تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم المخيبة للآمال فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي لأنظمة الحكم فيها، لدرجة انها تبدو تسير الى الخلف ديمقراطيا بالنسبة لكثير من المحللين والمراقبين؛ لأنها تعيش حالة انتكاس مستمر في وضع حقوق وحريات شعوبها، ناهيك عن افتقارها الواسع لتوزيع عادل للسلطة والثروة بين طبقاتها الحاكمة والمحكومة، فضلا على فردية الكثير من قرارات حكامها، وارتباك سياساتهم المحلية والدولية.
ويبدو ان حظوظ الديمقراطية المتعثرة شرق أوسطيا لا ترتبط بالدرجة الاولى بالبنية الثقافية والاجتماعية لشعوبها الإسلامية؛ فمعظم دول المنطقة أخذت من ناحية التطبيق بالمظاهر الشكلية للديمقراطية (انتخابات، مجالس منتخبة، أحزاب وقوى سياسية، ونصوص دستورية داعمة في بعض الأحيان) مما يعني انها اجتماعيا وثقافيا قابلة لاستيعاب الديمقراطية والعمل وفقا لآلياتها المعتادة، وهذا الامر نتفق فيه تماما مع ما توصل اليه الكاتب الأمريكي لاري دايموند في كتابه (روح الديمقراطية)، ولكنها كانت بعيدة كل البعد عن جوهر الديمقراطية كوسيلة مهمة من وسائل العمل على إحداث تغيير سياسي ملموس، وتداول سلمي حقيقي للسلطة بين قوى وشخصيات مختلفة التوجهات وجداول الاعمال، ينتج عنه سلطة شرعية قادرة في النهاية على تبني سياسات تستجيب الى طموحات وحاجات المواطنين، وتتخذ قرارات تعبر عن أرادتهم ومصالحهم...
امام هذا العجز الجوهري للديمقراطية أصبح كل حراك سياسي شعبي مهما اشتدت حدته (ما سمي بالربيع العربي وما شابه) مجرد حراك جامد يتم في البنية الفوقية للمجتمع (السلطة والطبقات المتنفذة) مستغلا –أحيانا-ضعف الوعي والحماسة والنقمة في بنيته التحتية (جمهور المواطنين العام) دون أن يؤول الى احداث تحول فعلي وتاريخي في مراكز القوى الرئيسة او في عقلية وطريقة الحكم.
نعم حدثت تغييرات كثيرة في الشرق الاوسط خلال المائة عام الماضية، لكنها تغييرات فشلت في معالجة مشكلة لا ديمقراطية السلطة، وضعف المشاركة فيها، كما فشلت في تلافي سهام النقد الموجه الى سلوك القابضين عليها. لقد ذهب الحكم الاستعماري وجاء الحكم المستقل، وذهب الحكم القومي وجاء الحكم الوطني، كما ذهب في بعض البلدان الحكم العلماني وجاء الحكم الإسلامي أو شبه الإسلامي، وهكذا دواليك، لكنك تجد أن النتيجة واحدة احباط مستمر ومتصاعد لدى المواطنين، وخلل دائم وكارثي في العقليات الحاكمة ومستوى حقوق وحريات الافراد.
لقد أدركت هذا الواقع المؤلم في منظومة الحكم جميع شعوب المنطقة، وبقيت نظرتهم للأيدولوجيات الحاكمة كنظرة ذلك المصري البسيط الذي كان يعمل صباغا للأحذية، عندما سأله أحد المفكرين في سبعينات القرن الماضي عن رأيه بالاشتراكية، فقال بلهجته المصرية البسيطة:" يا عم الاشتراكية للناس اللي فوق". فعلا كلام مختصر وبسيط، لكنه عميق الدلالة؛ فمعظم الأيدولوجيات الشرق أوسطية لم تلامس حاجات الشعوب، وبقيت مجرد غطاء لمنح الشرعية للقابضين على السلطة، يفسرونها على هواهم، وحسب ما تمليه مصالحهم لا مصالح شعوبهم.
على أي حال، وبدون التوسع الممل، من حقنا التساؤل عن طبيعة العقبة الكأداء التي اصطدمت بها الديمقراطية عندما حاولت اختراق منظومات الحكم الشرق أوسطية التقليدية؟ وطبيعة المقاومة العنيدة لمنع تغلغلها وترسيخ وجودها في التفكير والممارسة السياسية؟
يمكن الإجابة على ذلك، وباختصار بالقول: أن الديمقراطية في هذه المنطقة من العالم تعرضت الى هجوم مزدوج من منظومتين حاكمتين تبدوان للوهلة الأولى مختلفتان تماما في المباني الفكرية والاهداف والغايات الا انهما متفقتان في العداء للديمقراطية، والعمل على نزع مشروعيتها الحقيقية، وسلبها شرعيتها في النفوس والعقول، بل واتخذت كل واحدة منهما الأخرى حجة في إعاقة وعرقلة المشروع الديمقراطي، تلك المنظومتان هما: الاوتوقراطية (الحكم الفردي) والثيوقراطية (الحكم الديني).
وعندما نتكلم عن هاتين المنظومتين، علينا الإشارة الى أمر في غاية الأهمية وهو اننا لا يمكننا حصرهما في إطار فكري واحد، بمعنى ايديلوجية محددة: قومية، وطنية، علمانية، دينية...بل قد تمثل كل واحدة منهما طيفا وسعا من المباني الفكري يحتويه الإطار الاوتوقراطي او الثيوقراطي، لذا لا غرابة ان يكون الحاكم في المنظومة الاوتوقراطية فردا او حزبا قوميا او وطنيا او امميا، علمانيا او دينيا، وان تضم المنظومة الثيوقراطية أحزابا تنتمي الى مذاهب دينية شتى. وهذا الكلام ينطبق على الجميع-طبعا بدرجات مختلفة-سواء كان الحكم جمهوريا ام ملكيا، سلطنة ام امارة.
لقد عملت هاتان المنظومتان (الاوتوقراطية والثيوقراطية) بمثابرة لا هوادة فيها على زعزعة أي بارقة أمل لظهور او نجاح أي مشروع ديمقراطي، بحجج ومزاعم شتى مثل: ان الشعوب غير مهيئة لتبني الديمقراطية، او انها مؤامرة خارجية ودعاتها مجرد خونة متآمرين لتخريب الأمن الوطني، او بحجة وجود طريق خاص في العمل الديمقراطي (المركزية الديمقراطية، ديمقراطية الإنجاز، وما شابه)، او اتهام الديمقراطية بالفشل وعدم القدرة على تحقيق اهداف المجتمع، أو نسف مشروعيتها بالكامل بعدها نظام غربي لا يقره الشرع الاسلامي والقائل به مبتدع وخارج على احكام هذا الشرع واصوله الصحيحة..
وفي الوقت الذي كانت فيه بلدان الشرق الأوسط تتعرض الى ضغط شديد فيما يتعلق بوضع الديمقراطية فيها خلال العقدين اللذين أعقبا انهيار الاتحاد السوفيتي السابق (1990-2010) من قبل الغرب بقيادة واشنطن مدفوعا بنشوة الانتصار على المعسكر الشرقي، وجدنا ان الأنظمة الاوتوقراطية الحاكمة، عملت بمهارة على اثارت مخاوف الغرب من دعم الديمقراطية في هذه بلدانها؛ بذريعة انها ستقود الى وصول قوى دينية ثيوقراطية متطرفة الى منصة الحكم، مما سيترتب عليه عدم استقرار سياسي وأمني يهدد مصالح الغرب، كما هو الحال في مصر في عهد حسني مبارك، والجزائر بعد عام 1992، وغيرها. اما القوى ذات المشروع الثيوقراطي فغالبا ما ارادت اتخاذ الدعوة الى الديمقراطية جملا يوصلها الى السلطة فقط، بعدها تجهز عليها، لإقامة مشروعها الخاص في الحكم، والذي لا يقبل بوجود أي رؤية او توجه سياسي معارض لها او مختلف فكريا وعمليا، وهذا يشمل معظم حركات الإسلام السياسي في مصر ولبنان والعراق وايران والمغرب العربي وغيرها من البلدان، التي اما وضعت تصوراتها في الحكم موضع التطبيق- بشكل أو آخر- بعد استمكانها من السلطة(حالتي ايران وتركيا) أو انها تستغل الأجواء الديمقراطية في بلدانها بهدف الوصول الى هذا الاستمكان لتنفيذ اجنداتها المعادية للديمقراطية بعد ذلك.
ان هدف الأنظمة الأوتوقراطية كان البقاء في السلطة الى ما لا نهاية من خلال اعلان العداء للديمقراطية واثارة المخاوف منها، أما هدف الحركات الثيوقراطية فهو استغلالها للوصول الى السلطة او البقاء فيها ونسف مشروعيتها والقضاء على جوهرها فيما بعد، فتغدو لا قيمة لها. الطرفان كلاهما افتقر الى الأساس الأخلاقي في التعامل مع قضية الديمقراطية، بل حتى تلك اللحظات التي اظهرت فيها بعض الحكومات مرونة في الحكم وانفتاح على الرأي الآخر والمشاركة السياسية في الشأن العام، كما هو الحال في المغرب والأردن والكويت... فإنها كانت محكومة بمصالح النظام لا مصالح الشعب، وكانت تعطيها على شكل جرعات محسوبة بدقة من اجل تخفيف بعض التوترات الداخلية او تجاوز بعض الضغوطات الخارجية، دون ان تكون لديها النية الحقيقية لإعطاء السلطة للشعب بعده مصدرها والمالك الحقيقي لها.
ومما يؤسف له هو ان المائة عام الأخيرة من عمر الشرق الأوسط تحكي قصة فشل كبيرة لجميع بلدان المنطقة في التطور الديمقراطي، محكومة بأسوء اشكال الحكم، من حيث تقييد الحريات، والاستئثار بالسلطة، واحتكار الثروة والنفوذ، فيما بقيت شعوبها مجرد رعايا لنظام الحكم لا مواطنين تربطهم رابطة المواطنة الواحدة المتساوية
لقد انتصرت حقا عقليتا الحكم الأوتوقراطي والثيوقراطي خلال القرن المنصرم في فرض نفسيهما على الساحة، واستطاعتا التكيف مع المتغيرات العديدة: الداخلية والخارجية، التي شهدها الشرق الاوسط، كما امتلكتا قدرة عالية على المناورة والخداع وتضليل الرأي العام للاستمرار بالسلطة، ونزع المبادرة من الشعوب. ولكن، في الوقت الذي نقر فيه بصعوبة الوصول الى الديمقراطية في معظم بلدان المنطقة خلال مدة قصيرة قادمة، الا اننا على قناعة تامة ان مجالات التكيف والمناورة وتبرير الاحتكار الحكومي ستضيق مدياتها للغاية امام الحكام خلال القرن القادم؛ فاذا كان القرن الماضي هو قرن الحكومات في دول ما بعد الاستقلال من الاستعمار، فان القرن الجديد سيكون هو قرن الانسان المتمرد على فشل الحكومات الاوتوقراطية والثيوقراطية. هو قرن بدت ملامح التمرد فيه من خلال الانتفاضات الشعبية التي اندلعت في بلدان عديدة من الشرق الأوسط منذ عام 2011، ولا زالت مستمرة في بعض البلدان، مدفوعة بعجز السلطات عن الاستجابة لجميع حاجات الناس، وتعثر برامج التنمية الشاملة، معززة بتنامي المدن، والتطور التكنلوجي، وافلاس الشعارات الوحدوية (قومية ودينية) والتحررية (تحرير فلسطين وما شابه)، واكتساب مشروع الدولة الحديثة (دولة القانون والمؤسسات) المزيد من المدركين لأهميته والمناصرين لانبثاقه وترسيخ وجوده، فضلا على ظهور أجيال شابة متعلمة أكثر وعيا من اسلافها، وأوسع احاطة بنظم الحكم والإدارة في العالم، صبرها قليل على تحمل ظروف الحرمان والعبودية، كما لديها الاستعداد للمجازفة وتخطي الخطوط الحمر والصفر وغيرها من الخطوط التي اوجدتها العادات والتقاليد القديمة البائسة.
نعم ممكن في هذه المرحلة أن يزعزع التمرد استقرار جميع البلدان، وستعجز حكوماتها – بشكل ام آخر-عن الاستجابة لجميع أو معظم المطالب الشعبية، وكلما كانت هذه الحكومات أكثر صلابة في مقاومة التغيير سيكون التغيير فيها أكثر ايلاما وقسوة، وقد تستقطب الساحة السياسية المزيد من قوى التطرف الجديدة والناقمة على السلطة او تلك التي تريد إعادة تشكيلها. وفي ظل هذه الأوضاع قد تكون الإجابة عن اين ستكون الديمقراطية إجابة غير يقينية، لا تدعمها ادلة امبريقية كافية، فالقرن القادم قد يكون قرنا للديمقراطية الشرق أوسطية، او ربما لا تجد الديمقراطية فيه انصارا مقنعين يروجون لها بشكل صحيح، الا انه قطعا سيكون قرن المفاجئات والتغيير السياسي الشامل في منطقة تغلي كأنها مرجل لا تُعرف ساعة انفجاره.