يتسع مأزق الاقتصاد العراقي مع استمرار موجات الهبوط السعري في اسعار النفط الخام وعجز الحكومة عن تأمين موارد مالية بديلة لدعم الموازنة والاقتصاد. يتزامن ذلك مع حرب ضروس مع عصابات داعش بحاجة لتمويل مفتوح لا موازنة تقشفية. الصدمة المزدوجة (النفط والارهاب) التي تواجه العراق تفرض عليه التكيف مع شحة الموارد وتفعيل القطاعات الاقتصادية البديلة كالصناعة والزراعة والسياحة وتحفيز القطاع الخاص، ليس فقط لتمويل الموازنة وانما ايضا لامتصاص البطالة وتشغيل الطاقات الانتاجية المعطلة والحد من الاعتماد شبه الكلي على الاستيرادات في تغطية الحاجة المحلية من السلع والخدمات.
في هذا السياق، يتوقع ان يكون للسياسة المالية دورا محوريا في برامج الاصلاح الاقتصادي والمالي في البلد عبر الاستعانة باستراتيجية مالية تحاكي الواقع الاقتصادي في العراق وتعزز من تنويع الموارد الاقتصادية وتحد من الهدر الاقتصادي عبر ضبط ايقاع وكفاءة النفقات. مع ذلك، يجب الالتفات الى عدد من التحديات التي تحد من مرونة ادوات الحقيبة المالية في تحقيق اهدافها في الاقتصادات النفطية ومنها العراق، أبرزها:
التحدي الاول: نمط الانفاق الحكومي.
أبرز التحديات التي تواجه العراق تكريس اعتماده على الانفاق الحكومي مصدرا اساسا للدخل العائلي وتحريك مختلف القطاعات الاقتصادية (الصناعية والزراعية والانشائية ..) سواء بشكل مباشر عبر مشتريات الحكومة لمنتجات هذه القطاعات وما توفره من دخول لموظفيها او بشكل غير مباشر عبر الدعم والاعانات المقدمة لها. جوهر التحدي يكمن في مصادر تمويل الانفاق الحكومي، إذ ينكشف الانفاق الحكومي على الايراد النفطي بنسبة تفوق 90%، وتتصف الايرادات النفطية بثلاث عناصر تضع الانفاق الحكومي ومن بعده الاقتصاد العراقي على المحك.
العنصر الاول: التذبذب المستمر لأسعار النفط بسبب تداخل العوامل الاقتصادية والجيوسياسية في تحديده، وبالتالي فان الاعتماد على النفط في تمويل الانفاق العام يعني ربط الاقتصاد المحلي بعوامل خارجية.
العنصر الثاني: النفط مورد ناضب وهناك محاولات عالمية حثيثة للتخلي عن الوقود الاحفوري لصالح الطاقة المتجددة والصديقة للبيئة كطاقة الرياح والطاقة الشمسية.
العنصر الثالث: ارتباط الموازنة العامة بشقيها الايرادي والانفاقي بأسعار النفط في البلدان الريعية يجرد ادوات السياسة المالية من اداء الدور المطلوب والتكيف مع الازمات الاقتصادية والمالية بمرونة وكفاءة.
التحدي الثاني: الترهل والتضخم الوظيفي.
اعتماد الموازنة الحكومية على توليد طبقة واسعة من شاغلي الوظائف الحكومية، تتسع باتساع الموارد النفطية في حقب الازدهار والنمو الاقتصادي ولا تضيق في حقب الركود والانكماش الاقتصادي، يزيد من المأزق المالي في البلد. فقد مارست الحكومات المتعاقبة خلال السنوات السابقة سياسة التوظيف الواسع غير المرتبط بالحاجة الفعلية أو بالإمكانات الاقتصادية القائمة أو المحتملة، في اقتصاد يعاني اختلالات بنيوية عميقة. وتقدر الاحصاءات (غير دقيقة) إن عدد العاملين في الحكومة تجاوز (5) مليون، فضلاً على وصول عدد المتقاعدين الى (2) مليون تقريبا. وبتراكم الاضافات في الرواتب والمخصصات يبلغ حجم الرواتب والمخصصات قرابة (44) مليار دولار سنويا، يمثل القسط الثابت تقريباً في الشق التشغيلي من الموازنة العامة. مما يعني إن الموازنة التشغيلية في جانبها الانفاقي أصبحت مقيدة (بقسط الرواتب الثابت علما انه يتزايد سنوياً). وبذلك حددت المرونة الانفاقية الحالية والمستقبلية، وحملّت السياسة المالية أعباء لا فكاك منها، لاسيما وأن كل الدراسات تشير إلى تدني انتاجية العاملين في القطاع العام.
التحدي الثالث: المثبتات التلقائية والركوب المجاني.
لا تتعدى الايرادات الضريبية في أفضل الاحوال 1% من اجمالي ايرادات الموازنة العامة في العراق في حين يفوق الانفاق الحكومي على السلع والخدمات العامة 50% من اجمالي النفقات الحكومية. هذه الحقائق اضعفت التفكير بالمثبتات التلقائية كأدوات اضافية للسياسة المالية تسهم في استيعاب وتلطيف الصدمات النفطية لصالح بروز ظاهرة الركوب المجاني. اذ تتسع هذه الظاهرة في المجتمعات الريعية لتبلغ المجتمع جله، كمحجمين عن المساهمة في تمويل كلفة السلع العامة، وتمتعهم بميزات تلك السلعة مجاناً مثل خدمات الأمن والدفاع والصحة والتعليم والطرق السريعة وغيرها. إن مخاطر الركوب المجاني في الامم الريعية، يؤسس بمرور الوقت ظاهرة سياسية غير مرغوبة تتمثل بمقايضة الحصول على السلع العامة من خلال الركوب المجاني بالصوت الانتخابي مما يؤدي الى تدني الديمقراطية السياسية. ولكن من اللافت للنظر إن الأنموذج السياسي العراقي الراهن يوفر للمواطن التمتع بالحقوق الدستورية في ممارسة الديمقراطية والركوب المجاني في آن واحد. وإن مخاطر استمرار هذا التلازم في المدى البعيد سيكون اما على حساب التضحية بالنمو الاقتصادي او الديمقراطية من اجل حصاد شيء من الرفاهية الاستهلاكية على مدى الحقب القصيرة ( ).
التحدي الرابع: فقدان الرؤية الاستراتيجية في اعداد الموازنة.
غياب الرؤية الاستراتيجية للسياسات المالية أحد أبرز اسباب تعثر الاقتصاد العراقي خلال السنوات السابقة، فقد غيبت البرامج الاقتصادية عن ابواب النفقات والايرادات الحكومية التي تضمنتها موازنات الاعوام السابقة، رغم الوفورات النفطية التي حققها البلد لغاية العام 2013، لصالح الزيادة المذهلة في النفقات التشغيلية (الاستهلاكية) من جهة، وضعف الرقابة على ادارة وتنفيذ النفقات الاستثمارية بكفاءة من جهة اخرى. ومن من الضروري ان تتضمن الموازنات القادمة برامج اقتصادية تحاكي واقع الاقتصاد العراقي وطبيعة الازمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها البلد بسبب احادية التصدير، ويؤسس لنمط جديد في ادارة الملف الاقتصادي يجنح الى تنويع الموارد وتحفيز القطاعات الاقتصادية الزراعية والصناعية والسياحية والنهوض بالقطاع الخاص للحد من احادية الاقتصاد العراقي واتكاله المزمن على المورد النفطي. وقد تكون الصدمة المالية الحالية فرصة لإعادة التنظيم المالي وتشديد الرقابة على المال العام ومكافحة الفساد والعمل على تقليص النفقات غير الضرورية التي أدمنت عليها الحكومة بسبب الريع النفطي.
يتطلب الوضع الراهن قيام الحكومة بعدة إجراءات، لعل أبرزها: ضبط الإنفاق الحكومي، وإصلاح النظام الضريبي من خلال سن عدد من القوانين التي تسهم في توسيع الأوعية الضريبية وتحديد أسعار جديدة للضرائب تنسجم والمقدرة التكليفية للمواطن مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم إثقال كاهل الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والعمل على إعادة هيكلة الصناعات المملوكة للدولة والتحول التدريجي نحو القطاع الخاص، إذ تكشف الموازنات العامة السابقة أن دعم وتمويل هذه الصناعات لم يحسن من أدائها الاقتصادي فما زالت أغلب المشروعات العامة غارقة في الخسائر. أما بالنسبة لتفعيل القطاعات غير النفطية، فهذا يتطلب خطة لتنويع مصادر الإيرادات عبر تحفيز القطاعات غير النفطية في البلد.
2024-11-20 ,
45 , سياسة