صدر مؤخرا التقرير الدوري " مستجدات افاق الاقتصاد العالمي " عن صندوق النقد الدولي، وركز التقرير على منحى خطير يؤطر التعافي الاقتصادي العالمي، فقد اتسعت الافاق الاقتصادية بين البلدان منذ اخر تقرير للصندوق في نيسان 2021، بعدما اصبح توفر اللقاحات العنصر الحاسم في تقسيم التعافي الاقتصادي العالمي الى فئتين : الفئة الاولى البلدان التي بدأت تشهد عودت النشاط الاقتصادي الى طبيعته، وسيستمر التعافي حتى اواخر العام 2021 كما هو متوقع في معظم البلدان المتقدمة، والفئة الثانية تمثل البلدان التي تواجه طفرات جديدة في الاصابات وخسائر متزايدة في الارواح بسبب ضعف السيطرة على كوفيد-19 نتيجة شحة توفر اللقاحات فيها. فقد حصل قرابة (40%) من سكان الاقتصادات المتقدمة على جرعات اللقاح الكاملة، مقارنة باقل من نصف هذه النسبة في اقتصادات الاسواق الصاعدة، ونسبة ضئيلة للغاية في البلدان منخفضة الدخل وكما يبين الشكل.
وتعكس تعديلات صندوق النقد الدولي لتنبؤات النمو الاقتصادي تطورات الجائحة والتغير في الدعم الذي توفره السياسات للاقتصادات الوطنية. ومن المتوقع ان يحقق الاقتصاد العالمي نمو بنسبة (6%) في عام 2021 وقرابة (4.9%) عام 2022. وأبقى الصندوق على توقعاته لنمو الاقتصادات المتقدمة مقابل خفضها لاقتصادات الاسواق الصاعدة والبلدان النامية. وتميل توقعات الصندوق الى توقع تطورات معاكسة نتيجة بطء توزيع اللقاحات مقارنة بالمعدلات المتوقعة مما قد يسمح للفيروس بالتحور مجددا لسلالات جديدة.
لماذا قد تكون التطورات الاقتصادية معاكسة؟
اتساع فجورة التعافي الاقتصادي العالمي بين بلدان العالم يولد تعارضا في السياسات الاقتصادية وقد يقود في ظل تفشي فيروس كوفيد-19 الى ازمات مزدوجة في العديد من البلدان، وبالخصوص اقتصاديات الاسواق الصاعدة. على سبيل المثال ارتبطت مؤخرا ضغوط سعرية بالجائحة نتيجة ضعف التوازن بين العرض والطلب، مما ينذر بعودة التضخم في العديد من الاقتصادات نتيجة ارتفاع اسعار المواد الغذائية، ونسبيا ارتفاع اسعار الوقود. وبالتالي ستزداد التوقعات بتشديد البنوك المركزية للسياسات النقدية الجارية بغية السيطرة على الاسعار، مما يولد ضعفا في الافاق الاقتصادية. وقد يتبع ذلك، تشديدا في اوضاع المالية العامة بسرعة، بفعل اعادة تقييم افاق السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة إذا ارتفع التضخم بأسرع من الوتيرة المتوقعة. ومن شان تلك التطورات احداث ازمة مزدوجة في اقتصادات الاسواق الصاعدة والبلدان النامية جراء تفاقم ديناميكية الجائحة وتشديد الاوضاع المالية الخارجية مما ينعكس في حدوث انتكاسة حادة في مسار التعافي الاقتصادي الذي برز مطلع العام 2021.
سياسات عالمية لترميم الصدوع
تشتراك معظم البلدان في هدف كبح جائحة كوفيد-19 عالميا، مما يوجب التحرك متعدد الاطراف لتعزيز افاق النمو الاقتصادي العالمي في كافة بلدان العالم وتقليص الفجوة بين المسارات المتباعدة في اتجاه الاقتصادات العالمية. ومن ابرز تلك التحركات:
1- نشر اللقاح على مستوى العالم لضمان وصول اللقاحات بشكل عاجل الى كافة بلدان العالم، اذ ينبغي للمجتمع الدولي بذل جهود اكبر بكثير لتطعيم اعداد كافية من السكان وضمان تحقيق مناعة مجتمعية على مستوى العالم. وقد طرح خبراء الصندوق مقترحا لإنهاء الجائحة، حظي بترحيب منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، يهدف الى تطعيم (40%) من السكان في كل بلد نهاية عام 2021 و(60%) على الاقل بحلول منتصف عام 2022.
2- يعد تحقيق المساواة في نشر اللقاحات عنصر مهم في اعادة النشاط الاقتصادي العالمي على مسار النمو والاستقرار الاقتصادي، اذا افتقر التطعيم الى المساواة عام 2021. فقد تم تطعيم قرابة (3) مليارات جرعة على مستوى العالم، قرابة (75%) منها في البلدان المتقدمة والصين، في حين حظيت البلدان منخفضة الدخل بلقاحات تقل عن (1%) من مجموع السكان. وقد تعهد المجتمع الدولي بتوفير تمويل اضافي لتغطية (30%) من السكان في (91) بلد منخفض الدخل.
3- ضرورة دعم الاقتصادات المقيدة ماليا، فقد انعكست ازمة كوفيد-19 بشكل كبير على ديون العديد من البلدان مما حد من مواردها المالية لزيادة الانفاق الصحي والاجتماعي. وقد اقترح صندوق النقد الدولي توزيع (650) مليار دولار من حقوق السحب الخاص لدعم الاقتصاد والبلدان الاعضاء. وستحصل اقتصادات الاسواق الصاعدة والبلدان النامية على قرابة (275) مليار دولار من هذا المبلغ. مما سيخفف كثيرا من قيود تمويل القطاع الصحي والاجتماعي، خصوصا في تلك البلدان التي تواجه خيارات صعبة بين تلبية احتياجات الانفاق الصحي والاجتماعي ودعم اقتصاداتها بشكل عام، وبين التزاماتها المتعلقة بالاقتراض الخارجي.
4- ينبغي ان يستمر تركيز السياسات المالية في اعطاء الاولوية للإنفاق الصحي، بما في ذلك الانفاق على انتاج اللقاحات والبنية التحتية اللازمة لتوزيعه وتأهيل الموارد البشرية وحملات التوعية بقضايا الصحة العامة لزيادة تقبل الافراد للقاح. مع ذلك، لا يتوفر في البلدان منخفضة الدخل الحيز المالي المطلوب لمواجهة احتياجات الجائحة والرعاية الاجتماعية ودعم الاقتصاد، وهي بحاجة ماسة الى دعم دولي قوي لتجاوز الازمة المزدوجة.
5- ينبغي للبنوك المركزية تجنب تشديد السياسات النقدية نتيجة ضغوط تضخمية عابرة الى ان تتضح جيدا العناصر الاساسية المحركة لديناميكيات الاسعار ومدى ديمومتها. ويجب رفع درجة الشفافية لاتجاهات السياسة النقدية لكي لا تكبح توقعات المستمرين والجمهور اتجاه التوسع الاقتصادي القائم نتيجة تزايد اعداد الملقحين وفتح الاقتصادات تدريجيا.
خلاصة القول، لا ضامن للتعافي الاقتصادي دون القضاء على كوفيد-19 في جميع انحاء العالم. ويمكن ان تؤدي السياسات الدولية المتضافرة والموجهة بدقة على المستويين الوطني ومتعدد الاطراف الى احداث فرق كبير في وتيرة التعافي وتقليص فجوة التعافي بين مختلف بلدان العالم.