مع اقتراب موعد مغادرة الرئيس ترامب في وقت لاحق من شهر كانون الثاني-يناير الجاري وتسلم الرئيس المنتخب (جو بايدن) لمقاليد السلطة في البيت الابيض تبدو بغداد على موعد مع تحول كبير في اهتمامات واولويات صانع القرار الجديد في واشنطن، مما يتطلب منها إعادة النظر في حساباتها وسياساتها، وتقييم وضعها الإقليمي والدولي؛ لمنع تطور الأوضاع المحلية والإقليمية بشكل يلحق الضرر بمصالحها العليا.
يزعم الكثير من الخصوم المحليين، وربما الاقليميين للحكومة العراقية الحالية انها حكومة أمريكية أو كما قال بعضهم: انها حكومة عميلة لأمريكا، وهي مزاعم من الواضح أنها غير دقيقة ومبالغ فيها، ويمكن بسهولة فهم الأسباب الكامنة وراءها، والاجندات المحركة لها. مع ذلك لا يوجد شك في ان حكومة السيد مصطفى الكاظمي تحمل نوايا طيبة اتجاه واشنطن، وتفهم بشكل مناسب مصالح الأخيرة في العراق والمنطقة، ولديها الرغبة في تأكيد استقلالية بلدها وأولوية مصالحه، ولكن وجود النوايا الطيبة شيء، وامتلاك القدرة على تحويل النوايا والرغبات الى برنامج عمل شيء آخر، خاصة عند ادراك حجم التحديات والعقبات التي تقيد إرادة الحكومة، وتشل مواقفها إزاء خصومها في الداخل والخارج، فتضعف الثقة بها، وتجعل التردد سيد الموقف في رسم ملامح علاقتها مع الأطراف الإقليمية والدولية، لاسيما مع الوقت القصير المتاح لها من الان الى موعد اجراء الانتخابات القادمة المتوقعة في منتصف أو أواخر هذه السنة.
ان الظرف الذي يمر به العراق اليوم، وما ينتظره من مخاطر وتهديدات وتحديات في المستقبل، يحتم على قادته سواء كانوا حلفاء الحكومة ام اعدائها النظر بعقلانية وواقعية ورؤية استراتيجية بعيدة المدى لحماية مصالح بلدهم العليا، وعدم الاكتفاء بجعل انفسهم مجرد أصداء لأفعال القوى الخارجية المحيطة بهم، فهم سيتعاملون مع إدارة أمريكية جديدة ستضع نصب عينيها حل مشاكلها الداخلية التي ستأخذ الكثير من وقتها وجهدها (استعادة الثقة بالنظام الديمقراطي الأمريكي ووحدة الشعب الأمريكي، تطوير الاقتصاد، الصحة، الهجرة، والحقوق والرعاية الاجتماعية...)، ناهيك عن مواجهة مشاكلها الدولية الكبرى المرتبطة بالزعامة العالمية: كالصراع مع روسيا والصين، والحفاظ على زخم النموذج الأمريكي وغيرها، والتي ستحاول فيها امساك أو استعادة زمام القيادة من خلال الاجماع الدولي بتعزيز علاقاتها مع حلفائها الأساسيين في أوروبا وجنوب شرق اسيا تحت مظلة قانونية تمثلها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية ذات العلاقة أو من خلال الاحلاف الدولية سواء في مواجهة الصراعات الإقليمية والدولية أم في التعامل مع القضايا الدولية الملحة في السياسة والاقتصاد والمناخ والصحة وانفاذ القانون الدولي.
وفي ظل هذا الوضع الأمريكي المعقد داخليا ودوليا، وشرق أوسطيا قد لا يبدو العراق محل اهتمام كبير في اجندة واشنطن القادمة، وستحكم علاقة الأخيرة به ظروف الصراع مع طهران، وهذا سيتطلب من بغداد معرفة مكانها بين هذين الخصمين اللدودين؟
يمثل العراق بالنسبة لطهران الجائزة التي تروم انتزاعها بشكل نهائي من دائرة النفوذ الأمريكي؛ لتحويله الى قاعدة ارتكاز لتحقيق مصالحها الاقتصادية وتوسيع نفوذها الإقليمي والدولي. اما بالنسبة لواشنطن فالعراق –في الوقت الحاضر-مجرد ترس او مصد لمنع تمدد النفوذ الإيراني وتهديده لمصالح واشنطن وحلفائها الشرق الاوسطيين. لذا فكلا الطرفين غير معنيين ببناء دولة عراقية قوية، وغير معنيين بالمطلق بحماية مصالح العراقيين العليا، بل هما يجدان في الوضع العراقي الحاضر (هشاشة الدولة وضعفها وانقسام قرارها السياسي) فرصة مناسبة لاستعراض القوة في الأرض العراقية، وساحة للتفاوض ومنع الأمور بينهما من الخروج عن نطاق السيطرة، ولن تخرج مواقف حلفاء الطرفين في النظر الى بغداد عن رؤيتهما أعلاه، بصرف النظر عن التصريحات والشعارات المعلنة لاستقلالهم عن القرار في البلدين.
وانطلاقا من هذا الوضع الحرج للعراق، يمكن القول: ان دخول واشنطن في ظل إدارة بايدن في مسار تفاوضي متوقع مع طهران قد ينتهي الى احتمال منح الجائزة لطهران مقابل كفها عن التمدد الإقليمي وعرقلة مسيرة الصلح مع إسرائيل، فضلا على عدم تهديدها مصالح واشنطن وحلفائها.
ومثل هذه النهاية ترضي الطرفين، حتى لو لم تكن معلنة؛ فالظروف الاقتصادية والاجتماعية لطهران تجعلها سعيدة بها، وربما يكون رفعها لسقف مطالبها التفاوضية هدفه الوصول اليها، وعندها يكون حديثها عن اخراج الوجود الأمريكي من الشرق الأوسط مجرد غطاء لإخراجه من العراق لا غير. كما ان واشنطن سيعجبها هذا الحل؛ لأن بايدن المنشغل بأولويات أخرى تحكم سياسته الخارجية لن يعترض على مسار تفاوضي مع طهران ينتهي بنتيجة (رابح-رابح) فهو في النهاية يريد إيجاد حل لصراع مزعج معها يحفظ مصالحها كدولة، ويحجم دورها كثورة، ولا يهدد مسيرة السلام مع إسرائيل، ولا يخلق مشاكل لحلفاء واشنطن في المنطقة.
بناء على ما تقدم، يبدو العراق ذاهبا الى ان يصبح فريسة للتفاوض بين واشنطن وطهران في أي مفاوضات قادمة بين الطرفين، وسيكون ذلك على حساب مصالحه كدولة وشعب، وعندها تكون النوايا الطيبة للقادة العراقيين إزاء طهران وواشنطن غير كافية لحملهما على وضع مصالح العراق كأولوية في علاقاتهما سواء في مسارها التصارعي ام في مسارها التفاوضي، فالاولوية المنطقية هي لمصالحهما، ولن يكون حديثهما عن مصالح بغداد الا مجرد ذر للرماد في العيون او لحفظ ما تبقى من ماء في وجوه الزعامات العراقية الداعمة للطرفين.
ولخروج العراق من سيناريو الوقوع في فخ كونه ورقة تفاوضية وساحة صراع محدودة المخاطر للولايات المتحدة وإيران يتطلب من قادته وضع استراتيجية فاعلة وواضحة للتعامل مع كل من الإدارة الامريكية الجديدة وإيران، استراتيجية تقنع صانع القرار في واشنطن ان العراق ليس مجرد مصد لطموحات ونفوذ طهران، بل هو يمثل مرتكزا مهما في حماية السلم والامن الإقليميين، ولديه دور كبير يلعبه في المنطقة والعالم، ولا يمكن اغفال مصالحه الحيوية في أي حالة صراع ام تفاوض بين الأطراف الإقليمية. كما تقنع إيران بانه أكبر من ان يكون مجرد جائزة تمنح لها عند الضرورة، وان لديه الاستقلالية والقدرة لتقرير أولويات مصالحه وتحالفاته، ولا يقبل بالتجاوز على سيادته والتدخل في شأنه الداخلي، وانه ليس مجالا حيويا لنفوذ الاخرين، واي تحالفات او توافقات تحدث في سياسته الخارجية مبنية على أساس الشراكة والندية لا على أساس الخضوع والتبعية.
ان وجود مثل هذه الاستراتيجية مهم للغاية؛ لأنه يجعل صانع القرار العراقي لاعبا لدور أساس في وضع جدول الاعمال للآخرين سواء في واشنطن وطهران كما في غيرها من عواصم المنطقة والعالم، ولا يكون مجرد ورقة في جداول اعمال الاخرين، وهذا سيعطيه قوة وتأثيرا أكبر لحماية مصالح بلده، واستعادة النظر اليه كدولة جديرة بالاحترام والثقة، على خلاف الحال عندما تغيب مثل هذه الاستراتيجية.
والتساؤل المهم هو: هل ان القيادات العراقية الحالية سواء من كان منها في السلطة ام خارجها مهيئة لوضع هكذا استراتيجية ؟
هناك قدر كبير من الشك يدور حول ذلك، ولكن يبقى الامل في امتلاك هذه القيادات قدر أكبر من التعقل والروية لتدرك انها عندما تعجز عن القيام بهذه المهمة، فإنها لا تراهن على موقف ومصلحة آنية، بل تراهن على مصير العراق ووحدته وسيادته وكرامة شعبه.