يفهم من الاعلام السياسي وكأن العراقيين الذين تصدروا واجهة الاشتغال بالشأن العام لم يتمكنوا بعد من اكتشاف الضرورة الاخلاقية والعملية للدولة، بدليل ان واجباتها (وظائفها) ليست محل اهتمام البتة، وان تضمين مشاطراتهم الصاخبة مفردات الاصلاح والخدمات وزراعة وصناعة ... أقرب الى المجاملات الساذجة والغثيثة. هذا للشخصيات والاحزاب التي اندرجت في النظام الجديد، اما قوى الرفض فلا يعنيها من الأمر سوى قلب النظام والاستيلاء على الدولة" الغنيمة". وبين قوى الرفض من يتبنى العنف عقيدة وحتى الارهاب، ومن المشكوك فيه انها توصلت الى استنتاج عدم جدوى الحروب ومختلف فنون القتل للوصول الى المبتغى، وهو رافد رئيسي للتخريب وتأخير بناء الدولة الكفوءة والعادلة في العراق. وقبل مدة وجيزة انتهت او تكاد آخر مواجهات الاسراف في سفك الدماء مع تيار الرفض. وأصبح حق الانسان العراقي في الحياة، وامنه في كرامته وعمله وممتلكاته، بين من استأثر فأساء الأثرة وآخرين استبد بهم الطمع والجزع فكانت اساءآتهم أبشع وأشنع.
وبين هؤلاء واولئك نشطاء وكتاب وربما خبراء افراد وحسب لا يجمعهم منهج ولا يأتلفهم تنظيم وهم هامشيون لا أحد يكترث بأطروحاتهم، نظرية او اخلاقية، او مقترحاتهم للأصلاح، ومعهم في هذه الهامشية جموع الفقراء وسكان الأحياء الفقيرة في مدن العراق، وآخرين كُثر ضاعت دماؤهم ظلما وسرقت اموالهم وانتهكت انسانيتهم، تتخطفهم العصابات والعشائر يتجرعون اصناف المذلة والهوان. لأن اجهزة الدولة مشغولة بمنتسبيها ونزواتهم والهمم الواطئة لرؤسائهم، اقطاعيات لا تتمثل أدنى قيم الاقطاع، عقول مستقيلة وضمائر مريضة غادرت الشهامة والشجاعة ونصرة الضعيف والتزام الحق نحو حياة دونية استبدت بها غرائز وشهوات مجنونة بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
ومع ذلك لا بد من تجديد الآمال بجهود كل من يعنيهم، حقا، إخراج العراق من هذا المأزق الظالم. ونريد من هذه الكلمات توجيه الأنظار الى الوظيفة الأساسية للدولة الا وهي حراسة حقوق الناس التي اقرتها شرائع الاديان واخلاق المجتمعات المتحضرة والأعراف الراقية. ومن الضروري والملح مطالبة قادة الكتل وهيئات قيادات الأحزاب التي تتفاوض الآن على تشكيل (اقتسام) الحكومة الجديدة بعقد جلسات جادة للنظر في وقائع الأنتهاكات والجرائم التي يتعرض لها المواطنون، والتي اصابتهم بمشاركة دوائر للدولة او تواطؤها او تقاعسها، ودراسة تلك الوقائع باخلاص للوقوف على مختلف اوجه الخلل. والمبادرة الفورية لأعادة بناء كل الدوائر التي كانت طرفا في تلك الأنتهاكات، اضافة على فحص واصلاح جذري لنسق فرض القانون وهم يعرفونه جيدا.
ان كنتم فعلا ترغبون في تحريك الأقتصاد بالأستثمار والانتاج والتشغيل والتجارة، وتطمحون الى استعادة ثقة المجتمع الأهلي بقدرة الدولة على اقامة العدل، فليس امامكم خيار آخر. اتخذوا قرارات شجاعة فقد طفح الكيل.
ان التأخر في مباشرة الدولة لدورها النزيه والقوي في حماية حقوق الناس عبر فرض القانون، بذكاء وضمير حي، يقود حتما الى تجذير وانتشار نطاق عمل المؤسسات الموازية للدولة والمنافية لها، ما يؤدي الى استنزاف التراكم الحضاري للبناء الأجتماعي، وارتداد العراق الى مراحل متدنية وتتزايد صعوبات التحديث، بل يصبح الكلام عن الأصلاح مهزلة.
لا يجوز ابدا التعامل مع المظالم التي تصيب الأفراد بمقاربة تجميعية كتلوية لأن حقوق الأنسان مبدئية شاملة، وعندما يتعرض هذا العراقي او ذاك الى ظلم، او يستضعف، فهو اعتداء على كل المجتمع والدولة واهانة الى قياداتها وزعمائها.
وعندما يعاني عراقي شظف العيش او بلا مأوى، وذاك العراقي ضاع دمه ظلما، وآخر انتزعت ارضه بالتزوير تحت مرأى ومسمع الكثيرين من المتنفذين واصدقاء الكبار، ولا يجدون من ينتصر لهم فهذا هو السقوط بعينه. من العيب عند اثارة هذه المظالم أن يبادر أحد المتحذلقين المنافقين بالتساؤل الساذج كم نسبة هذا الصنف من الجرائم ... "... أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... " المائدة 32. وهو نفس مبدا الشمولية وعدم التجزئة في لائحة حقوق الأنسان والذي تعود جذوره في الغرب الى نظرية القانون الطبيعي القديمة، والمبدأ الذي تضمنه اعلان الاستقلال لتوماس جيفرسون.