منذ تشرين الاول عام 2019 ولغاية الآن، يشهد العراق حراكا اجتماعيا وسياسيا واضحا. وهذا الحراك نجح في اجبار السلطات في الدولة على السير نحو تنظيم انتخابات مبكرة، من خلال اقرار قانون جديد لمفوضية الانتخابات وتشكيل هذه المفوضية، واقرار قانون جديد للانتخابات التشريعية. كما تم تحديد موعد للانتخابات في السادس من تشرين الاول القادم، والمفوضية تعمل بشكل متواصل لتأمين تنظيم هذه الانتخابات. نظريا، هذه المؤشرات تدلل على ان هناك ارادة لإدارة الحراك السياسي وما نتج عنه بطريقة سلمية الا وهي الانتخابات. وهذا هو المسار الصحيح. كون الانتخابات هي الطريقة السليمة لإدارة الصراع الاجتماعي والحراك السياسي.
لكن واقع الحال، وبعد سلسلة حوادث الاغتيالات والخطف والاشكال الاخرى للعنف، وتطورات الاوضاع الامنية والسياسية والمواقف الحزبية، افرزت مجموعة اشكاليات مبطنة وغير ظاهره. وهذه الاشكاليات، اذا ما استمر تغذيتها ستقود حتما الى البلاد الى حافة الهاوية. كما ان هذه الاشكاليات هي نتاج لسلوكيات " قوى واحزاب " بعضها له دوره السياسي (التشريعي والتنفيذي) الكبير، وبعضها احزاب جديدة نشأت مؤخراً عن الحراك الاحتجاجي. عليه هذه الاشكاليات اذا ما استمرت فلن تكون الانتخابات وسيلة سلمية لادارة هذا الحراك ولن تقود الى نتائج سلمية.
بالنسبة " للقوى السياسية " ذات الدور في حكم البلاد، وبعدان كانت تعارض اجراء انتخابات مبكرة وجاهدت لعرقلة اجرائها، تصر اليوم على اجراء الانتخابات المبكرة في موعدها المقرر وانها فرصة لإخراج العراق من اوضاع عدم الاستقرار كما هو حال تحالف الفتح. ولم يقتصر الحال على هذا الحد، بل نلاحظ قوى وكتل نيابية مثل تحالف سائرون والتيار الصدري ذهب الى ابعد من ذلك حينما اكد زعيمه السيد مقتدى الصدر وبعض قياداته السياسية غير مرة على ان رئاسة الحكومة القادمة ستكون من حصة التيار الصدري، وان الاخير سيحصل على اكثر من مائة مقعد نيابي وسيتمكن من تشكيل الحكومة من دون مزاحمة منافسيه. كذلك ذهب وفد من التيار الصدري الى اقليم كردستان العراق لترتيب شكل التحالفات القادمة. والاكثر من ذلك ، اكدت مجلة ذي ايكونومست البريطانية ان الصدر يتحالف مع الاميركان لتأمين حصوله على رئاسة الحكومة المقبلة. (*)
وبالرغم من ان موقف التيار الصدري هذا يدلل على ان التيار بات مقتنعا ومصرا على اجراء الانتخابات المبكرة من خلال الاعلان عن طموحه السياسي – وهو حق مشروع ، الا ان الامر له ابعاد اخرى تتمثل احدها في التيار الصدري، وهو تيار جماهيري ضامن لأصواته، وعندما يعلن عن طموحه السياسي فهو يهدف الى ايصال رسائل تثبيط للجماهير من خارج انصاره بعدم جدوى المشاركة الواسعة في الانتخابات بهدف احداث التغيير المنشود.
اما تحالف الفتح والقوى والتيارات المنضوية تحت لوائه ومنها الالوية المسلحة ضمن الحشد الشعبي، وهو ثاني اكبر تحالف نيابي، نلاحظ انه يريد اجراء الانتخابات المبكرة في موعدها ويعدها استحقاق وطني. وهذا ما فسره المتابعين والمختصين على انه الفتح يريد اضفاء مزيد من الشرعية على دوره السياسي كون انتخابات 2018 لم تمنح "القوى السياسية" بما فيها الفتح الشرعية الكافية بفعل حالات التزوير وانخفاض نسب المشاركة. كما يروها انها محاولة لقطع الطريق امام اي حركة احتجاجية قد تظهر بعد الانتخابات المبكرة بدعوى ان مطلب احتجاجات تشرين هي اجراء انتخابات وها قد اجريت الانتخابات.
اما من جانب القوى والاحزاب والحركات والتيارات السياسية الجديدة التي شُكلت بعد الحركة الاحتجاجية، وبعد ان كانت مُصرة على اجراء الانتخابات المبكرة وسُجلت رسميا كأحزاب سياسية بهدف المشاركة في الانتخابات، قد غيرت توجهها واعلنت عن عدم مشاركتها في الانتخابات عدا (حركة امتداد عن تشرين) بقيادة علاء الركابي التي دخلت ضمن التحالف الرباعي الذي ضم الحركة اضافة الى تيار الحكمة، المؤتمر الوطني، تحالف النصر. وساندهم في ذلك الاحزاب والتيارات المدنية مثل الحزب الشيوعي وحزب الشعب للإصلاح بقيادة فائق الشيخ علي.
هذا الموقف المتحول جاء احتجاجا على موجة الاغتيالات التي طالت عدد من قيادات الحركة الاحتجاجية والمرشحين الجدد. اذا اكدت هذه القوى ان الاوضاع الامنية المتردية واستهداف اعضاء احزابها بالاغتيال والخطف والتهديد لن يمكنهم من ان يكونوا منافسين للقوى التقليدية في الانتخابات القادمة.
وعلى الرغم من عدم تضمين قانون الانتخابات حدا ادنى للمشاركة في الانتخابات لتكتسب شرعيتها القانونية، فان هذه المقاطعة تفند مقبولية نتائج الانتخابات القادمة، كما انها تخل بمستوى شرعية السلطات الناتجة عنها، وفي احسن الاحوال ستشهد البلاد حركة احتجاجية اكثر اتساعا، وقد تتصاعد وحينها يكون الجميع قد خسر.
تفكير المقاطعون بعدم اجراء انتخابات والعمل على تقويضها في مرحلة الدعاية الانتخابية وحتى يوم الانتخابات لن يكون مسموح به من قبل التيار الصدري ولا قوى تحالف الفتح كونها ستنبري للدفاع عن العملية الانتخابية وسيسوقون انفسهم على انهم مؤمنين بالانتخابات التي طالبت بها حركة تشرين وانهم مع مصالح الشعب واحلال الاستقرار, وعندها ستكون الحكومة العراقية في حرج كبيرة بين وعودها بتنظيم الانتخابات في موعدها ومواجهة المقاطعين الذين ربما يعملون على افشال العلمية الانتخابية. وفي ذات الوقت ستكون حركة تشرين في احراج امام مؤيديها وحتى المترددين في تأييدها الذين سيتحولون الى جانب القوى والتيارات المشاركة في الانتخابات.
تلاشي هذه الاشكاليات يكون من خلال فرض الامن ومحاسبة المتورطين والفاعلين في تهديد حياة الناشطين وكشف الجهات المسؤولة عن استهداف المتظاهرين لبعث رسالة ايجابية لتوسيع المشاركة الانتخابية. ومن دون ذلك، وفي ظل الاوضاع الامنية المتردية، ستجعل الانتخابات لجهات متنفذة وتملك السلاح والسلطة والمال ، وبالتالي ستقود هذه الانتخابات الى اتساع رقعة الرفض للنظام السياسي وسيتكرر مظهر تشرين.
(*) Firebrand cleric Muqtada al-Sadr and America move closer in Iraq: