رغم الاضطراب الواضح في سوق الصرف والتجارة، بعد ربط النافذة بالمنصة الإلكترونية، لا زالت المقاربات الخاطئة للعلاقات المالية الدولية تحظى بالاحتفاء، والترويح لتصورات لا تستند إلى أساس في إدارة أموال العراق في الخارج والاحتياطيات الدولية للبنك المركزي. وإشاعة انطباعات مرجعها الخلط بين مفهوم التهريب، وهو التحويل او النقل بخلاف القواعد التنظيمية، واستخدامات العملة الأجنبية غير المبينة في طلبها من النافذة، للقول إنها لا تمول الاستيرادات بل تذهب لأغراض أخرى مع إحاطتها بالغموض واللاشرعية. وقد غذّت البيانات الناقصة أو المشوهة من المنافذ الحدودية هذه الضوضاء التي تواطأت معها جهات متنفذة. وأوضحت هذه الأزمة غلبة روح المشاكسة والعناد دون قواعد المحاكمة المنطقية وإقامة الدليل، والتغافل عن أهمية التعاون لتنقية المعلومات وإشاعة الحقائق.
تحاول هذه الورقة التوصل إلى مؤشرات إرشادية، قدر الإمكان، للتعرف على الحجم النسبي المحتمل لاستيرادات السلع والخدمات من معالجة بيانات دول العالم والتركيز، خاصة، على نمط العلاقة بين الكل الاقتصادي والمدفوعات الخارجية الجارية. ثم تجتزأ دول ريع الموارد الطبيعية لحساب تلك العلاقة. وثمة متغيرات أخرى أضيفت ومنها الحجم النسبي لإنتاج الزراعة والصناعة التحويلية لتكتمل الصورة. وبعدها نعرض مبيعات العملة الأجنبية من نافذة البنك المركزي على نتائج الاستقراء وننظر فيما إذا تجاوزت الحد أم لا. ما توصلنا إليه أنها ضمن المديات الاعتيادية لتقدير الاستيرادات وتحويلات دخل عناصر الإنتاج والتحويلات الجارية الأخرى. ومنها نستنتج ان استثمارات القطاع الخاص في الخارج محدودة. ومن أسباب الالتباس أن المهتمين بالأمر افتقدوا الدليل الإرشادي للحكم على حجم المبيعات، إضافة على الخلط بين المعيار القانوني-التنظيمي والتصنيف الاقتصادي للصفقات في العلاقات المالية الدولية. نذكّر ان التقدير الذي نستنتجه للعراق ليس المتحقق فعلا بل الممكن Potential في ضوء تجربة العالم، وهو ما يستدعيه الحوار للنظر في حجم المبيعات. وأرجو من القراء الكرام عدم اختزال المسألة والكاتب في حدود هذه المقالة، فهي لا تتعدى استخلاص مؤشرات من بيانات لدول الأخرى الجأت إليها متابعة التصريحات والآراء بعد أزمة المنصة، وليست بديلا عن الأبحاث المستوفية للشرط الأكاديمي والمذكورة لاحقا. لنتعرف على المدى الذي تتحرك ضمنه المقادير التي تستنتج من العلاقة بين الاستيرادات والناتج للدول الأخرى. ومنه لا يمكن، مثلا، تأييد صحة تقديرات بأن 60 او 70 أو 100 مليون دولار في اليوم تكفي لتغطية استيرادات القطاع الخاص في العراق، وايام العمل لا تزيد عن 21 يوم في الشهر.
إرباك عمل النافذة
مهمة النافذة بسيطة لا تتجاوز إيصال العملة الأجنبية من مصدرها الحكومي الوحيد إلى السوق بسعر يعينه البنك المركزي، ومن الممكن أداء هذه الوظيفة بمنتهى الهدوء والسلاسة. لكن الثقافة السائدة لا تقبل إضفاء المشروعية على طلب الأهالي ومنظمات الأعمال الخاصة للعملة الأجنبية. وبقي المجلس النيابي وكذلك المجتمع يطالب البنك المركزي بتقييد البيع، وفي الخطاب الدارج أنْ يقتصر على استيراد السلع بالاعتمادات المستندية ويضاف إليها العلاج والتعليم في الخارج بتقنين مسبق للمقادير المسموح بها. وبقي التناقض بين هذا التصور، المتوارث من عهود خلت، والأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي بعد عام 2003 بما في ذلك تحويل مهمات التجارة الخارجية في السلع والخدمات، عدا النفط، إلى القطاع الخاص دون حل. وكأن مبادلة النقود العراقية بالأجنبية بسعر الصرف ليست عادلة او لا تجوز أصلا، ولذلك توصف النافذة وَهْما بأنها استنزاف لموارد العراق. والحوار المنتظم والمتواصل، بقصد الوصول إلى نتيجة منطقية، متعذر نتيجة لإقصاء التفكير النظري المتخصص لحساب الإنشاء المرسل والارتجال والاستعراض.
هذه الأجواء تسمح، أو تحتم، استمرار تقاليد العمل لدائرة التحويل الخارجي الملغاة ومنها توزيع العملة الأجنبية بين المصارف ومكاتب الصيرفة بموجب معايير، ولا بد مع إجراءات من هذا الطراز حصول تفاوت بين المبيعات وطلب السوق، بهذا القدر أو ذاك، ثم اختلاف سعر السوق عن الرسمي بفارق أعلى من العمولة الاعتيادية. وبعدها تنازع خفي أو معلن على أرباح تكسبها المصارف من تعاملها مع النافذة التي صارت موضوعا للإعلام ومباريات بين السياسيين والنواب وغيرهم ولا زالت.
العملة الأجنبية التي تشترى من النافذة يعاد بيع قسم منها في السوق، كما أن طلب المصارف وزبائنهم أوسع بكثير من الأبواب المتعارف عليها في التعليمات وثقافة العمل، من هذا التناقض جاء السبب الأول لتزوير الفواتير والمعلومات المغشوشة. وأيضا يتهرب التجار والمستثمرون من الضرائب أو يتسترون على ثرواتهم فجاء السبب الثاني للتزوير. وثالثة الأثافي المقاطعة الأمريكية لإيران وحلفائها على خلفية نزاع بينهما دام لأكثر من أربعة عقود. بينما يجد التجار العراقيون في إيران بضائع بأسعار ونوعية مناسبة للسوق العراقية؛ والعراق يتجنب المقاطعة التجارية والمالية للدول الأخرى لأنها تورث العداوة ومنافية للتعاون الضروري لإدامة السلام خاصة مع دول الجوار. وبالإضافة إلى تلك المشاكل يُطلَب من إدارة النافذة التدقيق في مصادر الدنانير التي تشتري الدولارات كي تمنع تحويل الأموال المسروقة من القطاع العام !!. وهكذا تضافرت القيود وأشكال مختلفة من التدخل لصناعة مشكلة دائمة في العملة الأجنبية حيث لا ينبغي أن تكون لأنها ميزة الوفرة النفطية.
المضامين السياسية للتدخل الأخير في سوق الصرف معلومة لكنها، ليست موضوعا لهذه المعالجة. وهل يوجد مكان في العالم تنأى فيه السياسة، حكومة ومعارضة، عن الاقتصاد. وليس من المعقول صرف الانتباه عن حقائق الاقتصاد بحجة البعد السياسي؛ وعندما تكون السياسة موضوعا للحوار يشار إلى ان الاقتصاد جوهر السياسة لتعطيل البحث فيها... هذه تقاليد سلبية لا تنفع أية قضية.
مفاهيم أساسية وإحالة إلى دراسات سابقة
العلاقات المالية الدولية للعراق، او غيره، يتناولها الحساب الاقتصادي بمفهوم الدفق، السيل، Flow والمفهوم الآخر هو الرصيد، الركام، Stock. الأول يشتغل عليه ميزان المدفوعات Balance of Payments؛ والثاني يظهر في المركز الاستثماري الدولي International Investment position. وينضوي كلاهما تحت عنوان المحاسبة الاقتصادية الكلية الدولية، وهي المتمم للمحاسبة الاقتصادية الكلية الوطنية.
وأشير هنا إلى كتاب الاستثمار الأجنبي والنمو وسياسات الاستقرار الاقتصادي، دار الكتب – العراق 2014، للكاتب؛ الفصل الأول منه، الحساب الجاري ومحدداته؛ والفصل الثاني الحساب المالي والتكيف مع التدفقات؛ والفصل الثالث المركز الاستثماري الدولي. لأن دراسة الطلب على العملة الأجنبية تقتضي معاقرة منهجية للموضوع الذي يقدمه ميزان المدفوعات للدارس ابوابا وقيودا للصفقات التجارية والاستثمارية. وخلاصة التدفقات الموثقة في نظام ميزان المدفوعات، إضافة أو نقصا، تتراكم في المركز الاستثماري الدولي. مثل نظام المياه في المنزل يصب فيه الأنبوب القادم من محطة التصفية ويخرج منه إلى الاستخدامات وكل منهما Flow والنتيجة مستوى الماء في الحوض Stock. ولمزيد من الإيضاح تبوب المدفوعات لاستيرادات السلع والخدمات، ومقبوضات الصادرات سلعا وخدمات بما فيها النفط؛ ومدفوعات ومقبوضات دخل عناصر الإنتاج الأساسية، الأجنبية في العراق والعراقية في الخارج، وتحويلات دخل أخرى ثانوية في ميزان المدفوعات. وأيضا الاستثمارات الداخلة إلى العراق والخارجة منه في ميزان المدفوعات، أي تدفقاتها السنوية. اما الرصيد، المتراكم، من الاستثمار الأجنبي في العراق أو العراقي في الخارج فيظهران في حساب المركز الاستثماري الدولي، وهو لا يختلف عن أية ميزانية عمومية: دائن ومدين، أصول وخصوم ... وهكذا. وفي إطار تلك المفاهيم يبوب التغير في الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي، الإضافة والنقيصة، في ميزان المدفوعات؛ لكن رصيد الاحتياطيات الدولية في المركز الاستثماري الدولي.
العملة الأجنبية الورقية في خزائن البنك المركزي، مثل الذهب، من الاحتياطيات الدولية وضمن مفهوم الرصيد Stock. العملة الأجنبية الورقية مطلوبات على جهة اجنبية فكأن قيمتها أصولا مستثمرة في بلد الإصدار، بينما الذهب قيمة بذاته وقابل للتحويل إلى سيولة دولية. اما العملة الأجنبية الورقية لدى القطاع الخاص فهذه ليست جزءا من الاحتياطيات الدولية، لكنها أيضا بمثابة أصول مستثمرة للقطاع الخاص في بلد الإصدار. الإضافة إلى العملة الأجنبية في خزائن البنك المركزي أو لدى القطاع الخاص مشمولة في ميزان المدفوعات، لكن الموجود منها في أية لحظة يندرج في المركز الاستثماري الدولي للعراق.
الطلب على العملة الأجنبية، في هذا السياق، يقصد منه التدفق، أي جانب المدفوعات في الميزان الخارجي خلال مدة من الزمن ، وليس الأرصدة. بينما مفهوم الطلب على النقود الوطنية ينصرف إلى رصيدها Stock العملة الأجنبية يحتفظ بها الأهالي في الداخل وعاء للقيمة مثلما يحتفظون بالنقود الوطنية والذهب ...وهكذا. ولاحظ الزملاء أنها تستخدم في نطاق من المبادلات، شراء سيارة أو عقار بالدولارات الورقية، وهنا وقع الاشتباه، وهو الخلط بين مفهومي التدفق والرصيد. نعم يوجد رصيد من العملة الأجنبية يوظف لإنجاز المبادلات، مثلما يوجد رصيد من النقود الوطنية لهذا الغرض. لكن ما هو مقدار الطلب على العملة الأجنبية ضمن مبيعات النافذة لغرض المبادلات، هو الزيادة فقط: لو فرضنا أن 20 مليار دولار محتجزة للمبادلات ، هذا رصيد Stock فقد لا يزداد سنة 2020 عما كان عليه في العام السابق فيكون الطلب على العملة الأجنبية لهذا الغرض صفرا ، وقد تنشط المبادلات التي تستخدم الدولار فيزداد ، لنقل بنسبة 10%، فيكون الطلب من مبيعات النافذة لهذا الغرض بسنة كاملة 2 مليار دولار. ثم لا ننسى سرعة ، او معدل دوران النقود، والذي يسري هنا على العملة الأجنبية التي تؤدي وظيفة النقود. فإذا كانت قيمة المبادلات ، الأشياء المباعة والمشتراة، في سنة ما 100 مليار هذا لا يعني الحاجة إلى رصيد من العملة الأجنبية الورقية بمقدار 100 مليار لإنجازها، بل أقل من ذلك بكثير حسب معدل الدوران. ثم يبقى هذا الرصيد قائما يستخدم في السنة اللاحقة والتي تليها ... وهكذا دائما وقد تضاف إليه مقادير طفيفة. ولذا فإن إستخدام العملة الأجنبية للمبادلات ليست له أهمية في الطلب عليها والذي تعبر عنه مبيعات النافذة. وإن يتبين، لاحقا، عدم قناعة الزملاء بهذا الشرح نعود إلى هذا الموضوع، فيما بعد، بورقة إلى ان نتفق أو نختلف على أسس راسخة.
العملة الأجنبية تُطلب لتمويل الإستيرادات وتحويلات الدخل والإستثمار الخارجي ولكل من هذه الإنشطة محددات كانت وتبقى موضوعا للعلوم الاقتصادية. وما يتصل بها مبحوث قدر الإمكان ، نظريا وتجريبيا، في مؤلفات للباحث: الاقتصاد النقدي ، الطبعة الثانية منشور في شبكة الاقتصاديين العراقيين؛ والإقتصاد المالي الدولي والسياسة النقدية ، منشور من موقع البنك المركزي؛ والتمويل وسوق الصرف والتنمية في إقتصاد نفطي ، الطبعة الثانية ، دار الكتب للنشر والتوزيع. وإلى جانب هذه دراسات، للباحث، تؤسس لتقدير الطلب على العملة الأجنبية منها: التجارة الخارجية في العالم بين عامي 2000 و2014 وإتجاهات الأمد البعيد (2016) ؛ والتنويع في الاقتصاد المعتمد على الصادرات النفطية بالإشارة إلى دول مجلس التعاون الخليجي (2017)؛ و التنمية الاقتصادية وقيد ميزان المدفوعات (2017)؛ ونمو الاقتصاد العراقي نحو عام 2040 له علاقة أيضا، حيث أُعِدَّ السيناريو إنطلاقا من الوظيفة المزدوجة للمورد النفطي في تمويل الإستيرادات والإنفاق الحكومي وكيفية معالجة العجز المزدوج ، المحتمل ، في الأمد البعيد عبر التكوين الرأسمالي المتسق مع التغيرات المطلوبة في البنية النسبية للأنشطة الإنتاجية، وخاصة بناء قاعدة إنتاجية سلعية بموازاة النفط الخام تتجه للتصدير. وأشير ، أيضا، إلى مقالات مختصرة ومبسطة تَعرِض حسابات وأفكارا في العملة الأجنبية وسعر الصرف منها في الشبكة ومواقع أخرى. نافذة العملة الأجنبية، تمول أغلب استيرادات العراق، سلعا وخدمات، ومدفوعات أخرى وتحويلات مالية إضافة إلى صلة مبيعاتها بالاحتياطيات وسعر الصرف ... وقد أحيطت بالاهتمام من مختلف الجهات، والكثير من الاجتهادات المرتجلة.
التعرف على الحجم النسبي للاستيرادات في الاقتصاد المعاصر
تزايد الإنفتاح التجاري في الاقتصاد الحديث والمعاصر، وفي الإتجاه العام ترتفع نسبة إستيرادات السلع والخدمات إلى الناتج المحلي الإجمالي بغض النظر عن بنية الإنتاج والسياسة الإقتصادية. ولا تختلف، في هذا المنحى، الدول التي إختارت تعويض المستوردات، أمريكا اللاتينية مثلا، أو النمو المقاد بالصادرات الصناعية وهي الإستراتيجية التي إنتهجتها دول شرق آسيا من اليابان، مرورا بتايوان وكوريا الجنوبية وإلى الصين أخيرا. ويعرض الشكل (1) مسار الإستيرادات نسبة إلى الناتج المحلي بين عامي 1960 و 2021 لعدد من الدول تختلف في أوضاعها الإبتدائية ونموها.
الشكل (1) يبين كيف تتزايد نسبة الإستيرادات إلى الدخل مع التطور الإقتصادي
الدول: ARG الأرجنتين ؛ CHNالصين؛ FRA فرنسا؛ GRC اليونان؛ KOR كوريا الجنوبية؛ SAU السعودية. مصدر البيانات: موقع البنك الدولي
ولا شك ان الدخل او المؤشر قريب الدلالة منه مثل الناتج المحلي الإجمالي يفسر، في الأمد البعيد، حجم الإستيرادات. ومن الدراسات التي أشرنا إليها آنفا ثمة دور للأسعار، ومنها سعر الصرف، لكنه يبقى محدودا مقارنة بأثر الدخل. تعويض المستوردات يولد طلبا متناسبا مع حجم التعويض على مستلزمات الإنتاج وسلع رأس المال، وكذلك تتطلب تنمية الصادرات إستيراد قائمة طويلة من المدخلات الأجنبية. ومع الإتجاه نحو التخصص وتوزيع صناعة المكونات ومراحل التصنيع بين دول عدة تعاظمت التجارة الخارجية. من المعلوم ان اكثر من ثلاثة أرباع التجارة الخارجية من السلع قوامها الصناعة التحويلية والباقي للتعدين والزراعة. في العراق سلة الصادرات من سلعة واحدة وتشمل المستوردات مختلف أصناف السلع والخدمات.
للإقتراب من النمط الوسطي لتجربة العالم إخترنا المدة 1986- 2020 يعرضها الجدول (1) ونركز على المدفوعات للعمليات الجارية في ميزان المدفوعات بإستثناء التحويلات الثانوية للدخل. المدفوعات هنا شاملة للإستيرادات من السلع والخدمات وتحويلات دخل عناصر الإنتاج ، العمل ورأس المال، نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. تقتصر العينة على الدول التي زاد حجمها السكاني عن مليون نسمة. ومتوسط الدخل للفرد لا يقل عن 1500 دولار بالمتوسط للثلاث سنوات 2018- 2020 . ثم إستبعدنا الحالات المتطرفة ولذا بقيت 66 دولة وهي عينة كافية لإكتشاف نمط نقارن به وضع العراق.
نهتم بنسبة المدفوعات الجارية إلى الناتج المحلي الإجمالي حيث كانت بالمتوسط 39% ، ونلاحظ ان مرونة المدفوعات الجارية مع الناتج أعلى من الواحد الصحيح وبذا نتوقع نموا على الإستيرادات يفوق نمو الناتج المحلي، نعود إلى هذه الخاصية فيما بعد. وعلى فرض ان الناتج المحلي للعراق في السنوات الأخيرة بين 200 إلى 240 مليار دولار، وليكن 220 بينهما تكون التحويلات الجارية بالمتوسط السنوي بحوالي 86 مليار دولار، من القطاعين العام والخاص. لنحتفظ بهذا التقدير ونمضي في التحليل، وبعدها نعرض النتائج على مبيعات النافذة ثم نستنتج بعد أن نأخذ بالإعتبار إستيرادات الحكومة تطرح من هذا التقدير ثم نقارن النتيجة مع مبيعات النافذة.
لا شك في تمويل مبيعات النافذة لإستثمارات في الخارج للقطاع الخاص لكنها وفي ضوء هذا التحليل لا تبدو كبيرة طالما أن الطلب المحتمل للقطاع الخاص على الإستيرادات وتحويلات الدخل ليس أقل من مبيعات النافذة. أما التهريب فلا صلة له بالمسألة لأن المفهوم يدور حول تحويلات ونقل عملة عبر الحدود بخلاف القانون او القواعد التنظيمية، ولا يكشف عن إستخداماتها بعد التهريب.
الجدول (1) وصف المتغيرات للدول التي يزيد سكانها عن مليون والدخل للفرد أكثر من 1500 دولار
للمدة 1986- 2020
وللاقتراب أكثر من أوضاع العراق اجتزأنا من العينة الكبيرة دول ريع الموارد الطبيعية في الجدول (2) وهي بذات الخصائص للعينة الكبيرة عدا أن نسبة الريع من الناتج تزيد على 10% وعددها 16 دولة، ومتوسط نسبة الريع 22.7%. وجدنا مرونة المدفوعات الجارية مع الناتج أدنى من المتوسط العام للمجموعة الكبيرة، ربما لأنها أصلا لا يعوزها الإنفتاح. ومستوى النمو فيها أعلى قليلا من العينة الكبيرة بخلاف الشائع فالريع ، قدر ما يتضمنه هذا المؤشر من دلالات لا يعيق النمو. والإنفتاح التجاري أعلى من المتوسط العام للعينة الكبيرة إذ إرتفعت نسبة المدفوعات التجارية إلى الناتج لتصل 41.34% ، وعند إستخدام هذه النسبة على ناتج العراق يرتفع مقدار المدفوعات الجارية إلى 90.9 مليار دولار بالمتوسط السنوي للقطاعين العام والخاص.
ومرة أخرى لِيعرض القارئ الكريم هذا التقدير، بعد طرح استيرادات القطاع العام، على مبيعات النافذة فيجد أنها اعتيادية طالما يتولى القطاع الخاص أغلب الاستيرادات بينما تنحصر استيرادات الحكومة بفقرات محددة، أسلحة وادوية والغاز والكهرباء والمنتجات النفطية وقليل من التجهيزات الأخرى. ورغم أن الحكم النهائي على ملائمة حجم مبيعات النافذة للطلب الممكن على المدفوعات الخارجية للقطاع الخاص يقتضي إحصاءات مدققة عن الاستيرادات الحكومية، لكن ذوي الاطلاع والألفة مع البيانات الاقتصادية يعرفون أن المتبقي من التقدير آنفا، 91 مليار دولار تقريبا، أعلى من مبيعات النافذة، ولذا تبقى في حدود أو دون الطلب الممكن للقطاع الخاص على المدفوعات الخارجية الجارية مهما كان التقدير عاليا للاستيرادات الحكومية.
الجدول (2) وصف المتغيرات لدول ريع الموارد الطبيعية التي تزيد نسبة الريع من الناتج عن 10%
عينة جزئية من الدول ، آنفا، عددها 15 دولة ، التي تزيد نسبة الريع على الناتج فيها عن 10% .
مبيعات النافذة يعرضها الجدول (3) للمبيعات الشهرية منذ كانون الثاني 2011 ولغاية الشهر النظير من عام 2023. المبيعات شهدت صعودا سريعا بين أكتوبر 2003 حتى نهاية عام 2010. كانت مرحلة انتقالية من شح الحصار إلى وفرة الانفتاح وصعود أسعار النفط التي بلغت ذروة استثنائية منتصف عام 2008 قبل انهيارها.
الشكل(2) المبيعات الشهرية من النافذة بملايين الدولارات بين كانون الثاني 2011 و كانون الثاني 2023
المنحنى الرئيسي لكل المدة ، والذي على اليمين بين كانون الثاني 2016 وأكتوبر 2022.
منذ عام 2011 حصلت نتوءات قبل عام 2015 ثم تدنت وبقيت تتحرك دون صعود. والشكل (2) يشرح هذا السلوك بوضوح. من الجدول (3) نقرأ المتوسط السنوي طيلة المدة 45.2 مليار دولار، نقدا وتحويلات. وعند استبعاد الشهرين الأخيرين من عام 2022 وكانون الثاني 2023 يرتفع المتوسط السنوي قليلا إلى 45.8 مليار دولار. وبين كانون الثاني 2016 وأكتوبر من عام 2022 ينخفض المتوسط السنوي إلى 43.8 مليار دولار. نستنتج اتجاها نحو استقرار الطلب ثم انخفاضه ولذا تؤكد هذه البيانات افتقاد القول بزيادة الطلب إلى الأساس الموضوعي.
الجدول (3) مبيعات العملة الأجنبية من نافذة البنك المركزي، ملايين الدولارات،
من كانون الثاني 2011 إلى كانون الثاني 2023
وعندما نطرح أي تقدير لاستيرادات الحكومة من الطلب الممكن على المدفوعات الجارية للعراق في ضوء التجربة الدولية او نمط دول الريع سيكون الباقي أعلى من المبيعات.
نعود، مرة اخرى لمشكلة الخلط بين التصنيف الاقتصادي لاستخدامات العملة الأجنبية والذي يبينه نظام ميزان المدفوعات والزوايا القانونية والسياسية للنظر في العلاقات المالية الدولية للعراق. عندما يقال اقل من 100 مليون دولار في يوم العمل تكفي للاستيرادات من السلع والخدمات " والباقي تهريب" فهذه جملة ليست مفيدة بل هي خطأ، لأنها لا تميز بين انتقال أو تحويل النقد الأجنبي والعمليات التي يمولها. معلوم في العراق ودول أخرى يتهرب التجار والمستثمرون من الضرائب، وربما من قيود المقاطعة الأمريكية، وكذلك قد يُخفي بعض المتعاملين مع النافذة نيتهم للاستثمار في الخارج لأسباب شتى. والمهم أن كثيرا من التجار يمولون مستورداتهم من سوق الصرف وليس من النافذة مباشرة. ولا ينجز هذا التحاشي والتهرب دون بلاغات كاذبة وفواتير مزورة وأسعار مبالغ بها لمستوردات ... وهكذا. في التحليل الاقتصادي ننحي الجوانب القانونية والتنظيمية جانبا. هذا لا يعني موقفا من التهرب أو تزوير الوثائق بل لمعرفة الحقائق الاقتصادية. المهم أقل من تلك المبيعات لا تكفي لتغطية المدفوعات الجارية للقطاع الخاص، فيما يبدو من التجربة الدولية. ولو أن هذه الأموال التي تسمى مهربة وُظِّفت لغير الاستيرادات والمدفوعات الخارجية الاعتيادية لكانت المبيعات أعلى من هذه التي عرضها الجدول (3).
دعنا نقترب من طريقة التفكير التي احتفت بها فضائيات ومقاهي إلكترونية: هذه الأموال التي تسمى مهربة لو افترضنا أنها لم تستخدم في تمويل التجارة بل لمساعدة حكومات أجنبية صديقة للمتعاملين مع النافذة !! أو لإحداث انقلابات في دول أخرى، وما إلى ذلك، !!، فهذه الاستخدامات ليست معوضه للمستوردات ويتطلب الأمرـ تبعا لذلك، إلى مبيعات إضافية كبيرة قد تزيد على نصف او ثلثي هذه المبيعات انسجاما مع تصوراتهم التي أشرنا إليها في مستهل المقال.
تحليل تجربة دول الريع في السنوات الأحدث
للتأكد من النتائج التي كشفت عنها بيانات المدة 1986-2020 اخترنا السنوات ما بعد التغيير ونهوض مورد النفط والانعتاق من الحصار وهي المدة 2004-2020. في الملحق ملف إحصائي لدول ريع الموارد الطبيعية التي زادت نسبة الريع فيها عن 20% من الناتج إضافة على البحرين وروسيا ويساعد الملف الإحصائي في دراسات أخرى.
الشكل (3) الاستيرادات من السلع والخدمات % من الناتج المحلي الإجمالي لدول الريع
نقتصر هنا على استيرادات السلع والخدمات دون تحويلات الدخل والمدفوعات الأخرى، ونوضح أن بيانات العراق عن الإستيرادات بتقدير منخفض لأسباب معروفة ولذلك نلجأ إلى المتوسطات للتعرف على الطلب المحتمل . نسبة إستيرادات السلع والخدمات إلى الناتج المحلي الأجمالي لدول الريع هذه المدة 41.18 % ، وعند معاملة هذه النسبة مع الناتج المحلي للعراق تكون النتيجة حوالي 92 مليار دولار إستيرادات السلع والخدمات للقطاعين العام والخاص، وبذا تكون مبيعات النافذة حوالي نصف هذا التقدير. وتبعا للمنهج الذي إعتمدنا بقي الحجم النسبي للمبيعات ضمن المدى الواقعي. لكن قد يتساءل الزملاء عن معقولية إختيار الوسط. إخترنا الوسط لأن النشاط الإستثماري دون المستويات التي شهدتها دول النمو السريع بالتصنيع مثل اليابان أيام نهضتها، وكوريا الجنوبية وتايوان لاحقا، والصين منذ ثمانينات القرن الماضي، وأيضا تقتصر صادرات العراق على النفط دون الصناعة التي تستدعي مستلزمات إنتاج مستوردة؛ أما تفسير عدم النزول دون الوسط فيتمثل في وصول إقتصاد العراق إلى الريعية الصرفة بدلالة ارتفاع نسبة الريع إلى الناتج ؛ والمستوى المتدني لناتج الزراعة والصناعة التحويلية.
نعرض في الشكل (2) نسبة القيمة المضافة للزراعة والصناعة التحويلية مجتمعتين إلى الناتج المحلي الإجمالي. متوسط نسبة القيمة المضافة من الزراعة والصناعة التحويلية إلى الناتج 16.8% لدول الريع هذه مجتمعة. أي أن ريع الموارد الطبيعية بذاته لا يكفي سببا لريعية الاقتصاد إلا من خلال ضيق القاعدة الإنتاجية السلعية من غير المورد الطبيعي. القصد من الوقوف عند هذه الخصائص الإنتباه إلى وجود علاقة بالضرورة بين بنية الإنتاج والتجارة الخارجية.
الشكل (4) القيمة المضافة في الزراعة والصناعة التحويلية % من الناتج المحلي الإجمالي
العراق أوطأ الدول الريعية في الناتج السلعي غير النفطي، او بتعبير آخر كأنه يفتقر إلى القاعدة الإنتاجية ، وقد تناولنا هذه الخصائص ومخاطرها في أبحاث أخرى منها ذكرت آنفا وأخرى غيرها. نخلص من التحليل إلى ضرورة التمييز بين المقاربة الاقتصادية للطلب على العملة الأجنبية ومبيعات النافذة من جهة، والاهتمامات الأخرى، سياسية وقانونية وغيرها من جهة أخرى. وتساعد حقائق الاقتصاد بحكم موضوعيتها كثيرا في تنظيم الحوارات والتخفيف من اضرار كثرة الأطروحات ذات المنطلقات البعيدة عن نظام الصيرفة المركزية وانماط العلاقات المالية الدولية وأسواق الصرف . وقد إعتمدنا في هذه الورقة منهجية بسيطة قوامها : أن العراق مثل غيره من دول العالم وثمة علاقة بين الحجم الاقتصادي للدولة متمثلا بالناتج المحلي الإجمالي والطلب على السلع والخدمات من الخارج، وعند الاسترشاد بالمعامِلات المستمدة من النمط المشترك لدول العالم او المجموعة الريعية يظهر أن مبيعات النافذة ليست كبيرة بل دون الطلب المحتمل للقطاع الخاص على العملة الأجنبية.
ملحق إحصائي
الجدول (4) وصف متغيرات الاقتصاد والتجارة لدول ريع الموارد الطبيعية للمدة 2004 - 2020
ملاحظات: الريع هو مجموع ريع الموارد الطبيعية كافة؛ الناتج هو المحلي الإجمالي؛ الاستيرادات للسلع والخدمات؛ المقصود بالزراعة والصناعة التحويلية القيم المضافة منهما؛ النقود بالتعريف الواسع Broad Money أو M2. الدول المشمولة من بلغت نسبة ريع الموارد الطبيعية إلى الناتج المحلي الإجمالي فيها 20% فأكثر عدا البحرين وروسيا؛ ومتوسط الدخل للفرد أكثر من 1500 دولار؛ والسكان مليون نسمة فأكثر. متوسط نسبة الاستيرادات إلى الناتج 41.2 %.
الشكل (5) ريع الموارد الطبيعية % من الناتج المحلي الإجمالي