لازالت الدولة العراقية في هذه المرحلة تقف عند محطة خطيرة من مسيرة الانتقال الى النظام السياسي الديمقراطي والتي شابها منذ البداية تشوهات مدمرة ابتدأتها القوى والتيارات السياسية التي دخلت العراق بعد الغزو الاميركي في آذار - نيسان2003، عبر دستور ذو اشكاليات عميقة، وقوانين انتخابات تشريعية ومحلية – على مدى الدورات الانتخابية السابقة - لم تعبر عن ارادة الجماهير بشكل حقيقي وموضوعي تكون له انعكاسات ايجابية على مستوى السلوك السياسي لـ القوى السياسية ، وعلى مستوى التنشئة السياسية للأفراد، وثقة الافراد بالنظام السياسي وشعورهم بانه نظام يعبر عن طموحاتهم، فضلا عن عدم توفر ادارة انتخابية بعيدة مستقلة حيادية بعيدة عن التأثير الحزبي، وهي اسيرة لتوافقات حزبية.
كل هذا في الواقع ناتج عن تشوه البنية الفكرية والايديولوجية للتيارات السياسية القوية والمتحكمة والتي اغلبها قوى الاسلام السياسي تجاه الدولة ونظرية الحكم وادارته، والتي لنم تنجح الى الآن من فك اسرها من سيطرة الرؤية الاسلامية لبناء الدولة، وهي رؤية قائمة على مقومات عدة ليس منها عامل المواطنة. وهذا العامل هو الاساس لبناء الدولة في مجتمع تعددي، فضلا عن فقدانها ادراك اهمية المرحلة التي تمر بها الدولة العراقية وهي مرحلة الانتقال الى النظام السياسي الديمقراطي.
كل ذلك انعكس سلبيا على الحياة العامة للأفراد في كل اقليم الدولة وتجسد في شيوع الفساد، وعدم الاستقرار السياسي، والامن الهش، واوضاع اقتصادية متردية، وضعف في تقديم الخدمات، ومؤسسات في اغلبها اسيرة ارادات خارجية. الامر الذي دفع الافراد والجماهير الى الخروج ضد النظام السياسي المتداعي والسلوك السياسي البغيض للقوى السياسية ومطالبين بدولة مؤسسات تستوعب حاجاتهم، وضامنة لمستقبلهم ومستقبل اجيالهم، وحافظة لكرامتهم. وأعلنوا عن تفاصيل مطالبهم بشكل علني.
السلوك الاحتجاجي الذي ساد في ساحات الاحتجاج في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب أبرز مؤشرات ايجابية منها التزام المحتجين بالتغيير السلمي وفق السياقات الدستورية رغم اعتراض الجماهير على كثير من مضامين الدستور ومطالبتهم بتعديلها. كما ان الاليات المطالب بها للتصحيح هي آليات قانونية سلمية تعتمد التدريجية في اصلاح النظام السياسي عبر آلياته الذاتية من دون الضغط باستخدام اعنف على النظام وسلطاته واصرارهم على السلمية والمحافظة على الممتلكات العامة والخاصة على الرغم من التعامل العنيف مع المحتجين ومحاولات حرف الاحتجاجات عن مسارها وافراغها من مضمونها.
ومع دخول الاحتجاجات شهرها الخامس والاصرار على تحقيق المطالب، نلحظ ان هناك استجابة في اقرار مشروع قانون انتخابات جديد في مجلس النواب ذو مضامين ايجابية، ومفوضية انتخابات جديدة. ولكن لازال مشروع القانون لم يستكمل مراحلة التشريعية وسط صمت مريب من قبل رئاستي مجلس النواب والجمهورية. فضلا عن عدم اكتمال مستلزماته الفنية فيما يرتبط بالدوائر الانتخابية والبطاقة الانتخابية.
وطبقا لما سبق، ولأهمية استكمال اجراء الانتخابات كآلية للإصلاح السياسي وبالتالي تقويم مسار عملية الانتقال الى نظام حكم الديمقراطي، على رئاستي مجلس النواب والجمهورية والحكومة المستقيلة اتمام عملية تشريع قانون الانتخابات. كذلك امام الحكومة المؤقتة استحقاق مهم الا وهو التهيئة لإجراء الانتخابات المبكرة. ان تحقق هذا الهدف مع الحرص الشديد من قبل الحكومة ومجلس النواب ومفوضية الانتخابات الجديدة على اجرائها بعيدا عن تأثير المال السياسي والسلاح والسلطة سيجعل منها حكومة محققة لاهدافها ومدركة لاستحقاقات المرحلة الحالية.
الحكومة المؤقتة ان تم منحها الثقة من قبل مجلس النواب، ليست حكومة برنامج اقتصادي او خدمي، وهي حكومة تنظيم انتخابات ان صح التعبير. ولكن مع ذلك تنظيم الانتخابات بحاجة الى عوامل مساندة كالأمن، والتمويل. لذا لابد ان تضع الحكومة في برنامجها موعدا ثابتا لإجراء انتخابات، فضلا عن وضعها برنامج لتمويل العملية الانتخابية، الامر الذي يتطلب التنسيق والتشاور مع مفوضية الانتخابات المشكلة حديثا والمؤسسات القطاعية ذات العلاقة.
كما ينبغي على مجلس النواب ان يدرك انه لا مناص من الاستجابة للمطالب الشعبية والشروع بإصلاح نظام الحكم وبالتالي الاصلاح السياسي، وان يكون سند للحكومة المؤقتة في توفير مقومات اجراء انتخابات تشريعية في غضون مدة محددة من قبل الحكومة المؤقتة ومفوضية الانتخابات. وبالإمكان تحديد موعد الانتخابات حتى بعد منح الثقة على ان تتعهد الحكومة بذلك.
اما التزام الصمت من قبل رئاستي مجلس النواب والجمهورية ورئاسة الحكمة المستقيلة فأنه يثير كثير من التكهنات والشكوك بأن السلطتين التشريعية والتنفيذية لا تريد اجراء انتخابات مبكرة وان التصويت على مفوضية انتخابات جديدة وقانون انتخابات جديد من قبل مجلس النواب هي محاولة لإرضاء ساحات الاحتجاج وانهاء زخمها، فضلا عن استخدام التصويت على القانونين كمبرر لقمع الاحتجاجات.