مرت منطقة الشرق الاوسط بمجموعة تحولات وتغيرات كبيرة على مر التاريخ، وكانت محط أنظار الطامعين، ومثلت محور الصراع بين الإمبراطوريات القديمة، ثم اصبحت هدفاً للاستعمار الأوروبي في العصور الحديثة وبدايات القرن العشرين، حتى تمكنت الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة من فرض سيطرتها غير المباشرة على المنطقة تحت مفاهيم العولمة والتكنولوجيا الحديثة والأمن المشترك والحرب على الإرهاب وتأمين المصالح، فضلاً عن ذريعة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان... وغيرها من الحجج والذرائع التي يتعكز عليها العقل السياسي الأمريكي في المنطقة. لقد بدأ الاهتمام الأمريكي بالشرق الاوسط بشكل فعلي بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الحديث عن شكله وطبيعته ورسم ملامحه المستقبلية ودور إسرائيل فيه، مر بعدة مراحل؛ وذلك من أجل التمهيد إلى شرق اوسطي قائم على السلام والاعتراف العربي بدولة إسرائيل القومية، من خلال التطبيع السياسي، وأنهاء العداء العربي – الإسرائيلي. هذه المرحلة بانت ملامحها وتوجهاتها السياسية عبر مجموعة مراحل واحداث سياسية وتاريخية مهمة، مرت بها المنطقة في الثلاث عقود الاخيرة، كانت بمثابة الخطوات أو المقدمات الأولى لمشروع الشرق الأوسط الحالي، القائم على الاعتراف بدولة إسرائيل والتطبيع معها:
المرحلة الأولى: نهاية الحرب الباردة
بدأت المرحلة الأولى من مراحل مشروع الشرق الأوسط الجديد في العقل السياسي الصهيو- أمريكي مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، إذ مثل انهيار الاخير، الخطوة الاولى في مراحل بلورة المشروع القائم على الاعتراف بدولة إسرائيل ودورها في المنطقة، فقد اتاحت هذه المرحلة للأمريكيين قدره على التأثير وحرية في التحرك بشكل غير مسبوق، من خلال سيطرتها التامة على النظام العالمي، وتحّكمها في قواعده الاساسية، سواء من خلال المجتمع الدولي او من خلال المنظمات الدولية والأممية، ولاسيما مع دعمها اللامحدود للكيان الصهيوني. فقد بدأت أيديولوجيا الشرق الأوسط الكبير والجديد تتداول على السِن المنظرين اليهود والأمريكيين وفي العقلين السياسيين (الامريكي والإسرائيلي)، ولاسيما مع السطوة الكبيرة لتيار المحافظين الجدد على القرار الخارجي الأمريكي، الذي بدأ يتصاعد مع نهاية عقد الثمانينيات وبداية عقد التسعينيات من القرن الماضي. ونستشف ذلك في طروحات المؤرخ البريطاني برنارد لويس في مقال له نشرت في مجلة الشؤون الخارجية بعنوان (أعادة هيكلية الشرق الادنى) عام 1992. وفي الجانب الصهيوني ارتبط مفهوم الشرق الاوسط باسم شمعون بيريز تحت اسم الشرق الأوسط الجديد, الذي دعا فيه إلى نسيان الماضي والحروب, ووضع حداً للصراع العربي ــــ الصهيوني، وبناء شرق أوسط جديد متجانس، تكون فيه إسرائيل هي احد المرتكزات الاساسية في السياسة الشرق أوسطية, وتحتل المكانة الرئيسة في سلم أولويات الاستراتيجية الأمريكية, كعنصر فاعل وتابع وكشريك. وقد طرح بيريز مشروع الشرق الاوسط الجديد قبل ان يتناوله برنارد لويس، وبالتحديد بعد عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وألف كتاب فيما بعد، حمل ذات العنوان لمقالة برنارد، يدعو فيه إلى اختراق العالم العربي، من خلال النشاط الاقتصادي بالتوازي مع الدعم الأمريكي السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية. هذه المرحلة برز فيها العراق، كنظام معادي، لكنه ضعيف، ولاسيما بعد حرب الخليج وتداعيات دخول الكويت وبداية فرض العقوبات عليه، وإيران كدولة اصولية، لكنها مقسمة وضعيفة نسبياً، وإسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة. كل تلك الاحداث والمتغيرات، طرحت فرصاً عديده للمضي قدماً في تطبيق مشروع الشرق الأوسط القائم على الاعتراف بدولة إسرائيل.
المرحلة الثانية: هجمات 11ايلول/ سبتمبر 2001 وذريعة الحرب على الإرهاب
تعد احداث 11ايلول/سبتمبر 2001 من اهم الدوافع التي دفعت بالولايات المتحدة لصياغة واطلاق مشروع الشرق الأوسط الكبير, نتيجة لتلك الاحداث، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، بصياغة استراتيجية جديدة في المنطقة، تمكنها من ترسيخ تواجدها السياسي والعسكري، وترسيخ نفوذها في المنطقة بشكل فعلي، إذ اصبحت الولايات المتحدة تنظر إلى الأوضاع الداخلية في عدد من دول الشرق الأوسط على انها تهديد للأمن القومي الأمريكي، على اساس أن هذه الأوضاع تربة خصبة لنمو الارهاب والتطرف ليعلن الرئيس الأمريكي السابق بوش الأبن، سياسته أو عقيدته التي تمثلت بالحرب على الارهاب بكل اشكاله، وزرع الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة. تلك العقيدة التي مكنته، بالإطاحة بالنظام السياسي العراقي عام 2003، بعد أن تمت الإطاحة بنظام طالبان في افغانستان 2001. كانت العقيدة الأمريكية في المنطقة قبل احداث الحادي عشر من سبتمبر، تقوم على سياسة فرض العقوبات الذكية على النظام العراقي واحتواءه، دون اسقاطه، إلا أن التغيير الذي حصل بعد تلك الاحداث، لم تفرضه تداعيات سبتمبر، وإنما تلك الاحداث كانت بمثابة لحظة كاشفة للتوجه الأمريكي في المنطقة، والاستراتيجية الأمريكية، التي تبناها المحافظون الجدد، بهدف اعادة تشكيل الشرق الأوسط وتغيره؛ ليتلاءم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين، والهادفة إلى احلال السلام في المنطقة والاعتراف بدولة إسرائيل. وهذا ما دفع الإدارة الأمريكية بان تفكر في الإطاحة بنظام صدام حسين المعادي لها ولإسرائيل؛ من اجل المضي في مشروعها الشرق اوسطي الذي رسمته بعد نهاية الحرب الباردة؛ نتيجة لذلك تم استبدال نظرية الردع المبنية على توازن القوى إلى نظرية الحرب الاستباقية ضد اعداء محتملين.
المرحلة الثالثة: الاطاحة بالنظام السياسي العراقي وتنامي الدور الإيراني في المنطقة
على الرغم من العداء الكبير بين النظام السياسي العراقي السابق وبعض الانظمة العربية، ولاسيما الخليجية منها، إلا أن عملية الاطاحة به، وما ترّتب عليه من تداعيات وتنامي للدور الإيراني في العراق والمنطقة، ولاسيما بعد احداث ثورات الربيع العربي، وما ترتب عليها أيضاً من متغيرات سياسية بشكل عام، لاسيما تلك التي حدثت في سوريا واليمن ولبنان، فضلاً عن تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية واجتياحها للعراق في منتصف حزيران من العام 2014، وما احدثه من متغيرات ونتائج سياسية وأمنية بشكل خاص (محلياً وإقليمياً)، وضعت دول الخليج، ولاسيما المملكة العربية السعودية ومحورها الخليجي في موقف محرج اتجاه قضايا المنطقة، كالقضية الفلسطينية، ومستقبل قضية السلام في المنطقة، وطبيعة منافسة الدور الإيراني. فالنظام السياسي العراقي السابق، كان يمثل محور التوازن في المنطقة، والمنافس الاقوى للدور الإيراني، وربما كان بمثابة المَصّد الرئيس أو الدعامة الاساسية للأمن العربي تجاه التطلعات الإيرانية، وأن عملية الإطاحة به، ليس خطأً أمريكياً أو سوء تقدير في الموقف أو عدم أدراك لصانع القرار الأمريكي كما يُقال، وإنما هي عملية جاءت متوافقة مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، لاستكمال مشروع الشرق الاوسط، الهادف إلى الاعتراف بدولة إسرائيل مستقبلاً، ودورها في المنطقة؛ وذلك من أجل الضغط على دول الخليج أو حصر ها بين مطرقة التمدد والنفوذ الإيرانيين واذرعه في المنطقة وسندان التطبيع مع إسرائيل؛ الأمر الذي دفعها "عن مضض" إلى القبول بسياسة التطبيع، ورهانها بأن التطبيع سيكون من صالح الفلسطينيين ودولة فلسطين، وسيوقف عملية التوسع الإسرائيلي، على الرغم من أن إسرائيل لم توقف قرار ضم الاراضي الفلسطينية، وإنما جمدته بناءً على رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يريد أن يستخدمها كورقة رابحة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة.
بالمجمل، يبدو بأن عملية التطبيع بين دول الخليج وإسرائيل جاءت نتيجة طبيعية لسببين: الأول، تمثل بمخاضات مشروع الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الباردة وحتى الآن، وما سعى ويسعى له العقل السياسي الأمريكي، أما الثاني، فهو ربما يكون نتيجة طبيعية لمخاوف دول الخليج من الهيمنة والنفوذ الإيراني وتمدده في المنطقة، ولاسيما مع كل تلك المتغيرات انفة الذكر، وبالتحديد تلك المتغيرات التي تتعلق بالعراق داخلياً، فضلاً عن علاقة دول الخليج بالحليف الأمريكي.
هل سيكون هناك سلام دائم بعد التطبيع؟
بالتأكيد أن التطبيع الخليجي – الإسرائيلي، بهذا الشكل، الذي تمت فيه الصفقة، لن يساعد على تضمين السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين او في المنطقة بشكل عام، ولاسيما أن دور الإمارات والبحرين وغيرها من دول الخليج، هو دور هامشي وغير موثر في المنطقة أو في مجريات الاحداث في المنطقة العربية والشرق أوسطية بشكل عام، او حتى في الشأن الفلسطيني؛ لهذا فأن أي سلام بين إسرائيل وبعض دول المنطقة، لم يكن كاملاً، مالم يكن مسنوداً بحلاً عادلاً ومستداماً للقضية الفلسطينية، على أساس الإطار القانوني الدولي الذي أقرته الأمم المتحدة، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن في الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية و(مبدأ حل الدولتين) الأساسي. فضلاً عن ذلك، فأن قرار الإمارات والبحرين في التطبيع، كان قراراً مستعجلاً، ولاسيما انه جاء تنفيذاً لرغبة الرئيس الأمريكي الحالي، وتطلعاته الانتخابية، بعيداً عن دور الامم المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول والمنظمات الفاعلة في المجتمع الدولي.
مستقبل الشرق الأوسط بعد التطبيع
يبدو بأن مستقبل المنطقة بعد التطبيع أكثر خطورة مما هي عليه قبل التطبيع، ولاسيما أن موقف دولتي الإمارات والبحرين، يعد بمثابة شق للاتفاقية العربية والموقف العربي والإسلامي بشكل عام، وهذا من شأنه أن يزيد من عملية الصراع وعدم الاستقرار بين دول المنطقة، وسيزيد أيضاً من وتيرة هجمات الفصائل الفلسطينية باتجاه تل ابيت، وربما ستكون تلك الدول في احراج كبير، إذا ما استأنفت إسرائيل عملية ضم الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن ذلك، فأن التطبيع الإماراتي – البحريني مع إسرائيل، قد يثير بعض المشاكل الداخلية في تلك الدول، وقد يزيد من حالة الاستنفار والعداء بين تلك الدول وإيران وحلفائها في المنطقة، وربما كل تلك التحديات ستلقي بضلالها على العلاقات العربية – العربية، والعلاقات العربية – الإسلامية.
العراق بعد التطبيع الخليجي – الإسرائيلي
ربما يكون العراق البلد الاكثر تضرراً في المنطقة لمرحلة ما بعد التطبيع، فهو يمثل محور الصراع الأمريكي – الإيراني، ومحور التجاذبات العربية – الإيرانية، ولاسيما مع ما تمتلكه إيران من أدوات سياسية وعسكرية في العراق، في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي، وتفشي وباء كوفيد 19-، وتصاعد وتيرة حركة الاحتجاجات، وتفشي ظواهر اللادولة بشكل عام، من اغتيالات، وعمليات استهداف مستمرة للمقّار الدبلوماسية والسفارات والمواقع العسكرية، فضلاً عن حالة القلق التي تنتاب المجتمع العراقي جراء ما حدث ويحدث منذ نهاية العام الماضي وحتى الآن؛ مما يكون عاملاً مساعداً لعدم الاستقرار في المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص.
في الأخير، يمكننا القول، بأن وضع الشرق الاوسط بعد التطبيع يختلف عن سابقه، وقد خلق ثلاث قوى رئيسة في المنطقة، او ما يسميه البعض بتوازن القوى، هذه القوى تتوزع بين دول المنطقة وحلفائها من الدول وغير الدول. فهناك التكتل الذي تقوده طهران في المنطقة، الذي يضم النظام السوري، و"حزب الله" في لبنان، والحوثيين في اليمن، فضلاً عن الفصائل المسلحة في العراق. في الجانب الأخر، سيكون هناك تكتل عربي – إسرائيلي، بوجود إسرائيل وثلاث دولة خليجية (السعودية والإمارات والبحرين) ومن خلفهم الولايات المتحدة الأمريكية. بالإضافة إلى التكتل الثالث، الذي يضم تركيا وقطر. وأنّ التقاطع السياسي والايديولوجي بين هذه التكتلات، من شانها أن تعيق أي عملية سلام في المنطقة، وستكون الدول الهشة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، محور وساحة الصراع بين هذه التكتلات الدولية، بما تتمتع به تلك التكتلات من قوة متفاوتة (سياسية، عسكرية، اقتصادية، تكنولوجية، تقليدية، فضلاً عن الوكلاء والجماعات من غير الدول، التي تمتلكها طهران في المنطقة أكثر من غيرها. وهذا من شانه أي يضعنا أمام حالة من عدم الاستقرار والصدام غير المباشر من خلال الحرب بالوكالة، أو غيرها من الهجمات سواء كانت سيبرانية أو عن طريق الطائرات المسيرة، أو من خلال الهجمات الإلكترونية، كما حدث في طهران مؤخراً.