شغل الإصلاح المالي، بمختلف مرادفاته، الرأي العام، والأحزاب في تعهداتها الإنتخابية وأعضاء المجالس النيابية، وصدرت عن الحكومات الكثير من التصريحات والوثائق، وإلى الآن لم تتبلور صورة واضحة عن ميدان الإصلاح ومهماته الرئيسة. ولم تفصح الممارسة عن مقاصد إتجهت إليها تدابير معروفة، بشرت بنتائج ملموسة. ولا شك أن المشكلة في أصلها نشأت عن غياب الوحدة السياسية للمجتمع الوطني خلف إنقسام حاد وعنيف، ومعمعة الإرهاب، وتنافس الزعامات وكثرة الأحزاب، وشرط "التوافق"، وهو عمليا مشاركة جميع الأحزاب في حكومة تتنصل عنها في الأسبوع الأول، وتبتزها. والنتيجة سلطة تنفيذية ضعيفة لا تستطيع السيطرة على جهاز الدولة، إن ارادت، وتعجز في نفس الوقت عن حمايته من عبث الدوافع الدنيئة والأطماع الهمجية. البيئة السياسية لا تقدم الحوافز الضرورية للكفاءة والنزاهة، وأضعفت الاهتمام بالمشترك، ومستقبل العراق، لا سيما التنمية الاقتصادية الجادة بالتصنيع وتطوير القدرات الإنتاجية الوطنية. أما صناعة الرأي العام، تقريبا، هي فاشلة ايضا يحتلها هوس السلطة وضيّعت الحقيقة بالصخب مثل إبرة خيط في كومة من القش.
المطلوب الذي لا غنى عنه مبادرة الأحزاب المشاركة في الحكم، كل من جهته دون إنتظار الآخرين، إلى التخلي عن حساب الأرباح والخسائر حسب منهجها الذي درجت عليه، ومباشرة الإصلاح، وتعرف جيدا ما الذي يمكن أن تفعله وهو كثير. لا يوجد حزب ليس لديه في دوائر القرار من يذعن لأمره، ولا يوجد حزب متصوف في إحترام المؤسسية المدعاة. ومن الضروري، عمليا واخلاقيا، مطالبة جميع المشاركين في مواقع الدولة، والسلطة السياسية العليا، إدانة ونبذ ذهنية الركوب المجاني والعمل كل من جهته لتصحيح المسار.
إن الإعاقة السياسية للإصلاح المالي شوّهت المفهوم، إذ أصبح لا يعني أكثر من إطالة الجدل حول قيود الموازنة العامة، والعجز، والكل يعلم أن الفائض أوالعجز، في العراق، إنعكاس لحركة سعر النفط في السوق الدولية وليس لهما المضامين المعروفة في الإقتصاد الإعتيادي. المالية العامة هي مالية القطاع العام بل إقتصاد القطاع العام شاملا للإستثمار والتشغيل لكافة الوحدات العامة بغض النظر عن علاقتها بالموازنة. وليس النزاع حول تعديل بنود الإنفاق للأعوام السابقة بزيادة او إنقاص هذه الفقرة أو تلك بنسبة 5% او 10% مثلا.
المالية العامة تشمل الإستثمار العام بأكمله بغض النظر عن إسلوب تمويله من الموازنة العامة أو ذاتيا. وماذا يعني الإصلاح المالي إن أغفل عقود التجهيزات والمشتريات لكل القطاع العام. والمالية العامة تتضمن التشغيل وتعويضات المشتغلين وتقاعدهم في كل القطاع العام. القطاع العام هو كل الإقتصاد مقابل الخاص: الحكومة العامة وجميع الوحدات المرتبطة بها من شركات ووحدات تمويل ذاتي ومصارف ... وغيرها.
الإستثمار العام: في النفط والغاز، والكهرباء والصناعة؛ وجميع أنشطة البنى التحتية عدا الكهرباء: شبكات الري والبزل وإستصلاح الأرض؛ ومياه الشرب، وشبكات الصرف الصحي، والطرق والجسور والسكك والموانئ والمطارات؛ وابنية الخدمات العامة، ... وهكذا. فهل وقف الإصلاح حقا عند الإستثمار العام، ولاحظ مآسي المبالغة في التكاليف وتحريف المواصفات، هل دقق الإصلاح المالي مقاولات التطوير النفطي والكهرباء، ومقاولات قطاعات الصحة والتعليم والبلديات والمحافظات. من أين يأتي الإصلاح إن لم يكن من بوابة مشروع الاستثمار العام. وما هو معنى الإصلاح إن لم ينهض بالإستثمار العام. من أهداف الإصلاح المالي المعالجة الجذرية لفجوة البنى التحتية؛ وكيف نستطيع سد فجوة البنى التحتية ومواصلة تطويرها دون التأكد من التقدير الأصولي للتكاليف، الأسعار، وتدقيق المواصفات على الأرض. وهذه لا تقدمها وثيقة الموازنة التي تحجب خلفها كل الميادين الحقيقية للإصلاح. أما هذه الممارسات فتندرج في الدول الأخرى تحت عنوان الضبط المالي والذي يعني، إصطلاحا، التزام توازن الموازنة قدر الإمكان، وهو ما انشغلت به جهود الإصلاح في العراق!
في عام 2013 كانت الكلفة الكلية للمشاريع المدرجة في الموازنة 283 ترليون دينار. وقبلها كانت مشاريع إستنفدت تخصيصاتها وخرجت من الموازنة، وبعدها أدرجت مشاريع، تنكشف الكثير من الحقائق بتدقيق هذا السجل. ومصلحة العراق مع التغيير الجذري لنظام الإستثمار العام: في إعداد وإدارة المشاريع، والإستشارة الهندسية، وضبط التكاليف والتصاميم والموصفات؛ والتنفيذ بشركات جديرة؛ ورقابة مختلفة تماما عن الوضع الحالي. العراق لا يحتاج بعثرة الإستثمار العام في مئات من الدوائر غير المؤهلة، وتوزيع المشاريع على من يرغب، وتدقيق التنفيذ على الورق. وكيف تطمئن لدعوة طويلة في الإصلاح ولا تجد للإستثمار العام فيها مكانا. كيف تفهم هذا الحماس لمكافحة الفساد دون إشارة إلى كوارث الإستثمار العام. ماذا يعني الفساد المالي الذي نريد محاربته إن لم يكن هو الفرق بين النفقات الفعلية والكلفة المعيارية لمشروع الإستثمار العام؛ أو ليس الفساد المالي هو الفرق بين المواصفات المتعاقد عليها والمواصفات الفعلية، هذه الحقائق الجوهرية ضاعت في صخب الخبراء وحماس النشطاء.
المحور الثاني للإصلاح عقود التجهيزات والمشتريات، هذه أيضا ثغرة كبيرة تسلل منها أعداء الإنسانية والحضارة لإفتراس العراق. نظام التجهيزات والمشتريات فاشل وتغييره ممكن تماما بحصره والسيطرة عليه بثلاث أو أربع وحدات متخصصة، المقترح مبين في محله. والمحور الآخر التشغيل وتعويضات المشتغلين وتقاعدهم.
إن السيطرة على التجهيزات والمشتريات وتعويضات المشتغلين تكفي لإصلاح التشغيل، ماليا، اليس كذلك.
إذن معاقرة بنود الموازنة العامة لا ينتهي إلى إصلاح. كما أن إضاعة المسائل الكبرى بآلاف الجزئيات منهج لا يخفى ضرره الفادح. الأفضل تبني إطار بسيط واضح للإصلاح المالي: الإستثمار العام بضمنه البنى التحتية؛ التجهيزات والمشتريات؛ ثم التشغيل وتعويضات المشتغلين وتقاعدهم. وللقطاع العام بأكمله وليس فقط للدوائر المرتبطة بالموازنة.