عانى الاقتصاد العراقي، منذ عقود، من اتساع الاختلالات الهيكلية نتيجة تراكم تداعيات ضعف السياسات العامة في ادارة الثروة النفطية بشكل يناسب متطلبات التنمية والتنويع لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي. بدلا من ذلك، وظفت الوفرة المالية النفطية في تضخيم دور الدولة في الاقتصاد عبر توسيع مؤسسات القطاع العام على حساب القطاع الخاص، ليس في تقديم الخدمات العامة فحسب بل في توفير السلع وفرص العمل ايضا. ونتيجة لربط الاقتصاد والموازنة بإيرادات النفط المتقلبة، وضعف الجهود الحكومية في ضبط النفقات العامة او تعظيم الايرادات غير النفطية، بات اهتمام دوائر القرار بتوقيت حدوث الازمة، وليس امكانية حدوثها.
عام 2020 ونتيجة تداعيات جائحة كورونا والاغلاق الكبير للاقتصاد العالمي وتراجع اسعار النفط بشكل حاد، تم خفض قيمة الدينار العراقي استجابةً لضغوط التمويل الحرج لموازنة عام 2021. وقد خُفضت قيمة الدينار العراقي من (1182) الى (1450) دينار للدولار الواحد، لتعظيم الايرادات النفطية وتقليص العجز المالي الحكومي. ورغم التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لسياسة خفض قيمة العملة وما تتطلبه من شروط مسبقة لنجاحها، تبقى سياسة مألوفة في العديد من البلدان، وخصوصا الناهضة منها. وقد استجابت الاسواق لصدمة سعر الصرف بشكل افضل من المتوقع. اما رفع قيمة العملة فهي سياسة غير مألوفة، نظرا لعواقب تلك السياسة على النمو والاستقرار الاقتصادي من جهة، واضعاف مصداقية السياسة النقدية ودورها في تحقيق الاستقرار المالي والنقدي من جهة اخرى.
دوافع تغيير سعر الصرف عام 2020
رغم ان سياسة تخفيض قيمة الدينار جزء من برنامج الاصلاح الاقتصادي والمالي المضمن في الورقة البيضاء الا أن قرار خفض سعر صرف الدينار جاء على خلفية تدهور أسعار النفط العالمية وتراجع الايرادات النفطية الى قرابة النصف عام 2020 مقارنة بإيرادات النفط عام 2019. مما اعاق تمرير مشروع قانون الموازنة الاتحادية 2020، واضطرار الحكومة للاقتراض العام الداخلي بقرابة (27) ترليون دينار من البنك المركزي (بدفعتين وبعد تشريع قانونين)، بشكل غير مباشر، عبر خصم حوالات الخزينة المباعة للمصارف، من أجل تمويل رواتب الموظفين وبعض النفقات الحكومية الضرورية. وقد انعكس هذا الاقتراض الداخلي سلبا على حجم احتياطي البنك المركزي من العملة الأجنبية كما مبين لاحقا.
وقد تكرر المأزق المالي مجددا عند اعداد مشروع الموازنة الاتحادية 2021، ولم تمتلك الحكومة آنذاك وفرة من الخيارات لمواجهة صدمة اسعار النفط والصدمة الصحية معا، خصوصا مع انحسار افاق الاقتصاد والاسواق العالمية واتساع القيود الصحية على الشركات والافراد وتناسل موجات Covid-19 . وقد نوقشت ثلاث خيارات:
- اتباع وزارة المالية سياسة مالية تقشفية قائمة على تقليص النفقات العامة، خصوصا بند الرواتب ورفع معدلات الضريبة بمختلف انواعها، اضافة الى رفع الدعم عن الوقود وبعض السلع الاساسية. ولم تحظى هذه السياسة بالقبول نظرا لتصاعد موجة الاحتجاجات التي شهدها البلد اواخر عام 2019 احتجاجا على الاوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفساد المستشري في مختلف المؤسسات الحكومية في العراق، فضلا على ركود الاقتصاد الوطني واهمية المحافظة على استمرار الانفاق الحكومي لتجنيب الاقتصاد مخاطر صدمة مالية جديدة.
- اللجوء الى الاقتراض العام، وخصوصا الداخلي، وقد تم اعتماده في ازمات متعددة منها الازمة المزدوجة عام 2014 وازمة كورونا والرواتب عام 2020. لكنه اجراء غير مستدام ويراكم من اجمالي الدين العام. فقد وصل الدين العام الداخلي فقط الى (70) ترليون دينار نهاية عام 2021 تشكل حوالات الخزينة (50) ترليون دينار، وهي اصول تثقل ميزانية البنك المركزي. كما لا يمكن الاعتماد على هذه الاداة في تمويل العجز بشكل مستمر.
- رفع سعر صرف الدولار لتعظيم الايرادات النفطية بالدينار وتقليص عجز الموازنة العامة من جهة، وتقليص مبيعات الدولار والحفاظ على الاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي لمدة اطول، اذا ما استمرت تداعيات جائحة كورونا وبقيت اسعار النفط دون (50) دولار للبرميل، من جهة اخرى.
الاحتياطيات الاجنبية وتغيير سعر صرف
تراجعت الاحتياطيات الاجنبية بقرابة (20%) نهاية عام 2020، فقد انخفضت احتياطيات العملة الاجنبية لدى البنك المركزي من (67.9) مليار دولار في كانون الاول 2019 الى (54) مليار دولار في كانون الاول 2020، ونتيجة لعدة اسباب اهمها:
- تراجع مبيعات وزارة المالية من الدولار الى البنك المركزي بشكل حاد نتيجة تراجع الصادرات النفطية بسبب تراجع الاسعار وانخفاض الكميات المصدرة نتيجة قيود تحالف (اوبك+) الذي قلص حصص الدول الاعضاء لضبط المعروض النفطي. وفقد هبطت الايرادات النفطية الى قرابة النصف عام 2020 مقارنة بعام 2019.
- ارتفاع الكتلة النقدية في البلد على اثر اتساع الاقتراض الحكومي من المصارف عبر حوالات الخزينة واعادة خصمها لدى البنك المركزي. مما زاد الكتلة النقدية من (52) ترليون دينار عام 2019 الى (66) ترليون دينار عام 2020، وتشكل تلك الزيادة عامل ضغط اخر على مبيعات الدولار في السوق، خصوصا في الظروف الاقتصادية المضطربة آنذاك.
- زخم توقعات المصارف ورجال الاعمال والجمهور بانخفاض قريب في قيمة الدينار، بسبب حراجة الوضع المالي، ضاعف من عمليات استبدال الدينار بالدولار لغرض المضاربة وكمخزن للقيمة، مما زاد من معدلات الطلب على الدولار في اسواق الصرف.
وقد ساهم قرار رفع سعر صرف الدولار في تقليص العجز المالي الحكومي عبر زيادة الايرادات الحكومية بنسبة (23%)، نظرا لتعظيم الايرادات النفطية بالدينار حين تباع دولارات الحكومة الى البنك المركزي بـ (1450) بدلا من (1182). وايضا للحفاظ على الاحتياطي الاجنبي وتفادي تعريضه لمستويات الخطر اذا ما استمرت الاسعار في التدهور عام 2021. فقد كانت توقعات اسعار النفط ومعدلات النمو الاقتصادي في تراجع سيما بعد ظهور متحور دلتا وتوقع هبوط الاحتياطيات الى (27) مليار دولار بحلول نهاية عام 2021. فبحسب توقعات صندوق النقد لأسواق النفط نهاية عام 2020 فان الاحتياطيات الاجنبية كانت ستصل الى مستويات الخطر، أي دون (30) مليار دولار (علي علاوي).
المصادر:
1-أحمد إبريهي علي، سعر الصرف، الموازنة، واحتياطيات البنك المركزي في العراق، شبكة الاقتصاديين العراقيين، تشرين الثاني، 2021
2-علي علاوي، تغيير سعر صرف الدينار العراقي في سياق عملية الاصلاح الاقتصادي وتأثيره في زيادة الاسعار، ورقة مقدمة الى مجلس النواب العراقي، 28 شباط، 2022