النفط والاقتصاد والمؤسسات : النرويج وفنزويلا مثالاً

في الغالب يُعزى ضعف اقتصادات البلدان التي تمتلك موارد نفطية إلى هذه الموارد ذاتها دون الإشارة للتجارب الناجحة واسبابها التي من أهما المؤسسات.

إذ تلعب المؤسسات بشكل عام دور مهم في تحسين اداء الاقتصاد أو تخلفه في أي بلد.

 إذا ما كانت هذه المؤسسات حقيقية وفعّالة في أداء الدور المطلوب منها بشكل مهني وحيادي ستسهم في تحسين اداء الاقتصاد والعكس صحيح.

أي إذا ما كانت مؤسسات غير حقيقية وخاملة أو نشطة ولكنا غير مهنية وغير حيادية ستؤدي لتخلف الاقتصاد خصوصاً إذا كان يمتلك موارد طبيعية كبيرة كالنفط مثلاً.

بمعنى أن البلدان النفطية إذا ما كانت تمتلك مؤسسات حقيقة ستكون قادرة على توظيف الثروة النفطية بما يسهم في تقوية الاقتصاد وتحسين اداءه مما يعني زيادة رفاهية المجتمع أخيراً كما هو حال النرويج.

وإذا ما كانت البلدان النفطية لا تمتلك مؤسسات حقيقة وتعمل بشكل غير مهني وغير حيادي سيتم توظيف الثروة النفطية بشكل سيء مما يتسبب في ضعف الاقتصاد وتخلفه وتراجع رفاهية المجتمع أخيراً كما هو حال فنزويلا.

مع العلم إن كلا البلدين نفطيين بل وأكثر من ذلك، إذ تتفوق فنزويلا على النرويج في حجم الثروة النفطية والاقتصاد أخيراً، وكما سيتضح أدناه.

دلائل تحسُن الاقتصاد وتخلفه

ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المؤشرات أدناه

الاول: الناتج المحلي الاجمالي، حيث يبلغ حجم الناتج الاجمالي أكثر من 362 مليار دولار عام 2020 ونظراً لعدم وجود احصاء يوضح حجم الناتج لهذا العام في فنزويلا والذي بالتأكيد يكون أقل من النرويج، سيتم اعتماد الناتج لعام 2014.                                                          

هذا التأكيد جاء من السلسلة التاريخية لتفوق الناتج في النرويج على فنزويلا للمدة 1984-2014.

وفقاً لبيانات البنك الدولي، بلغ حجم الناتج المحلي الاجمالي في النرويج 498 مليار دولار مقابل 482 مليار دولار في فنزويلا عام 2014.

الثاني: نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي، حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في النرويج 97 ألف دولار مقابل 16 ألف دولار في فنزويلا عام 2014.

الثالث: مؤشر التنمية البشرية، الذي يهتم في تقييم ثلاثة عناصر وهي التعليم والصحة ونصيب الفرد من الناتج، احتلت النرويج وفقاً لهذا المؤشر المرتبة الاولى فيما تحتل المرتبة 113 عام 2019 حسب تقرير 2020.

نلاحظ من خلال هذه المؤشرات إن النرويج أفضل حالاً من فنزويلاً وبشكل كبير مع العلم إن الأخيرة تمتلك موارد نفطية أضعاف ما تمتلكه النرويج، إذ يُقدر الاحتياطي النفطي بأكثر من 300 مليار برميل في فنزويلا وهو أكبر بـ 175 ضعف الاحتياطي النفطي في النرويج البالغ أكثر من 1700 مليون برميل.

مؤشرات أخرى توضح وتؤكد رفاهية النرويج أكثر من فنزويلا وهي:

مؤشر الازدهار، حيث تحتل النرويج المرتبة الثانية في هذا المؤشر فيما تحتل فنزويلا المرتبة 147 من أصل 167 دولة ضمها المؤشر عام 2020.

مؤشر السعادة، تحتل النرويج المرتبة الرابعة في هذا المؤشر فيما تحتل فنزويلا المرتبة 99 من أصل 153 دولة ضمها المؤشر عام 2020.

مبرر غير موضوعي

رُبما يُذكر، إن عدد سكان فنزويلا الذي يُقارب 28500 ألف نسمة هو أكبر بـ 5 أضعاف عدد سكان النرويج الذي يُقارب 5500 ألف نسمة عام 2020، فيكون من الطبيعي أن تكون النرويج أفضل حالاً من فنزويلا. 

هذا التبرير غير موضوعي لان حصة الفرد النرويجي من الاحتياطي النفطي تبلغ أكثر من 10500 برميل وهي أكبر بـ 33 مرة ضعف حصة الفرد الفنزويلي من الاحتياطي النفطي التي تبلغ 309 برميل لكل فرد.

المؤسسات والادلّة

بالتأكيد لا يمكن حصر هذه المفارقة العجيبة في حجم الثروة وأداء الاقتصاد بين النرويج وفنزويلا لسبب واحد لانَّ هناك أسباب عديدة تكمُن وراء هذه المفارقة.

 ويُمكن القول، إن قوة المؤسسات في النرويج من جانب وضعفها في فنزويلا من جانب ثانٍ، تقف كسبب بارز وراء هذه المُفارقة، ويمكن الإشارة لبعض الادلّة أدناه.

الدليل الأول: المؤسسات الديمقراطية، حيث تحتل النرويج المرتبة الاولى فيما تحتل فنزويلا المرتبة 140 من بين 167 دولة في مؤشر الديمقراطية العالمي لعام 2020. 

هذا ما يدلل على قوة المؤسسة التشريعية في النرويج وضعفها في فنزويلا، وقوة السلطة التنفيذية واستبداديتها في الأخيرة، مما جعلها تقع ضمن تصنيف الدكتاتورية فيما تقع النرويج في تصنيف الديمقراطية الكاملة.

بمعنى إن القرارات في فنزويلا تخضع بشكل كبير لمزاج الحاكم بعيداً عن الموضوعية والمهنية عكس النرويج تماماً التي تبتعد عن المزاجية وتعتمد الموضوعية الحيادية أساساً في قراراتها.

الدليل الثاني: المؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، إذ يُمكن التعبير عن هذه المؤسسات في مؤشر سيادة القانون الذي تحتل النرويج بموجبه المرتبة الثانية مقابل احتلال فنزويلا المرتبة الاخيرة(128) من أصل 128 دولة ضمها المؤشر.

حيث يتناول هذا المؤشر ثمانية مؤشرات فرعية ذات صلة بهذا الدليل، مثل مؤشر العدالة المدنية ومؤشر العدالة الجنائية ومؤشر النظام والامن وغيرها.

كما يمكن التعبير عن قوة المؤسسات القضائية والامنية والعسكرية بمؤشر السلام العالمي الذي تمتلك النرويج بموجبه المرتبة الاولى فيما تحتل فنزويلا المرتبة 135 من أصل 163 دولة ضمها المؤشر عام 2020.

وتجب الاشارة لعدم تناول مؤشر الارهاب العالمي بحكم إن هذا المؤشر لم يقوم بعوامل ذات علاقة بهذه المؤسسات، حيث يتم تركيبه بناءً على إجمالي عدد الحوادث والوفيات والاصابات ومجموع الاضرار.

الدليل الثالث: قوة السلطة الرابعة، يتم التعبير عن السلطة الربعة بمؤشر حرية الصحافة، حيث تتمثل مهمة هذه السلطة بشكل رئيس في مراقبة اداء السلطات الاخرى ونقل مطالب الشعب للسلطات.

حيث تحتل النرويج المرتبة الاولى في مؤشر حرية الصحافة فيما تحتل فنزويلا المرتبة 147 من أصل 179 دولة ضمها المؤشر عام 2020. 

بمعنى إن الإعلام حُر ومستقل وله دور كبير في تصحيح مسار مؤسسات الدولة في النرويج في حين لم يكن كذلك بالنسبة لفنزويلا.

الدليل الرابع: مؤشر الدول الهشة، تحتل النرويج المرتبة 178 فيما تحتل فنزويلا المرتبة 28 من أصل 179 دولة ضمها المؤشر عام 2020.

نظراً لشمول ذا المؤشر على مؤشرات سياسية واقتصادية واجتماعية، فهو يعطي صورة واضحة عن قوة المؤسسات في النرويج فيما لم تكُن كذلك في النرويج.

توضح المؤشرات والأدلّة أعلاه، إن المشكلة لا تتعلق بذات الموارد النفطية كما هو مُتصور بل المشكلة الرئيسية تتعلق في ضعف المؤسسات في الدول النفطية كفنزويلا فانعكست مواردها النفطية بشكل سلبي على الاقتصاد والمجتمع.

لان في المقابل هناك دول نفطية كالنرويج وبحكم امتلاكها مؤسسات قوية راسخة وفعّالة استطاعت أن توظف مواردها النفطية بشكل إيجابي يخدم الاقتصاد والمجتمع.

خلاصة القول: إن الدول النفطية لا تستطيع التخلص من الآثار السلبية للموارد النفطية إلا في حالة استطاعت بناء مؤسسات قوية قادرة على توظيف هذه الموارد بما يخدم الاقتصاد والمجتمع.

التعليقات
تغيير الرمز