لا يمكن الحديث عن الموقف الشعبي العراقي ازاء التدخل الإيراني في العراق من خلال مرحلة تاريخية معينة أو حصرهُ بحقبة زمنية معينة طيلة السنوات التي تلت الاطاحة بالنظام السياسي العراقي السابق وحتى الآن. إذ تنقسم المواقف الشعبية من التدخل الإيراني إلى حُقب زمنية ومراحل تاريخية متعاقبة، وكل مرحلة تختلف فيها المواقف عن المرحلة التي سبقتها؛ طبقاً للمزاج السياسي والاجتماعي العام، وبما يتناسب مع المعطيات السياسية والديموغرافية والمذهبية. فقد تنوعت مواقف المجتمع العراقي من التدخل الإيراني في مراحله الأولى حسب طبيعة تكوين المجتمع وتوزيعه الجغرافي، إلا أنها اخذت تتغّير تدريجياً باتجاه الرفض وعدم القبول، حتى وصلت لما وصلت عليه اليوم من خلال الاحتجاجات التي انطلقت منذ بداية أكتوبر من العام 2019، أو ما تسمى بانتفاضة تشرين.
وعلى الرغم من أن المواقف الشعبية العراقية اتجاه التدخل الإيراني في مراحلها الأولى، اتسمت بالمواقف الطائفية "نوعاً ما"؛ وفقاً للمصلحة المذهبية والقومية، وبقيت محافظة على مواقفها التاريخية والمذهبية والقومية، إلا انها تبدلت بشكل تدريجي، وفقاً للمصلحة الوطنية والسياسية، بعيداً عن المذهبية، وربما تكون قد تغيرت بشكل جذري، أي بمعنى أنها تحولت من التأييد التام إلى الرفض التام، من الناحية الاجتماعية، وهذا التغيير نصفه بالتحول الجذري أو الراديكالي "كما تسميه النظرية الماركسية"، ولاسيما في المحافظات الوسطى والجنوبية، التي كانت مؤيدة بشكل عام للدور أو النفوذ الإيراني في العراق خلال سنوات التغيير الأولى. هذا التحول جسدهُ "في بداية الأمر"، أنصار التيار الصدري ومن ثم تجّسد في بعض مواقف ونشاط المثقفين والناشطين العراقيين بعد عام 2011، حتى اخذ شكله التصاعدي إلى انتفاضة تشرين 2019، قبل أن يمر بمرحلة الحرب على تنظيم "داعش، والتظاهرات التي تصاعدت حدتها في العامين (2015-2016)، التي تكللت بدخول المنطقة الخضراء في أكثر من مرة.
فقد اختلفت المواقف الشعبية العراقية في مرحلة الحرب على تنظيم "داعش" الإرهابي، عن مرحلة ما بعد "داعش" بشكل كبير للغاية، ولاسيما مرحلة مابعد انتخابات 12آيار/ مايو 2018، ونتائجها، وما ترتب عليها من شلل كبير في الأداء السياسي العراقي على كافة المستويات، واستشراء الفساد في كل مفاصل الدولة، وضعف القانون والاجراءات الحكومية في مكافحته، والاضعاف المتعمد للقانون والمؤسسات الامنية، وتفشي البطالة، فضلاً عن البيئة السياسية بشكل عام، التي لم تختلف عن سابقاتها، وربما أصبحت أكثر تعقيداً منها؛ بسبب المتغيرات التي انتجتها مرحلة داعش، لاسيما فيما يتعلق بتشكيل الحشد الشعبي ودوره ومستقبله (السياسي والأمني)، فضلاً عن الصبغة السياسية والحزبية، التي اُعطيت له، بعيداً عن دوره الحقيقي ومبررات وجوده. حتى وصل الأمر إلى احتجاجات تشرين، وما رافقتها من عمليات حرق لمقرات بعض الاحزاب والقنصليات، والهتافات، التي تندد بالدور الإيراني في العراق؛ الأمر الذي ازعج طهران، وحلفائها في العراق كثيرا على المستويين (الرسمي وغير الرسمي).
هذا التبّدل والاختلاف في المواقف الشعبية، من غير الممكن أن نعده نتاج لمرحلة سياسية معينة، بل هو عبارة عن مجموعة تراكمات امتدت من عام 2004 حتى وقتنا الحاضر، وهي مواقف تُؤشر على طبيعة الخلل في الدور والنفود والنموذج، أو في السياسة التي اتبعتها طهران اتجاه بغداد، وهو أمر، مدعاة للنظر والتحليل والتأمل، بشكل موضوعي، بعيداً عن المذهبية والحزبية والمواقف السياسية. فلا يمكننا وصف تلك المواقف والتحولات الشعبية العراقية اتجاه التدخل الإيراني، بالمواقف الثابتة أو الطائفية، بقدر ما نصفها بالوطنية؛ لأنها لم تعد تعّبر عن رأي مذهبي مخالف للتوجهات الأيديولوجية والمذهبية الإيرانية فقط، وإنما اصبحت تخالفها الرأي وفقاً للمصالح الوطنية، والرؤية السياسية. ويمكن أن نقول بأنها تراوحت بين المواقف ذات الصبغة السياسية والايديولوجية "البراغماتية" سياسياً، والمواقف ذات التوجهات المذهبية "طائفياً، والمواقف ذات التوجهات الولائية "المتطرفة" عقائدياً، فضلاً عن المواقف الشعبية، التي من الممكن أن تتراوح بين المواقف الثابتة والمتغيرة، وهي مواقف وطنية في طابعها العام. إلا أنّ لجوء المحتجين إلى اعمال الشغب والحرق والعنف الاحتجاجي ضد النفوذ الإيراني بالشكل الذي شاهدناه في احتجاجات تشرين وما سبقها من احتجاجات، يعود إلى استفحال الدور الإيراني، بالشكل الذي أجهض القرار الوطني، وعدم معالجة ذلك النفوذ بالشكل الذي يتوافق والعلاقة بين البلدين، وموقف العراق الإقليمي والدولي، فضلاً عما تسببه تلك العلاقة من مشاكل جمة للعراق على المستويين (الداخلي والخارجي).
نعتقد بأنّ السياسة الإيرانية والنفوذ الإيراني في العراق تعرض للانكشاف السياسي والايديولوجي والشعبي خلال الـ17 سنة الماضية، وبالتحديد بعد عام 2014، وأن المبررات التي استندت عليها السياسية الإيرانية، أصبحت مكشوفة لدى الشعب العراقي. وهذا مؤشر كبير على تآكل النفوذ الإيراني في العراق بشكله غير الرسمي، ولاسيما أذا ما استمرت طهران "بنفس الاسس" التي تعاملت فيها مع بغداد بعد عام 2003.
على الإدارة الإيرانية وحلفائها في العراق، أن يدركوا، بأن هناك جيل جديد من الشباب العراقي نشأ وترعرع في العراق غير الجيل الأول والثاني اللذين تعاملت معهم طهران ما قبل وبعد عام 2003. هذا الجيل ولد من رحم المعاناة العراقية، وعلى ما يبدو بأنه لا يعترف أو خرج عن القوالب والمحددات الجاهزة سواء الدينية منها أو السياسية، ويحاول أن يصنع مستقبله بنفسه بعيداً عن سياسات التعبئة والهيمنة والمفاهيم الايديولوجية. وإنّ إيران إذا ما استمرت في سياساتها المزعزعة لاستقرار العراق، واعتمدت على سردية المؤامرة في التعامل مع هذه الاحتجاجات أو غيرها، وتبّنت موقفاً معارضاً لها على أساس انها مخطط يستهدف العراق وإيران معاً، فإنها ربما ستكون بداية لإنهاء ذلك النفوذ بشكله المعتاد، أو ربما يدخل العراق، ولاسيما في الوسط والجنوب، في مرحلة خطيرة جداً. وهذا قد يترتب عليها تداعيات أخرى (سياسية وجيوسياسية وتغيرات في الخارطة السياسية "المحلية والدولية")، من شأنها أن تُحرم إيران من متنفسها الاقتصادي، وعلاقاتها السياسية الجيدة مع العراق.