مَثَّلت احتجاجات تشرين ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر، ولاسيما مابعد عام 2003 من جميع جوانبها، إذ كشفت عن أزمة السلطة وزيف الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقيقة النظام السياسي الغارق في الفساد والمحاصصة والزبائنية السياسية والاوليغارشية، وعمق الفجوة بين النظام والمجتمع؛ لذلك حاولنا في بعض مقالاتنا السابقة دراسة هذه الظاهرة وتناولنها من عدة جوانب، سواء من حيث مدلولها المفاهيمي، أو بنيتها الاجتماعية ومقارباتها الشعبوية – البريكارية، فضلاً عن ديناميتها وخطابها السياسي والاجتماعي، مقارنة ببنية ودينامية وسلوك الإسلام السياسي الشيعي. في هذا المقال سنتناول هذه الظاهرة وتأثيرها على مستقل الاجتماع السياسي الشيعي.
في البدء علينا أن نسّلم بقضية أساسية بأن احتجاجات أو انتفاضة تشرين، مَثَّلت خروج على المعادلة السياسية التي حكمت العملية السياسية، بما انتجتها من ويلات ودمار للدولة وفساد لمنظومتها العامة، خروجاً من التفكير الضيَّق وحالة الاستقطاب الطائفي إلى التفكير بالهوية الوطنية، وهي نتاج طبيعي لكل تلك المظاهر وحالة عدم الاستقرار وغياب العدالة الاجتماعية. ولعلها كسرت القاعدة التي رسختها بعض تيارات احزاب الإسلام السياسي بمعية بعض رجال الدين في العقل الشيعي أو المجتمع الشيعي بشكل عام بأن "حكم الشيعة في العراق هو بحد ذاته مكسب تاريخي". وحقيقة الأمر أن الإيمان والتسليم بهذه القاعدة تنم عن سذاجة أو مهزلة العقل البشري "كما يقول علي الوردي". فحتى وأن سلمنّا بها بمرحلة تاريخية معينة، فأنها لا تستقيم مع عقل الإنسان وكرامته وتطلعاته طويلاً؛ لأن شيوع الفساد في جميع مفاصل الدولة والنظام السياسي، وتحويل شكل النظام من ديمقراطي إلى أوليغارشي "بشكل يحتكر السلطة بيد أقلية من المجتمع"، ويغَّيب القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية... وغيرها من المظاهر السلبية، سيدفع بالمجتمع إلى مقاومته ومناهضته بشكل أو باخر مهما كانت سلطته وسطوته، فضلاً عن ذلك فأن المكاسب التاريخية يفترض أن يتم الحفاظ عليها بطريقة تتماشى مع أهمية وتطلعات المكسب نفسه، وبشكل يتناسب وآليات الحفاظ عليه، بعيداً عن الفساد والمحاصصة ومظاهر عدم الاستقرار السياسي التي لازمت الحالة العراقية بعد عام 2003. لهذا من الطبيعي جداً أن يُحدث هذا الاحتجاج "ولو بعد حين" من تغيير أو تغّير في نمط الاجتماع السياسي الشيعي على المستويين المحلي والوطني، سواء فيما يتعلق بالبيئة الشيعية أو ما يتعلق بالبيئة العراقية بشكل عام، من خلال ما افرزهُ الاحتجاج وما سيترتب عليه من افرازات مستقبلية على مختلف المستويات.
بموازاة ذلك، يبدو بأن الشيعة سياسياً اندمجوا كلياً في الدولة الحديثة، وغادروا المقاربة الدينية – الفقهية التاريخية، التي تقر بعدم شرعية النظم الحاكمة في زمن الغيبة، على الرغم من التحفظات الكبيرة التي تبديها بعض تيارات الإسلام السياسي الشيعي وما تنتهجه من سلوك على المستوى السياسي، ولاسيما في ظل المقاربات السياسية والاجتماعية التي كشف عنها جيل تشرين أو الجيل الجديد في البيئتين الشيعية والعراقية، التي اسهمت في زيادة الهوة بين جيلين مختلفين (جيل الإسلام السياسي وجيل تشرين)، سواء فيما يتعلق منها بالتنشئة السياسية – الاجتماعية، أو ما يرتبط بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والانفتاح التكنولوجي، وغيرها من التأثيرات التي تتعلق بالإرث الثقافي للبيئة. فالتنشئة "كما تطرقنا لها في مقالاتنا السابقة" خلقت عند الجيل الجديد ذهنية مختلفة عن الذهنية السياسية والاجتماعية التي عاصرت النظم السياسية السابقة وعصر الايديولوجيات، فضلاً غن تنشئتها السياسية المتلازمة عقائدياً بما هو ديني/فقهي، ولعلَّ لوسائل التواصل الاجتماعي دور مهم في خلق هذه الذهنية وهذا الوعي الوطني، إذ وَفَّرت اغلب منصات التواصل الاجتماعي فرصة للتحاور بمختلف الثقافات والتطلعات والمستويات، فضلاً عن توفيرها لفرصة التنظيم والتواصل المستمر عبر مجموعات خاصة تنَّظم نفسها لكل مناسبة معينة؛ ما خلق لهم رأي عام مؤثر سياسياً واجتماعياً ليس على النطاق المحلي بل على النطاق الدولي ايضاً، وزادت من تنشأتهم السياسية المفعمة بالروح الوطنية، بعد ان كانت هذه الوسائل منصات للتناحر والسب والقذف طائفياً وحزبياً في بدايتها الاولى؛ ما اسهمت في تنسيق العمل الاحتجاجي في كل ساحات الاحتجاج.
فالمجتمع الشيعي الذي تعرض لمظلومية سياسية واجتماعية عبر التاريخ، كان يتطلع لمرحلة مزدهرة بعد عام 2003 أو بعد أن تبوأت الاحزاب الشيعية السلطة في البلد، إلا أن هذا المجتمع تعرض لصدمة كبيرة بعد أن خذلته تلك السلطة والاحزاب في تحقيق أبسط مستلزمات الحياة والعيش الكريم؛ مما أدى إلى مراجعة الموروث التاريخي للمقاربة السياسية والاجتماعية الشيعية، بغض النظر عن نوع المراجعة سواء كانت بوعي أو بدون وعي، إلا انها مثلت ردَّة فعل راديكالية اتجاه تلك المقاربات. هذه المراجعة بدأت ملامحها مع بداية حركة الاحتجاجات بعد عام 2010 على مستوى النخبة الاجتماعية من مثقفين وناشطين، وتواصلت مع استمرار حركات الاحتجاج، وبانت بوادرها بشكل واضح وترسخت في خطاب تشرين، وهذا بالتأكيد سيؤثر كثيراً من الناحية السوسيو – سياسية على تحالفات القوى السياسية الحالية، التي ستضطر أن تغّير من طريقة إدارتها ومنهجها واجتماعها السياسي، وفقاً للذهنية الجديد التي بدأت تتبلور في الجيل الحالي، جيل متحرر من الارتباطات التقليدية التي ورثها العقل الشيعي سياسياً واجتماعياً. هذه الذهنية اذا ما تبلورت أكثر ، وأصبح لها شأن سياسي واجتماعي في المستقبل، قد تلتقي مع ذهنيات أخرى على المستوى الوطني، كالذهنية السنية والكردية، ولاسيما أن الذهنية الحاكمة لهما اخذت تتزعزع بعد التجربة السياسية العراقية على مدار السنوات الماضية، فالمقاربة القبلية – السياسية، التي تحكم العقل السُنَّي، بدأت تتزحزح مع الجيل الجديد أيضاً وأصبحت أكثر تحرر بعد تجربة داعش، كذلك الحال بالنسبة للذهنية الكردية فقد بدأ الجيل الكردي المعاصر لجيل تشرين يتمّرد على المقاربة القومية – السياسية، التي حكمت العقل الكردي طيلة العقود الماضية.
بالمحصلة نعتقد بأن المعادلة التي حكمت العقل الشيعي منذ قرون، تعرضت لانكشاف تاريخي خلال تجربتها السياسية بعد عام 2003 وحتى الآن، وأن ملامح المرحلة المقبلة قد تفرض عليها سلوك جديد يتجاوز الأطر القديمة التي كانت تحكمه طيلة السنوات السابقة وتتماشى مع الذهنية الجديدة التي افرزتها انتفاضة تشرين على المستوى السياسي والاجتماعي. وهذا بالتأكيد بحاجة إلى مقومات كثيرة على كافة المستويات ليسنا بصدد ذكرها في هذا المقال، لكن بشكل عام يبدو بان التغيرات التي افرزتها وستفرزها انتفاضة تشرين ستساهم في تغيير نمط الاجتماع السياسي الشيعي مستقبلاً.