كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن موضوع غلق السفارة الأمريكية في بغداد، بعد رسالة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لرئيس الجمهورية العراقية السيد برهم صالح، التي نقلها بدوره إلى رئيس الحكومة وقادة القوى السياسية العراقية، والشيعية على وجه التحديد. وعلى الرغم من أن الموضوع ظهر إعلامياً وتم تداوله سياسياً بشكل واسع، إلا أنه لم يحدث إلى حد الآن، أي تحرك أمريكي حقيقي بهذا الشأن، لكن من الممكن أن يتخذ الرئيس الأمريكي هذا القرار، ولاسيما أذا ما استمر التهديد للبعثة الدبلوماسية الأمريكية في العراق، وخشته من أن يتم استهدافهُ شخصياً واسقاطه في سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية من خلال موضوع استهداف سفارة بلاده في بغداد، أو اقتحامها واحتجاز من فيها كرهائن، شبيه بتلك الحادثة التي تم فيها اسقاط الرئيس الأمريكي الأسبق جمي كارتر في سباق الانتخابات الأمريكية في4 نوفمبر 1979، حينما اقتحم مجموعة من الطلاب الإيرانيين المؤيدين للسيد الخميني وثورته، الذين طالبوا الولايات المتحدة بتسلم الشاه إلى إيران لمحاكمته، وهي الأزمة التي خسر على أثرها الرئيس كارتر سباق الانتخابات لمنافسهِ رونالد ريغان، إذ اطلق سراح الرهائن بعد دقائق من اداء الرئيس الأمريكي الجديد اليمين؛ مما فُسرت العملية على أنها استهداف للرئيس الأمريكي أنذاك؛ ولهذا يخشى الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب من تكرار هذا السيناريو معه؛ ليتم اسقاطه بتلك الطريقة، ولاسيما مع الفرضيات التي ترجح حظوظه وفوزه في السباق الرئاسي القادم، فضلاً عن مواقفه السياسية والاقتصادية المتطرفة من إيران خلال ولايته الأولى، والمخاوف الإيرانية من فوزه بولاية ثانية. ولهذا يبدو بأن موضوع غلق السفارة الأمريكية، ليس كما ظهر في الإعلام، وإنما قد يكون له خلفيات ودوافع أخرى، يأتي في مقدمتها، تعزيز موقف الرئيس ترامب في حملته الانتخابية أمام الرأي العام الأمريكي، والأخذ في الحسبان حادثة أزمة الرهائن بين واشنطن وطهران في عام 1979، ووضع الخطط الكفيلة لهذا السيناريو أمام صنّاع القرار والقوى السياسية في العراق، ولاسيما مع الاستهداف المتكرر من قبل الجماعات اللادُوليتة للبعثات والمقّار الدبلوماسية الأجنبية والمواقع العسكرية للتحالف الدولي.
يمكننا القول، بأن الخارجية الأمريكية والإدارة الأمريكية بشكل عام، نجحت في تحشيد المجتمع الدولي والبعثات الدبلوماسية الدولية والأممية في التعاطي مع الموضوع بشكل جدي؛ الأمر الذي انعكس إيجابياً على ردود الفعل الدولية لتلك البعثات، وتقوية موقف الحكومة العراقية، بموازاة موقف الجماعات العسكرية والقوى السياسية الداعمة لها على الصعيدين المحلي والإقليمي، ولاسيما أن الرسالة الأمريكية كانت مصحوبة بتهديد شديد اللهجة اتجاه الفئات التي حددتها الإدارة الأمريكية واتهمتها بعملية الاستهداف. بهذا الاتجاه يبدو بأن فرضية غلق السفارة، كان سيناريو معد سلفاً من قبل الإدارة الأمريكية، تحسباً لأي طارئ مع قرب السباق الانتخابي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن إدارة ترامب تعاملت بذكاء كبير مع هذه الفرضية.
على الجانب الأخر، لا يمكننا التقليل من حجم التداعيات في حال اقدمت الولايات المتحدة على غلق سفارتها بالفعل في بغداد، والتهديدات التي من الممكن أن يتعرض لها العراق، جراء ذلك. إذ يترتب على هذا الاجراء إذا ما تم بالفعل، قطع العلاقة الدبلوماسية ولو من جانب واحد؛ الأمر الذي يؤدي إلى وقف جميع اوجه التعاون السياسي والأمني والاقتصادي بين واشنطن وبغداد. فعلى المستوى الأمني والعسكري، فأن غلق السفارة وقطع العلاقة، يعني سحب التحالف الدولي كل قواته من العراق ووقف برامج الدعم والتسليح والاستشارة، فضلاً عن وقف الحرب على تنظيم داعش ورصد تحركاته في العراق، ولهذا الأمر كثير من التداعيات الأمنية والسياسية التي من الممكن أن تُلحق بالعراق والحكومة العراقية. أما على المستوى الاقتصادي، فأن غلق السفارة الأمريكية في بغداد، يعني وقف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التعاون مع العراق ومساعدته، وهذا الأمر من شانه أن يؤدي إلى انسحاب المنظمات الخيرية المرتبطة بأمريكا بشكل أو بأخر؛ مما قد يؤدي إلى وقف المساعدات الإنسانية والمالية التي تتعلق بحملات إعادة البناء والأعمار وإعادة النازحين، فضلاً عن وقف الاستثمارات الاجنبية في العراق؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى احداث شلل في اغلب القطاعات المهمة والحساسة، وفي مقدمتها قطاعات الطاقة، والغاء استثناء العراق من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، فيما يتعلق باستيراد الغاز والطاقة الكهربائية، هذا من جانب، ومن جانب أخر، بالتأكد ستَحد واشنطن من تدفق السيولة المالية من الدولار الأمريكي إلى العراق، وهذا سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والصحية الراهنة في البلاد، ولاسيما أن العراق يعاني من أزمة اقتصادية ومالية كبيرة على المستوى الاقتصادي، فضلاً عن الأزمة الصحية المتعلقة بتفشي وباء كوفيد 19-، والمخاطر المتعلقة بانسحاب البعثات الدبلوماسية الدولية وبعثات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وسفارات الدول العربية.
إن المخاوف العراقية من اجراء غلق السفارة الأمريكية في بغداد، مبنية على فرضية أو فكرة ما سيحصل بعد الاغلاق، وهي سيناريوهات وخيمة جداً، من الممكن أن تطيح بالعملية السياسية والنظام السياسي العراقي، الذي شكلته ودعمته واشنطن بعد عام 2003، ولاسيما أن اغلاق السفارة وانسحاب البعثات الدبلوماسية من بغداد، يعني سحب الشرعية الدولية من النظام السياسي العراقي، فضلاً عن التداعيات الداخلية التي تتعلق بالقوى السياسية المؤيدة والمعارضة للوجود الأمريكي، أو التداعيات التي من الممكن ان تحصل بين الفصائل نفسها، ولاسيما أن زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر غير راضِ على ما يحصل من قصف واستهداف للبعثات الدبلوماسية في العراق، في ظل ترجيحه للقنوات السياسية والدبلوماسية على الخيار العسكري، فضلاً عن تصاعد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالاستحقاقات الوطنية منذ انتفاضة تشرين من العام الماضي وحتى الآن.
وعلى ما يبدو، بأن بين فرضية غلق السفارة وتداعياتها، هناك فرضية أخرى، تسعى لها طهران في العراق، إذ تحاول افشال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الرأي العام الأمريكي من خلال الموقف العراقي، واحراجه في الانتخابات الامريكية القادمة، سواء من خلال التصعيد بين الفصائل الموالية لها ضد القوات الأمريكية أو البعثات الدبلوماسية في العراق، أو من خلال تكثيف هجمات الجماعات المسلحة ضد القواعد العسكرية الأمريكية في العراق والمنطقة بشكل عام، كما حدث مؤخراً في قصف قاعدة الحرير في أربيل، أو من خلال الاستهداف الذي تتعرض له القوافل الخاصة بنقل الآليات والمعدات العسكرية والفنية إلى التحالف الدولي في العراق، أو قد نشهد بعض الحوادث أو الاحتكاكات بين الطرفين في المنطقة او في مضيق هرمز أو غيرها من المناطق المشتركة أو الخاضعة لسيطرة طرف دون أخر. لهذا على صنّاع القرار في العراق، أن يكونوا حذرين من فرضية غلق السفارة الأمريكية، وأن يعوا جيداً خطورة الاقدام على تلك الخطوة، وأن يسعوا إلى ابعاد العراق عن واجهة الصراع الأمريكي – الإيراني، وتحديد نوع العلاقة بين واشنطن وبغداد بعيداً عن القنوات العسكرية، والاكتفاء بالقنوات السياسية والدبلوماسية، وهو الطريق الأمثل للعراق وشعبه والمنطقة بشكل عام.