء الجديد إلى مجلس النواب مع عدد قليل من الوزراء لنيل الثقة بعد جدل وحوارات واتفاقات بين الأحزاب. وفي الدولة الكثير من شاغلي المناصب بصلاحيات لا تقل عن الوزراء خارج هذه العملية.
الدولة في وضعها الحالي تعمل بلا مركز مسؤول، وهي ليست نظاما بل فوضى من الإقطاعيات المتمردة، وإعادة التنظيم هي الخطوة الأولى على طريق الإصلاح. كيف يعاد التنظيم؟ الإجابة على هذا السؤال في العمل التفصيلي انطلاقا من أعداد وثيقة الخارطة التنظيمية للدولة. ثم استحضار الوظائف التي تؤديها مختلف الأجهزة وتعريفها بدلالة مهام معلومة قابلة للملاحظة. المهم إدماج الهيئات والدوائر المستقلة في الوزارات وعدم الإصغاء إلى المبررات المختلقة والتقاليد الموروثة. القضاء يبقى مستقلا والبنك المركزي ...مثلا؛ لكن لماذا شركة النفط الوطنية مستقلة هل هو الخوف على النفط من الوزير أو رئيس الوزراء!!، وأمانة بغداد، ومجلس الخدمة، ونزاعات الملكية، وشبكة الاتصالات، وهيئة الاستثمار، وسوق العراق للأوراق المالية ... والأوقاف ... وسواها؛ لماذا هذه وغيرها لا ترتبط بوزارات تحت مسؤولية مباشرة من مجلس الوزراء ورئيس الوزراء. ولا يكتفي العقل المسكون بالسلطة وتسوية نزاعات التدافع عليها بهيئات مستقلة خارج الوزرات، بل لا توجد وزارة إلا وأضفيت على دوائر فيها صفة الاستقلال وتحذير الوزير من المساس بسيادتها. أية فلسفة سياسية بائسة تخريبية هذه ؟!، هل المطلوب حماية دوائر الدولة من الحكومة !!! أم أن الواجب يقتضي تأكيد سيطرة الحكومة المنبثقة عن الهيئة المنتخبة على كافة أجهزة الدولة... هل الديمقراطية تعني استقلال الجهاز البيروقراطي عن سلطة الشعب أم إن الديمقراطية لا معنى لها دون حكم الشعب للجهاز البيروقراطي. الا يمكن تقليص أعداد الشركات العامة بالدمج، هل من مبادئ إدارة الأعمال تأسيس الشركة على نشاط وحيد، أم إن الشركات معروفة بتنوع أنشطتها ومنتجاتها، ولذلك لا نحتاج إلى نصف العدد الحالي من الشركات. ما حاجة العراق، مثلا، إلى سبع مصارف حكومية ... هل ثمة مبدا في الاقتصاد أو الإدارة المصرفية يمنع دمج المصارف الحكومية في مصرفين.
لنلاحظ جدول النفقات في الموازنة العامة، وحدات الإنفاق الرئيسة أكثر من ثلاثة امثال عدد الوزارات، ما هي ضرورة هذا التبعثر. ألا يمكن استحداث وزارة لنسمها مثلا \ وزارة التنسيق الإداري\ تتولى الاهتمام بملاك ونفقات الأمانات العامة للرئاسات الثلاث ودوائرها الأخرى ومجلس القضاء الأعلى وما يبقى بعد إعادة التنظيم من الهيئات المستقلة، وبالنتيجة تكون وحدات الإنفاق في الموازنة العامة وزارات فقط حاضرة في مجلس الوزراء للسيطرة على الإنفاق والتوظيف، والالتزام بقواعد موحدة لكل الدولة دون هذا التفاوت والتنافر المعيب الذي لا ضرورة له أبدا.
القسم الثاني
وضوح التخصص، وخفض التكاليف، وسيطرة المركز الحكومي على أنشطة الدولة بتقليل عدد وحدات اتخاذ القرار وتسهيل الإشراف والرقابة، والانتقال إلى الدولة التنموية، والارتقاء بنوعية الأداء، وحماية الحقوق، والسيادة الشاملة للقانون، والنزاهة بمعنى شامل كلها من أهداف إعادة التنظيم، إضافة على تشغيل الموارد البشرية للقطاع العام بإنتاجية أعلى وتوظيفهم لتسريع استكمال وتطوير البنى التحتية وتحسين الخدمات العامة. ولا بد من مراعات هذه الأهداف في العملية التي قد تجري على مراحل في مدة لا تتجاوز السنتين. ولتسهيل الحوار في ثنايا هذا الموضوع الشائك نشير إلى مبادئ تُقترح منها:
- تجميع كافة دوائر الدفاع والداخلية والأمن بما فيها المخابرات ومستشارية وجهاز الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب وسواها في ثلاث وزارات؛ وتضم الوزارة الثالثة دائرة مقتدرة للأمن الاقتصادي، تعتمد أفضل الأساليب في العالم للاستعلام ومقاطعة الأخبار، وينقل إليها مكتب غسل الأموال، وينص القانون على جواز اعتماد القضاء لتقاريرها السرية.
- تدمج الهيئات المستقلة، والدوائر غير المرتبطة بوزارة، بالوزارات صاحبة الاختصاص أو أقرب اختصاص لها. عدا ديوان الرقابة المالية والبنك المركزي وهيئة النزاهة والقضاء بكافة تشكيلاته والأمانات العامة للرئاسات الثلاث.
- تتولى وزارة تستحدث لشؤون الملاك والتخصيصات المالية للتشكيلات التي تبقى خارج الوزارات. بحيث تكون جميع وحدات الإنفاق في الموازنة وزارات. وتتولى الوزارة المستحدثة شؤون التعيينات الجديدة وتمويل النفقات للرئاسات الثلاث ودوائرها، وكذلك التشكيلات الأخرى التي تبقى خارج الوزارات. ويخضع الملاك والتخصيصات في الرئاسات الثلاث والتشكيلات التي تبقى خارج الوزارات لنفس الضوابط العامة دون الخروج عليها.
- إنهاء الاستقلال لكافة التشكيلات الإدارية داخل الوزارات والموجودة حاليا داخل الهيئات المستقلة التي ستنتقل إلى الوزارات. حتى الشركات العامة تخضع لإشراف الوزراء ويتحملون المسؤولية عنها، واثبتت التجربة أن العراق لم ينتفع من استقلال الشركات العامة في القطاعات كافة. تبقى شركات لكنها ليست مستقلة.
- شمول الشركات العامة بالموازنة الموحدة بدرجة من اللامركزية المالية للتشغيل والمبيعات؛ وتقدر القيمة المضافة الإجمالية وتدخل إيرادا للموازنة العامة؛ وفي المقابل تخصص الموازنة العامة للشركات تعويضات المشتغلين والنفقات الضرورية للتجديد والاستثمار.
- يقلص عدد الشركات للوزارة الواحدة دون مراعاة تجانس النشاط لأن تنوع المنتجات والخصائص التكنولوجية لا يمنع انضوائها في منظمة إدارية واحدة.
- فصل نقل وتوزيع الكهرباء عن التوليد. ونقل التوليد إلى وزارة الصناعة. ونقل جميع أنشطة الصناعة التحويلية النفطية: بتروكيمياويات وتصفية ... إلى وزارة الصناعة.
- استحداث وزارة للبنى التحتية والتنمية المكانية ترتبط بها أمانة بغداد، وتشرف على البلديات، وتنقل إليها مسؤوليات نقل وتوزيع الكهرباء والإشراف على مشاريع البنى التحتية كافة. واستيعاب دوائر وزارة الإعمار والإسكان في هذه الوزارة.
- دمج وزارتي موارد المياه والزراعة. وتشكيل شركة متخصصة متكاملة القدرات لتصميم وتنفيذ شبكات الري والبزل واستصلاح التربة بوسائل تقنية وموارد بشرية كافية.
- تجميع قدرات القطاع العام في البناء والإنشاء، عدا الري والبزل والنفط، في ثلاث أو أربع شركات تتبع إلى وزارة البنى التحتية والتنمية المكانية.
تتولى وزارة البنى التحتية تجميع وتنسيق إمكانات القطاع الخاص ذات العلاقة في بضعة شركات كبرى بالإقناع والدعم التقني والتنظيمي.
- منع الشركات العامة والدوائر كافة من التعاقد بالمطلق. وحصر مهمات التعاقد للتجهيزات الحكومية ومقاولات المشاريع في دوائر بعينها لخدمة الحكومة وجميع مرافق القطاع العام.
ولهذا الغرض يجري تجميع قدرات الدولة في إدارة التجهيز والإشراف على المشاريع في العدد القليل من الدوائر المشار إليها آنفا. استيرادات الحكومة هي التي تقوم بها حصرا ولا يجوز التعاقد مع جهة عراقية خاصة أو اجنبية لهذه المهمة.
- يكون رئيس مجلس الوزراء من الأعضاء المنتخبين في المجلس النيابي وهو في نفس الوقت رئيس الحزب الأكثر عددا في المجلس. وتلتزم الأحزاب بهذه القاعدة دون حاجة لتعديل الدستور. أي لا يجوز تعيين مستقل لرئاسة الوزراء، ولا يجوز لرئيس مجلس الوزراء الانتماء لحزب يرأسه غيره.
- بعد إعادة التنظيم تشكل اللجان في مجلس النواب على أسس أخرى لضبط الأداء ، وبصفة أولية ، في المجال المالي والاقتصادي تكون لجنة الاستثمار الحكومي هي الأكثر أهمية؛ ثم لجنة الإيرادات الحكومية غير النفطية؛ ولجنة التصنيع، ولجنة الصادرات غير النفطية ... وهكذا.
- إعادة تنظيم وتطوير دوائر الشرطة والتحقيقات القضائية تدريجيا. وتوسيع خدمات الدوائر الحكومية الصرفة مثل التسجيل العقاري والضرائب والأحوال المدنية والمرور ... وسواها بحيث ينتفي الانتظار مطلقا.
- يتحمل رئيس مجلس الوزراء مسؤولية عن فرض القانون والنزاهة ويمنح صلاحيات كافية لمعاقبة الفشل في الإداء، وله صلاحية الاستغناء عن خدمات أي منتسب في الدولة حسب اجتهاده.
هذه مقترحات أولية، ولا يستبعد الخلاف حولها، والعملية تفصيلية بطبيعتها والمهم مباشرة إعادة التنظيم بهدف تجاوز الفشل الإداري وضآلة الإنجاز، وتعيين المسؤولية.