لازالت انعكاسات التعامل مع الاحتجاجات الشعبية التي عمت مدن وسط وجنوب العراق تلقي بظلالها على المشهد العراقي بصورة سلبية. اذ اثبت هذا التعامل ولازال من قبل سلطات الدولة واحزاب السلطة مع الاحتجاجات بصوره المختلفة -استخدام العنف في احيان عدة وتوجيه الاتهام والاساءة، ان تلك السلطات والاحزاب الحاكمة والمؤثرة في المشهدين السياسي والامني انها خاضعة لمؤثرات خارجية تجبرها على ترسيخ وجودها وتعزيز قوتها خدمةً لتلك المؤثرات، على الرغم من اقرارها قانوني الانتخابات ومفوضية الانتخابات.
آخر ما توصلت له احزاب السلطة – والخطير جدا -انها بدأت بالعمل على خلق حركة احتجاجية مراد لها ان تكون موازية في زخمها وتأثيرها لحركة الاحتجاجات الشعبية المستمرة والتي دخلت شهرها الثالث، ليكون الهدف هو بعثرة الاحتجاجات الشعبية وافراغها من محتوياتها، وانكار تأثيرها الذي اجبرهم على اجراءات اصلاحية جزئية رغما عنهم، وجر المحتجين الى العنف، ولكي لا تستمر تلك الاحتجاجات بتأثيرها وزخمها الذي ربما يرغمهم على اجراءات أكثر قوة وتزعزع وجودهم واهمها اختيار رئيس وزراء مستقل ووطني للمرحلة المؤقتة. وما حدث من "احتجاجات" فئوية وسياسية داخل المنطقة الخضراء هو تجسيد لما ذُكر.
هذا الشكل من التعاطي مع الاحتجاجات، وازدواجية تعامل السلطات مع الاحتجاجات خارج المنطقة الخضراء وداخلها سيقود الى بلورة استفهامات عدة قد تأخذ مدياتها في الرأي العام والذي يؤيد في غالبيته الاحتجاجات الشعبية ويندد بأعمال العنف التي طالتها وما نجم عنه من ضحايا بين المحتجين الذين نجحوا الى الآن في الاصرار على سلمية حركتهم الاحتجاجية رغم المحالات المتكررة لتجريدهم منها.
وعلى الرغم من ان القوى السياسية المتحكمة بالقرار السياسي والامني لم ولن تتمكن من خلق رأي عام واسع ومؤثر مناصر لتحركاتها وسلوكيتها كما هو حاصل مع الاحتجاجات القائمة، الا ان خطورة هذا التعاطي قد تصل بنا الى حصول موجه من العنف والعنف المضاد وبالتالي الاقتتال وتهديم ما بقي من السلم المجتمع. وحينها سيكون حال البلد الفوضى وتناحر الارادات الممثلة لأجندات اقليمية ودولية.
طبيعة الصراع والتنافس الاقليمي والدولي، واهداف وتكتيكات اطرافهما في المنطقة عموما وسوريا والعراق خصوصا تنذر بحالة خطرة جدا في المستقبل المنظور إذا ما استمرت الفواعل والمتحكمين بالقرار السياسي الامني بسلوكياتهما الحالية. اذ وبفعل هذه السلوكيات أصبح يُنظر للعراق على انه حالة مشابهة للحالة السورية وأصبح ينظر لهما على انهما ساحة واحدة من قبل إطراق الصراع إيران وحلفائها والولايات المتحدة وحلفائها.
المؤكد ان الولايات المتحدة بعد وصول الرئيس دونالد ترامب للرئاسة، اصبحت لها استراتيجيتها واهدافها الخاصة في التعامل مع إيران وحلفائها في المنطقة. وبدأت الاحداث تثبت ان الولايات المتحدة تستهدف زيادة كلفة السلوك الاقليمي لايران لأنهاكها اقتصاديا بعد فرض العقوبات الاقتصادية والتي حققت اهدافها نسبيا في الداخل الايراني وفقا لمؤشرات اقتصادية ايرانية عدة. كما انها انتهجت اسلوب الاستهداف المباشر لمن تنظر إليهم على انهم وكلاء إيران وهذا ما تجسد في الاستهداف الامريكي لمقر كتائب حزب الله في القائم غرب العراق بعد اسبوع من استهداف مقر لقوات حليفة لايران في مدينة البو كمال السورية.
وفي إطار ذلك، تستثمر الولايات المتحدة محدودية الرأي العام العراقي المؤيد لنفوذ إيران ودورها داخل العراق، وهو رأي عام فئوي لا يمكن له ان يساند احزاب السلطة الموالية لايران في استدامة زخم السلطة والتغلب على "ازمة" الاحتجاجات كما تصفها، عبر قمعها، على عكس الرأي العام الواسع المساند لأجراء اصلاحات سياسية جذرية في النظام السياسي العراقي، والمندد باستخدام العنف ضد المحتجين والذي نتج عنه مئات القتلى والآف الجرحى والمصابين. وقد اعلنت الولايات المتحدة رفضها لهذا التعامل واستنكارها، واكدت بعض قنواتها الاعلامية الداعمة للسياسية الامريكية في الشرق الاوسط وبالخصوص إيران "بأن إيران ووكلائها هي من تستهدف المحتجين، وتدعوا الى رعاية حقوق الانسان في التعامل مع المحتجين".
وبهذا تكون الاحتجاجات، وبفعل عدم توفر قراءة ورؤية موضوعية وتصحيحية لها من قبل احزاب السلطة، واللعب على عامل الوقت، ومحاولة افراغ الاحتجاجات من محتواها، وانكارها، اصبحت ورقة تستخدم في الصراع الامريكي الايراني. حتى ان الاستجابة لمطالب الاصلاح الشعبية باتت اوراق للمساومة بين طرفي الصراع ومن بينها اختيار بديل لرئاسة الحكومة للمرحلة المؤقتة.