بالرغم من عدم امكانية الحكم بنجاح او فشل نهج الحكومة المؤقتة، الا انه يمكن القول ان ملامح تنفيذ البرنامج الحكومي للحكومة العراقية المؤقتة برئاسة السيد مصطفى الكاظمي في ملف العلاقات الخارجية بدأت تظهر. فالحكومة المؤقتة ألزمت نفسها بعلاقات دولية واقليمية تراعي المصالح العراقية بشكل اساس ولا يكون العراق ضمن محاور الصراع والتنافس الاقليمي والدولي، وان يعمل باتجاه علاقات متوازنة من دون ان يكون خاضع لهذا الطرف او ذاك. وبسبب اهمية المحيط الاقليمي العربي والاوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها العراق، ولأن هذه البلدان هي شريكة له في منظمة اوبك، جاءت اولى الخطوات بتنظيم جولة خليجية لوزير المالية ونائب رئيس الوزراء ووزير النفط وكالةً السيد علي عبد الامير علاوي بدأت يوم 22 ايار الجاري شملت المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة ودولة الكويت لبث الحياة بالعلاقات السياسية والاقتصادية ووضع طريق للسياسية الخارجية العراقية يضمن بقاء العراق قريبا من محيطه الاقليمي العربي وجيرانه، فضلا عن تأسيس علاقات اقتصادية ايجابية بالنسبة للعراق.
تبقى العلاقات الاقتصادية هي المدخل الذي يؤسس لعلاقات عراقية شاملة مع المحيط الاقليمي ولاسيما العلاقات مع دول الخليج العربي ويضمن توثيق الروابط الرسمية وعلى مستوى الشعوب. ونرى ان مضامين تلك العلاقات الاقتصادية تتضمن ثلاثة محاور اساسية هي:
- التعاون في مجال الطاقة والتواصل حول اسعار النفط العالمية لاستقرار السوق البترولية كدول منتجة كبيرة في منظمة البلدان المصدرة للنفط (اوبك).
- تشجيع الاستثمار الخليجية في العراق في القطاع النفطي وباقي القطاعات لأهميتها في توفير فرص العمل وتطوير البنية التحتية وتطوير دور القطاع الخاص العراقي وزيادة مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي.
- تنشيط العلاقات التجارية، ولابد من عدم تكرار تجربة العلاقات التجارية مع ايران التي كانت قائمة على اساس الاغراق السلعي للسوق العراقية وتدمير النشاط الانتاجي. وهذا مارسته بعض الدول العربية ايضا ومنها السعودية والكويت.
هذا التوجه للحكومة الحالية هو ليس الاول، اذ نجحت حكومة السيد حيدر العبادي قبيل هزيمة داعش في الاشهر الاخيرة من عام 2017 الى فتح افاق العلاقات مع المملكة العربية السعودية والمحيط العربي وتم تحقيق نتائج مهمة منها تعزيز العلاقات الدبلوماسية وعودة السفراء في البلدين، وفتح خطوط الطيران وافتتاح القسم القنصلي التابع للسفارة في بغداد، والموافقة على افتتاح ملحقية تجارية في بغداد نمو التبادل التجاري خلال السنوات الماضية، اضافة الى تأسيس مجلس التنسيق العراقي السعودي، وتأسيس مجلس التنسيق العراقي السعودي، ولكنها واجهت سيلا من الاعتراضات من تيارات وقوى سياسية داخل مجلس النواب وحتى في الحكومة وجماعات لم ترحب بتلك العلاقات انسجاما مع منهجها القاضي بالانصياع التام لمصالحها الحزبية. والنتيجة انه لم نرى اي مصداق لتأسيس علاقات جديدة. كذلك عملت الحكومة السابقة برئاسة عادل عبد المهدي على نفس السياق الا انها فشلت نتيجة رضوخها لإرادات قوى غير وطنية موالية لايران.
هذه الاشكالية واشكاليات اخرى محلية تعيق متابعة مسيرة تطوير هذه العلاقات. ولكن في المقابل هناك سبل لتذليل هذه الاشكاليات ومحوها بالكامل اذا ما توافرت ارادة سياسية لدى الحكومة ومجلس النواب لإيجاد علاقات متوازنة تضمن مصالح العراق. وعلى الرغم من ايماننا بان الارادة اسيرة قوى غير وطنية، الا اننا نضعها في المحور الثاني لهذه المقالة لعله تصل الى مسمع صانع القرار في العراق.
الاشكاليات التي تعيق متابعة مسيرة تطوير العلاقات مع دول الخليج العربي، وما السبيل لمواجهتها؟
من التجربة السابقة لحكومة السيد حيدر العبادي، يمكن القول ان هناك مجموعة اشكاليات سياسية وادارية وفنية تعيق بث الحياة في العلاقات العراقية-الخليجية، منها:
- يبقى الاشكال الرئيس والذي يعرقل اي جهود لبناء الدولة سواء في الجوانب الاقتصادية او العلاقات الخارجية، هو عدم القدرة على فرس سلطة الدولة على كامل اقليمها، ومن دون تجاوز هذا الاشكال لن يتم تنفيذ اي سياسات اقتصادية وسيبقى الفساد محميا بسيطرة جماعات مسلحة على المنافذ الحدودية والتي تمنع بعض الانشطة الاستثمارية.
- "القوى السياسية" ولاسيما "الشيعية" ومنذ عام 2003 – فضلا عن قوى "سنية" بعد انتخابات 2018 -اسست مباشرة لتواصل كبير مع إيران واختصرت الدولة العراقية في نطاق ضيق هو ترابطاتها الدينية والمذهبية، واسفرت تلك العلاقات عن مكاسب سياسية ومالية كبيرة لمصلحة تلك "الاحزاب" وترسخت مع مرور الزمن لتكون مكاسب ذات طبيعة مستدامة واعتمدت على الجانب الايراني في حماية تلك المكاسب مقابل تنفيذ الاستراتيجية الايرانية في العراق. وفي المرحلة الحالية، وعلى الرغم من إدراك تلك "القوى" لتضائل قدرة إيران التي كانت تؤهلها للعب دور في العراق، وان البلاد تمر بأوضاع اقتصادية خطيرة، الا انها لازالت ترفض وجود علاقات مع المحيط العربي ولاسيما مع المملكة العربية السعودية انسجاما مع رؤية إيران في المنطقة. وسوف توظف ماكينتها الاعلامية وكتلها في مجلس النواب للتشكيك حول اي خطوة باتجاه تطوير تلك العلاقات. وهنا لابد من إطار تنفيذي واضح ومدروس ذو اهداف مرحلي. كما لابد من تظافر جهد اعلامي حكومي ساند لهذه الرؤية في العلاقات وبشكل يجهض الاعلام اللا دولتي-ان صح التعبير -التابع لجماعات موالية لايران. في وقت لازالت طهران تعرض استعدادها للحوار مع السعودية.
وبالرغم من اعلان السيد علاوي قرار الالتزام بعدم تمديد الاعفاء الممنوح على استيراد الغاز والكهرباء من إيران تنفيذاً لقرارات وزارة الخزانة الأمريكية قررنا الالتزام، يوصل رسالة ايجابية الى دول الخليج العربي، فضلا عن الولايات المتحدة، الا ان ذلك يبقى مرتبط بالإرادة الوطنية وامكانية تحريرها من سطوة القوى غير الوطنية، وحصر ملف السياسة الخارجية وباقي السياسات العامة بالحكومة فقط وفق للدستور.
- بالنظر لما حصل مع توجهات الحكومتين السابقتين في هذا الملف، ولطبيعة التقلبات في القرار السياسي الخارجي نتيجة تأثير قوى عدة من غير الحكومة، فمن المؤكد ان الدول الخليجية ستعمل على ايجاد إطار ضامن لتطوير هذه العلاقات، لا ان يكون مرتبط بالحكومة الحالية فيما تتخلف عنه الحكومات القادمة. ولهذا سيكون من المناسب بالنسبة لدول الخليج – والتي تدرس حاليا هذا الملف -هو عقد اتفاقيات دولية ثنائية والتي ستحتاج الى مصادقة مجلس النواب العراقي. وبالنظر لما يشهده مجلس النواب من انقسام كبير حتى داخل احزاب المكون الواحد، ستظهر لنا اشكالية عدم مواكبة مجلس النواب لرؤية الحكومة في تطوير تلك العلاقات. وهنا، ولإرسال رسالة ايجابية، بالإمكان اقرار مشروع قانون لتشجيع وحماية الاستثمار بين الحكومتين العراقية والسعودية والذي اعدته الحكومة السابقة في آيار/2019.
عليه فأن ما أعلن عنه من اتفاقيات للربط الكهربائي، ودخول شركات سعودية لتطوير حقل عكاز غرب محافظة الانبار بعد إلغاء عقد شركة كوكاز الكورية، تبقى حبيسة مديات الثقة بالتوجهات الجديدة للحكومة العراقية تجاه محيطها الخليجي العربي.
- عدم استكمال التشكيلة الحكومية سيكون معرقل اخر الا انه اقل ثقلا على تطوير تلك العلاقات.
- اكد السيد عبد الامير علاوي بعد الزيارة من هناك عقبات اخرى تتمثل بـ:
• هناك معوقات عديدة منعت الاستثمارات في العراق منها القوانين والتعليمات السارية وفقدان الهيكلية الحاضنة للاستثمارات الأجنبية وعدم وجود مصارف بمستوى عالمي، وكذلك النظام المحاسبي والقانوني غير المشجع، فضلا عن نظام استملاك الأراضي غير المشجع أيضا، جميع تلك المعوقات تمنع المستثمر السعودي وأي مستثمر أخر من الاستثمار في مجالات أخرى خارج الحقول النفطية. لذا لابد من العمل على توفير اطار تشريعي ومالي مناسب لخلق بيئة مشجعة للاستثمار. وهذا الامر بحاجة الى جهود الحكومة ومجلس النواب وهو الحل الامثل لجذب الاستثمارات الاجنبية.
• كما بيّن علاوي أن "الجهاز الإداري الآن بالعراق غير متجانس مع متطلبات المستثمر الأجنبي، وفيه أيضا خروقات كبيرة من فساد وتدخل في طريقة اتخاذ القرارات من أطراف ليس لها علاقة بالعمل الاستثماري، تتدخل من أجل المنفعة الخاصة والحزبية والتي تعد أحد المعوقات الأساسية التي تبعد المستثمر الأجنبي"، مشيرا إلى أن "المستثمر عندما يشاهد هذه البيئة سيتحفظ، ومهما كانت السوق العراقية كبيرة فإنها تتطلب تشجيعا من القطاع الخاص الذي يعاني هو الآخر من تلك المعوقات. وبهذا الإطار يكون من المفيد اقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص في العراقPrivate and Public) PPP Partnership) بعد تدقيقه من قبل مجلس الدولة ام 2017 والموجود حاليا لدى الدائرة القانونية في الامانة العامة لمجلس الوزراء.
- الامر الاخر ولحصر الايرادات غير النفطية، هناك حاجة – كما ذكرنا في اعلاه – لفرض سلطة الدولة على كامل اقليميها، وردع الجماعات المسلحة التي تسيطر على الكثير من تلك الايرادات وتتحكم بملف الاستثمارات المحلية والاجنبية ومنها ايرادات المنافذ الحدودية والموانئ والتي تقدر بأضعاف ما عمل السيد علاوي على التباحث بشأنه خلال جولته الاخيرة في الدول الخليجية الثلاث.
- الفساد: لازال الفساد والفاسدين يعملون على تعزيز مأسسة منظومة الفساد التي تتشكل من طرفين رئيسيين: قيادات داخل الوزارات، ومكاتب اقتصادية داخل الاحزاب. وهذا الفساد هو من يعرقل تحصيل الدولة لبعض الايرادات الضريبية واستملاك الاراضي للمستثمرين من قبل الوزارات.
تجاوز كل هذه الاشكاليات والعقبات، فضلا عن وضوح في الرؤية للعلاقات الاقتصادية العراقية – الخليجية، يمكّن من تجاوز اخفاقات الحكومتين السابقتين، ويؤسس لمرحلة جديدة يمكن من خلالها جذب الاستثمارات الخليجية الى العراق والمساعدة على اعادة اعمار البلاد والبنى التحتية، واستيعاب مئات الالاف من الشباب المنضمين الى سوق العمل سنويا.