حين اطاحت الولايات المتحدة الأمريكية بالنظام السياسي العراقي عام 2003، كان هناك شبه اجماع بأن الدولة العراقية الجديدة ستكون نقطة تحول كبيرة في المنطقة، وأن العراق سيكون منطلقاً لتحديث المنطقة بالأدوات الناعمة تارة وبالصلبة تارة أخرى، أو الخلط بينهما أو ما يسميها جوزيف ناي بالقوة الذكية، وأن الولايات المتحدة سترسم ملامح جديدة لوجودها السياسي والعسكري في المنطقة بالاعتماد على نجاحها السياسي في العراق. إن الاشكالية الكبيرة التي تعاني منها الحكومات العراقية على مدار السنوات الماضية، تتمثل بانها كانت محور الصراع بين واشنطن وطهران، ومحور الصراع الإقليمي أيضاً، وان الولايات المتحدة التي اطاحت بنظام صدام حسين انصدمت فيما بعد من حجم الوجود الإيراني في العراق. هذه الإشكالية كانت واحدة من أهم محددات عدم الاستقرار السياسي في العراق، وان التغلب على هذه الإشكالية ومعالجتها سيسهم وبشكل كبير في ارساء أهم دعائم الاستقرار السياسي في العراق. بالتأكيد أن الحكومة الحالية التي يترأسها السيد عادل عبد المهدي لا تختلف عن سابقتها في حجم التحديات الملقاة على عاتقها، لاسيما على الصعيد الخارجي وطبيعة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولذلك حاولنا أن نسلط الضوء على أهم التحديات التي تحيط بالعلاقة بين بغداد وواشنطن.
أولاً: الفصائل والحركات الشيعية العراقية المسلحة
ربما يكون هذا التحدي، هو التحدي الأبرز الذي يقف بوجه العلاقة بين بغداد وواشنطن، لاسيما في ظل الحكومة الحالية، وإن صعوبة هذه التحدي يكمن فيما يلي:
• إن رفض الحركات والفصائل المسلحة للوجود الأمريكي في الغالب ينبع من عوامل ايديولوجية – عقائدية، وهذا ما يشكل عقبة كبيرة في مستقبل العلاقة بين البلدين.
• إن أغلب الفصائل والحركات الشيعية، تمثل امتداد لمشروع إقليمي في العراق والمنطقة، قائم على أساس ما يسمى بمحور المقاومة أو الممانعة التي تدعمه طهران، القائم على أساس رفض الوجود الأمريكي في المنطقة.
• إن اغلب الفصائل والحركات الشيعية المسلحة في العراق، والرافضة إلى الوجود الأمريكي والعلاقة مع واشنطن، أصبح لها وجود رسمي في الدولة العراقية على الصعيدين السياسي والعسكري؛ وذلك من خلال الاحزاب والقوى السياسية الموجودة في الحكومة العراقية الحالية أو من خلال قوات الحشد الشعبي التي تشكلت بعد اجتياح تنظيم "داعش" للعراق في العام 2014.
وبالتالي، فأن تجمع وتراكم هذه التحديات داخل التحدي الواحد، سيؤثر وبشكل كبير على طبيعة العلاقة بين البلدين، على الرغم من أن هناك فصائل وحركات تحترم العلاقة مع واشنطن على الصعيد السياسي.
ثانياً: سلوكيات الإدارة الأمريكية الحالية
تعد سلوكيات الرئيس الحالي دونالد ترامب في التعاطي مع الحكومة العراقية وأزمات المنطقة بشكل عام، استفزازية في كثير من الأحيان. فقد ألحقت العديد من التصريحات التي أطلقها الرئيس ترامب، والتي يعود تاريخها إلى حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2016، ضرراً كبيراً بصورة الولايات المتحدة كحليف رئيسي ضد تنظيم "داعش". وإن زيارة الرئيس السرية إلى قاعدة "عين الأسد" في محافظة الأنبار، خّلفت الكثير من التداعيات السلبية وأثرت بشكل كبير في العلاقة بين واشنطن وبغداد، ووسعت من دائرة السخط على سياسة وواشنطن اتجاه بغداد، وزادت من نفوذ التيار المعادي للوجود الأمريكي في العراق، والذي بدأ بالضغط على الحكومة والبرلمان العراقيين من أجل اتخاذ موقف رافص للوجود الأمريكي على الأراضي العراقية. فضلاً عن ذلك، فأن تصريح الرئيس الأمريكي بشأن تواجد قوات بلاده في العراق، الذي قال فيه بأن "الولايات المتحدة ستحتفظ بقواعدها في العراق بغية مراقبة إيران عن كثب"، ينم عن حالة الاستخفاف الأمريكي وعدم الاحترام لسيادة العراق، ويبدو بأن تصريحات ترامب لا تعير أي اهتمام للإرادة العراقية، وتريد أن تستخدم الأراضي العراقية ساحة لتصفية حسابتها السياسية مع طهران. ولهذا فإن خطاب الرئيس الحالي للولايات المتحدة دونالد ترامب يساهم جزئيا في إعادة تشكيل العلاقات الأمريكية – العراقية.
ثالثاً: الأحزاب والقوى السياسية العراقية
إن أغلب الأحزاب والقوى السياسية العراقية، لاسيما الشيعية لا ترغب بعلاقة قوية مع واشنطن، حتى على الصعيد السياسي بالنسبة للحكومات العراقية؛ وذلك بسبب الطبيعة التكوينية لها، فمعظم الاحزاب الشيعية ترفض الوجود الأمريكي أما لأسباب ايديولوجية – عقائدية أو لأسباب تتعلق بنشأتها السياسية في دول مجاورة؛ وبذلك فهي تتماشى سياسياً وايديولوجياً مع طبيعة التفكير السياسي الإقليمي الذي تدين له بالفضل ايام نضالها العسكري ضد صدام حسن. ربما يكون الصراع الإقليمي بين طهران وواشنطن له دور كبير في التأثير على طبيعة التفكير السياسي لأغلب الاحزاب الشيعية في طبيعة تعاطيها مع الوجود الأمريكي في العراق أو في طبيعة تعاطيها مع العلاقة بين واشنطن وبغداد بشكل عام؛ وبالتالي فأن التخفيف من حدة الصراع بين طهران وواشنطن، له دور كبير في رسم العلاقة بين بغداد وواشنطن؛ ولذلك نرى، بأن اغلب الاحزاب الشيعية خففت من لهجتها السياسية ضد واشنطن بعد أبرام الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في العام 2015.
رابعاً: الفشل الحكومي وعدم الاستقرار السياسي في العراق
إن الفشل الكبير الذي تعاني منه الحكومات العراقية منذ العام 2003 وحتى الآن، أسهم وبشكل كبير في تصدع العلاقة بين بغداد وواشنطن، فالدولة العراقية ومنذ تشكيل أول حكومة في العام 2006، لم تنجح في كسب الثقة الأمريكية، ليس فقط على الصعيد السياسي وإنما على الصعيد الاقتصادي والعسكري والاجتماعي، فالأزمات السياسية والأمنية واستشراء الفساد في كل مفاصل الدولة العراقية، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار السياسي التي رافقت العملية السياسية العراقية منذ تأسيسها بعد عام 2003، افقدت ثقة الولايات المتحدة الأمريكية بالدولة العراقية. وهذا ما اعطى انطباع واضح للإدارة والمؤسسات الأمريكية، بأن العراق حليف غير موثوق به، ولا يمكن الاعتماد عليه كحليف استراتيجي، على الرغم من أن جزء كبير من هذا الفشل تتحمله الولايات المتحدة الامريكية. فالرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي امتنع عن مساعدة الحكومة العراقية في حربها ضد تنظيم "داعش" بعد أن اجتاح التنظيم الإرهابي المحافظات الغربية، كان يعي وبشكل كبير حجم الفشل السياسي والأمني، فضلاً عن حجم الفساد السياسي والمالي والإداري الذي اصاب كل مفاصل الدولة العراقية، مما ادى في النهاية إلى سيطرة تنظيم "داعش" على ثلث مساحة البلد في غضون ساعات.
خامساً: ضعف المؤسسات العراقية المعنية
في كل دول العالم هناك مؤسسات معنية بصنع واتخاذ القرار، بما يتناسب مع اختصاصها التنفيذي والتشريعي أو الرقابي، إلا أن الوضع في العراق مختلف، ففي كل الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003، لم نجد وزارة أو مؤسسة عراقية تحترم طبيعة عملها وفق ما يرسمه الدستور العراقي لها؛ ولذلك نرى هناك تداخل في طبيعة التعاطي مع الأزمات المحلية والأحداث الإقليمية والدولية. فالعلاقات الخارجية والأحداث الإقليمية والدولية، تكون من اختصاص وزارة الخارجية والهيئات أو المؤسسات التابعة لها (داخليا أو خارجياً) سواء كان ذلك من خلال المقر الرئيس للوزارة وشخص الوزير أو من خلال السفارات والقنصليات التابعة لها في كل دول العالم. إن ما نشهده في العراق خلال السنوات الماضية في طبيعة التعاطي مع الاحداث المحلية والإقليمية والدولية، لاسيما فيما يتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة أو مع الوجود الأمريكي في العراق والمنطقة، يؤشر على خلل كبير في منظومة الدولة العراقية في التعاطي مع احداث المنطقة، ففي كثير من الاحيان تخرج قادة الاحزاب أو الفصائل والحركات المسلحة وبشكل مباشر تهدد وتتوعد الأمريكان في العراق والمنطقة بعيداً عن موقف الحكومة العراقية الرسمي، وهذا ما يسبب احراج وعدم احترام للحكومة العراقية وسيادتها على اراضيها امام المجتمع الدولي، لاسيما وأن اغلب الاحتجاجات تأتي من فصائل وقوى تشارك في العملية السياسية العراقية ولها مواقع تنفيذية على المستوى السياسي والعسكري.
سادساً: غياب الثقة السياسية بالولايات المتحدة
كثيراً ما توصف الولايات المتحدة بانها حليف لا يمكن الوثوق به، فعلاقتها مع حلفائها أما تكون قائمة على اساس ظرف زمني معين أو على اساس مصلحة متبادلة أو على اساس براغماتي. وما حدث لصدام حسين في عام 2003 وقادة الدول العربية في الربيع العربي خير دليل، فضلاً عن ذلك، فان سياسة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب اتجاه دول الخليج العربي، لاسيما اتجاه المملكة العربية السعودية اثناء حملته الانتخابية وبعدها، ترجح تلك الفرضية، فالابتزاز السياسي والاقتصادي كان العنوان الأبرز لعلاقة ترامب مع دول الخليج. وان الإدارة الأمريكية الحالية ساعدت وبشكل كبير في خلق تلك الفرضية، فقد "ألحقت العديد من التصريحات التي أطلقها الرئيس ترامب، اثناء حملته الانتخابية في العام 2016، ضرراً كبيراً بصورة الولايات المتحدة كحليف رئيسي ضد تنظيم "داعش". فخلال تلك الحملة، أعلن الرئيس ترامب أن سلفه باراك أوباما هو الذي خلق تنظيم "داعش"، وهذا أعطى مصداقية لنظرية المؤامرة الخارجية على الصعيد النخبة السياسية وعلى الصعيد الشعبي أيضاً، وهي نظرية تسيطر على قطاع كبير جداً من العقل الجمعي في العراق ومنطقة والشرق الأوسط" والعالم الإسلامي بشكل كبير؛ لأن وباعتقادهم، أن الولايات المتحدة كثيراً ما تلجأ إلى تلك السياسة من أجل تحقيق مأربها السياسية والاقتصادية في السيطرة على مقدرات الشعوب العربية والمنطقة بشكل عام. ولهذا فأن غياب الثقة في الولايات المتحدة الأمريكية من قبل العقل العراقي، يعد من التحديات الاساسية التي تقف بوجه العلاقة بين بغداد وواشنطن.
سابعاً: الصراع الإقليمي في المنطقة
يعد الصراع الإقليمي بين إيران ودول الخليج أو بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية من الاسباب المهمة التي تعرقل علاقة بغداد مع واشنطن. إذ يعد العراق بمثابة الجسر الذي يربط بين هذه القوى، فالعراق دولة عربية ومحيطة وعمقه عربي، تجمعه علاقات قوية بالجمهورية الإيرانية لأسباب مذهبية وسياسية، وان اغلب الاحزاب الشيعية تأسست في إيران, في حين يمثل العراق منطقة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها في العقل السياسي الأمريكي، فالولايات المتحدة الأمريكية التي اطاحت بالنظام السياسي العراقي عام 2003، كانت تريد له أن يكون قاعدة ثابته لجنودها في المنطقة بحكم موقعه الجغرافي والاستراتيجي، فضلاً عن ذلك، فالعراق بحاجة ماسة إلى حليف كبير مثل الولايات المتحدة الأمريكية. كل هذه المشتركات بين هذه القوى، جعلت من العراق أن يكون مسرحاً للأحداث الإقليمية والدولية في المنطقة، لاسيما وأن الظروف السياسية والأمنية كانت وما زالت خصبة بعد عام 2003. وهذا ما أثر بدوره على تشكيل العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، وما زال يؤثر بشكل كبير على طبيعة العلاقة بين البلدين، لاسيما مع تقلبات السياسة الأمريكية في المنطقة والدور الإيراني فيها.
إذاً في ظل تراكم هذه التحديات التي تحيط بالعلاقات الأمريكية العراقية، وفي ظل حاجة الطرفين لبعضهما، لاسيما بالنسبة للحكومة العراقية، لابد من العمل على تذليل تلك التحديات، والعمل على تأطير العلاقة القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال معالجة التحديات التي تتعلق بها، لاسيما في طبيعة علاقاتها مع بعض دول الجوار، بما يضمن الاحترام المتبادل للسيادة الداخلية، ويحافظ على طبيعة العلاقات السياسية المتوازنة مع كل الاطراف الإقليمية والدولية. بموازاة ذلك، على الولايات المتحدة والإدارة الأمريكية أن تكون أكثر دبلوماسية في تعاطيها مع قضايا الحكومة العراقية، وأن تعمل جاهدة على تخفيف حدة التوتر مع بعض الأطراف السياسية العراقية، وأن تتمسك بالخطاب المتوازن اتجاه قضايا المنطقة الأمنية والسياسية؛ وأن تعمل على خلق ارضية للحوار مع الجماعات التي تبدي استعداداً للاعتدال والتفاوض، وخلق شراكة حقيقية قوية مع حلفائها في العراق، بما تسمح بوضع خطط مشتركة ومعالجة المشكلات وفق المعايير التي تخدم مصالح كلا الطرفين وتحد من التدخلات الخارجية، وبما يضمن احترام السيادة الداخلية دون الضرر بمصالح وعلاقات العراق مع دول الجوار.