ينصرف مفهوم التبعية الاقتصادية إلى خضوع اقتصاد قومي متخلف لاقتصاد قومي متقدم، سواء أكان اقتصاد بلد معين أم اقتصاد منطقة معينة، بحيث يكون خاضعاً في سيره للتغيرات التي تحدث في الثاني أو للقرارات التي تصدر عنه ، نتيجة لما يتميز به الاقتصاد المتقدم من السيطرة المالية والتجارية والتقنية ، فيكون الاقتصاد المتخلف اقتصاداً سلبياً عند قيام مؤثرات دولية ، اذ تنعكس هذه المؤثرات ، من خلال العلاقات الاقتصادية دون ان يكون سبباً فيها.
غياب التكافؤ
يؤدي عدم تكافؤ القوى السياسية والاقتصادية بين الدولة الغنية والفقيرة، إلى تدعيم انخفاض مستويات المعيشة ورفع درجات البطالة وعدم العدالة في توزيع الدخل في البلدان التابعة، هو، وأن عدم التكافؤ له آثاره وانعكاساته ليس فقط في قدرة الدول الغنية والمتقدمة على السيطرة على مقدرات الأمور وفي السيطرة على أنماط التجارة الدولية، وإنما قدرتها ايضاً في السيطرة على التكنولوجيا العالمية ومفاتيحها وعلى المساعدات الأجنبية ورؤوس الأموال الخاصة التي يتم نقلها وتحويلها إلى الدول النامية. كما إن عملية نقل الأنظمة التكنولوجية والمؤسسية في الدول المتقدمة إلى الدول النامية بدون تطويعها- والتي تسمى تسليم المفتاح- وبما يتوافق مع الظروف الخاصة- السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وغيرها- بتلك الدول غير ذي جدوى، بل وربما سيدعم ويكرس من التبعية والسيادة والسيطرة للدول المتقدمة على حساب الدول النامية، لان نقل التكنولوجيا بشكل جاهز للبلدان النامية من دون تدريب الكوادر المحلية وتوطينها سيؤدي على عدم الإنتاجية لهذا المشروع ولو أنتجت سيكون إنتاجها منخفض وحتى لو بلغت أفضل حال من الإنتاج إلا أنها لا تستطيع الإبداع والانتشار محليا بالاعتماد على الكوادر المحلية بشكل مستقل، أي تبقى الحاجة إلى صاحب "سر المهنة" "الدول المتقدمة".
ضعف العامل الثقافي
إن ضعف العمل الثقافي المتمثل في انخفاض الشعور بالانتماء للوطن والدفاع عنه كنتيجة لغياب الدور الحقيقي للعامل الديني والاجتماعي، في توعية الأفراد بالأهمية الوطنية والعيش المشترك والتعايش السلمي وحثهم على تصحيح المسار السياسي عبر الطرق السلمية لتلبية مطالبهم المشروعة، وتوطين أنفسهم على حب الوطن وكل ما يسهم في تقدم البلد ، هذا ما أدى إلى فسح المجال أمام الغزو الثقافي وسهل له اختراق الجانب الثقافي المحلي وذوبان العادات والتقاليد خصوصاً في ظل العولمة التي عملت على إلغاء الحدود وحرية التنقل بين الدول والاطلاع على ثقافات وعادات الدول الأخرى وخاصة المتقدمة-لأنها صاحبت الاكتشافات والاختراعات التي لولاها لم نعرفها-، وما زاد من ذلك ثورة المعلومات والاتصالات التي جعلت العالم مكشوف للجميع من دون أي قيود وحواجز، هذا ما جعل شعوب البلدان ذات الاقتصادات الضعيفة منبهرة بالدول المتقدمة في كل المجالات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقانونيا وثقافيا...إلخ، والسعي للحوق بها والركوب في سفينتها، من دون التفكير بما يتلائم وينسجم مع عاداتها وتقاليدها وإمكاناتها، هذا ما زاد من التبعية الاقتصادية من قبل هذه الدول للدول المتقدمة لأنها لا تستطيع الوصول فوراً كما وصلت إليه الدول المتقدمة والتي قطعت أشواطاً طويلة حتى بلغت هذا المستوى.
هجرة العقول دولياً
كما يسهم نفوذ الدول الغنية وقيمها وأنماطها أيضا في زيادة الهوة بين الدول الغنية والفقيرة في ظل جذب الدول الغنية للعمالة المدربة والخبرات العالية الموجودة في الدول النامية بهدف الاستفادة منها، وهذا ما يسمى بهجرة العقول او استنزاف العقول دولياً، هؤلاء الإفراد تلقوا تعليمهم في دولهم النامية، وتم الإنفاق عليهم لإعدادهم الإعداد الجيد، ثم بعد ذلك تصب خبراتهم في اقتصاديات الدول المتقدمة وتحرم الدول النامية التي ينتمون إليها في الأصل، وهذه الفئة تشمل الأطباء والممرضين والعلماء والمهندسين ومبرمجي الحاسب الآلي وحتى الاقتصاديين. إذ إن هناك أكثر من 42 دولة من الدول الأقل نمواً، وهي دول صغيرة وتعتمد اقتصادياتها على الدول المتقدمة ولا تستطيع توفير متطلباتها ذاتياً أو توجيه وإدارة شؤونها بطريقة تضمن انعتاقها من التبعية الاقتصادية والسير نحو الاستقلال الاقتصادي.
الدولار
إن قوة الاقتصاد الأمريكي واحتلاله مرتبة الصدارة من بين جميع اقتصادات العالم جعل أغلب الدول النامية وخصوصاً التي ترتبط معه بعلاقات تجارية ومالية وعسكرية متينة، تسعى إلى ربط عملاتها المحلية بدولار عسى وإن يكون هذا الربط له حث للاقتصاد الضعيف حتى يستحث القوة من الاقتصاد الأمريكي، بينما هذا الربط أدى إلى مزيد من إحكام التبعية للاقتصاد القوي، وحتى لو استمد عناصر القوة من خلال هذا الربط إلا إنه لم يتسم بالاستقلالية والديمومة، فضلاً عن تعرضه بين المدة والأخرى للاهتزازات والتقلبات، عبر أداة الربط وهي الدولار، وذلك بسبب تعرض مصدر القوة وهو الاقتصاد الأمريكي للازمات التي تكمن في النظام المتبع بين المدة والأخرى.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن التبعية الاقتصادية من الدول النامية للاقتصادات المتقدمة تكمن في غياب التكافؤ في الجانب السياسي والاقتصادي بين الدول النامية والاقتصادات المتقدمة، فضلاً عن ضعف العامل الثقافي للبلدان النامية هذا ما يشجع على أحباك التبعية الاقتصادية للدول المتقدمة بفعل غياب الإرادة الوطنية من حكومة وأفراداً، كما يساعد على ذلك هجرة العقول من الدول النامية للدول المتقدمة هذا ما يؤدي إلى إضعاف الداخل بشكل أكبر، وان ربط العملة المحلية بمصادر القوة الغير مستقرة يجعل الاقتصاد تابع وضعيف غير قوي لا يستطيع مواجهة التقلبات التي تواجه مصادر القوة المرتبط بها على أقل تقدير.
مقترحات
يكمن الخروج من مشكلة التبعية الاقتصادية للاقتصادات المتقدمة من خلال عدة قضايا من أهما
أولاً: العمل على بناء قوة سياسية قادرة على التفاوض بقدرة عالية والتعامل بمرونة مع الدول المتقدمة صاحب القرار العالمي حتى تعمل على الحد من التبعية الاقتصادية، وتستخدم المرونة كي تتجنب الصدام او التعرض له وفي نفس الوقت تعمل على بناء علاقات ودية مع دول العالم.
ثانياً: العمل على زيادة الارتباط ما بين الحكومة والشعب وخلق عنصر الثقة المتبادل ما بين الطرفين حتى تستطيع الحكومة والشعب معاً تنفيذ كل يرومون تحقيقه من سياسات وخطط يضعها الخبراء المحليون، والجميع مسؤول عن تحقيق هذا الارتباط وبالأرخص الجانب الديني والمصلحين الاجتماعيين.
ثالثاً: العمل على توفير مناخ ملائم ينعم بالأمن والاستقرار والعدالة والرفاه وضمان الحقوق والواجبات، والاهتمام بشكل خاصة بالعقول والكفاءات والخبرات المحلية، حتى نستطيع المحافظة على هذه العقول والكفاءات والخبرات من عوامل الجذب التي تحاول إغرائها حتى تكتسبها وتفقد البلد من طاقتها.
رابعاً: الاعتماد على الذات في بناء الاقتصاد الوطني والاستفادة من الخبرات الأجنبية ولكن ليس على حساب الاستقلالية للبلد في قراراته لمختلف المجالات، حتى تستطيع أن تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي، وهذا ما يؤدي إلى فك الارتباط الدولار والتقلبات التي تحصل في مصدره وهو الاقتصاد الامريكي.
الهوامش:
1 - هوشيار معروف ،الاقتصاد العراقي بين التبعية والاستقلال ، الطبعة الأولى ، دار الحرية للطباعة ، بغداد ، 1977 ، ص 21- 22 .
2 - ميشيل تودارو، التنمية الاقتصادية، الطبعة الأولى، ترجمة وتعريب محمود حسم حسني ومحمود حامد محمود، دار المريخ للنشر، الرياض،2009، ص114.