تسعى الاقتصادات كما يسعى الأفراد إلى تحقيق المزيد من المكاسب وسط مزيد من الانفتاح والتنافسية.
حيث يسعى الأفراد، في العادة؛ لتحقيق المزيد من المكاسب في الاقتصاد، وذلك من خلال رفع أو خفض الأسعار.
فإذا ما كان الفرد محتكراً أو إن منتجاته تتميز بنوعية فريدة من نوعها سيعمل على رفع أسعار منتجاته وسيحصد المزيد من الأرباح مقابل ثبات التكاليف، نظراً لتفرده في السوق والتحكم به أو بسبب نوعية منتجاته المميزة.
أما إذا كان الفرد غير محتكر ويعمل وسط مزيد من المنافسة أو إن منتجاته لا تتميز بنوعية فريدة من نوعها سيعمل على تخفيض أسعار منتجاته وهذا ما يؤدي لزيادة الطلب وزيادة المبيعات وزيادة الأرباح أخيراً، في ظل المنافسة أو في ظل انخفاض نوعية منتجاته.
الاقتصادات كالأفراد
نفس الأمر تماماً يجري بين الاقتصادات وعملاتها، فكل اقتصاد يسعى لحصد المزيد من المكاسب في ظل التعامل مع الاقتصاد العالمي خصوصاً في ظل الانفتاح والعولمة منذ نهاية القرن المنصرم وبداية الألفية الجديدة ولحد الآن.
وعلى الرغم من القيود التي تفرض هنا وهناك إلا إن الاقتصاد العالمي بشكل عام يبتعد شيئاً فشيئاً عنها وستكون المنافسة، اليوم أو غداً؛ هي النظام الرئيس الذي يسير عليه الاقتصاد العالمي برمته، ومن يملك القدرة التنافسية يحتل المكانة الأبرز فيه، بلا شك؛ ويلعب دوراً كبيراً في صنع القرار العالمي.
متى نعرف إن اقتصاد بلد ما يمتلك قدرة تنافسية عالية؟
متى ما استطاع الاقتصاد أن يجعل منتجاته وخدماته تتسم بانخفاض الأسعار وتمتعها بنوعية جيدة مقارنة بمنتجات وخدمات الاقتصادات الأخرى حينذاك نستطيع القول إن اقتصاد هذا البلد يتمتع بقدرة تنافسية عالية.
إن العمل على تحقيق القدرة التنافسية لأي اقتصاد هو إستراتيجية اقتصادية لحصد المزيد من المكاسب خصوصاً في ظل الانفتاح والتنافسية التي يشهدها العالم، لان الأسعار المنخفضة والنوعية الجيدة هي المطلوبة بالدرجة الأولى من قبل المستهلك والمستورد.
طريقان لتحقيق القدرة التنافسية
تتحقق القدرة التنافسية من خلال طريقين هما ذاتي وتدخلي، وإن الاقتصاد الذي لا يستطيع أن يحققها بشكل ذاتي يتعين عليه اللجوء للطريق الثاني ولكن وفق خطة مدروسة ومديات زمنية محددة تنتهي في وقت معين بحيث يستطيع الاقتصاد عند هذا الوقت تحقيق القدرة التنافسية بشكل ذاتي لا تدخلي.
الطريق الذاتي، أي أن الاقتصاد لديه القابلية بشكل حقيقي على إنتاج السلع والخدمات بأسعار تنافسية وبنوعية جيدة، وذلك من خلال التفاعل التلقائي لقوى الاقتصاد بعيداً عن السلطات الرسمية وتدخل الدولة.
الطريق التدخلي، أي إن الاقتصاد لديه القابلية على تحقيق القدرة التنافسية بشكل نقدي وليس حقيقي وذلك من خلال تدخل الدولة في السياسة النقدية وسعر الصرف على وجه الخصوص وكما سيتضح تبعاً.
وبحكم الانفتاح والعولمة أصبحت التجارة الدولية تعلب دوراً كبيراً في الاقتصاد العالمي ومن لا يعمل على تحقيق القدرة التنافسية ليكون قادراً على لعب دوراً مؤثراً سيكون متأثراً بلا مُحالة كما هو واضح في الشأن العراقي.
إذ لم يعمل العراق على وضع وتطبيق إستراتيجية اقتصادية من شأنهما تجذير القدرة التنافسية لمخرجات الاقتصاد العراقي ليكون مؤثراً لا متأثراً، فكان العراق عبارة عن سوق لتصريف منتجات وخدمات الاقتصادات الإقليمية نظراً لانخفاض قيمة عملاتها أمام العملة العراقية.
فمن جانب العملات الإقليمية
إن انخفاض العملات الإقليمية (الإيرانية والتركية والسورية واللبنانية) لم يكُن بشكل طوعي وإنما بشكل جبري بفعل العقوبات الغربية عليها، ومع ذلك إن هذا الانخفاض يصُب في صالحها أكثر مما لصالح العراق بحكم ارتفاع القدرة التنافسية لها وأصبحت منتجاتها وخدماتها أرخص نسبياً مما أدى لزيادة استيرادات العراق من دول العملات الإقليمية المنخفضة وزيادة أعداد الوافدين لها من العراق لأغراض الترفيه أو الدراسة أو التطبب أو غيرها.
أسهم كلا الأمرين، زيادة الاستيرادات وأعداد الوافدين؛ في خروج العملة الصعبة من العراق وبالتوازي مع تذبذب أسعار النفط وانخفاضها أديا معاً إلى انخفاض الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي العراقي فضلاً عن تدهور المنتجات الوطنية وزيادة البطالة والفقر.
أما من جانب العملة العراقية
إن قيمة العملة العراقية لم تتحدد بشكل ذاتي نابع من التفاعل التلقائي بين قوى الاقتصاد الحقيقي بل بفعل تدخل السلطات الرسمية (البنك المركزي العراقي) لتحقيق التوازن النقدي من خلال نافذة العملة، مما أسهم في دعم العملة والحفاظ على قيمتها وانخفاض القدرة التنافسية لمنتجات الاقتصاد العراقي وخدماته.
إن زيادة الطلب على الدولار مقابل انخفاض العرض منه يعني ارتفاع سعره مقابل انخفاض قيمة العملة العراقية، ونظراً لضعف محركات توليد الدولار أخذ البنك المركزي على عاتقه مسألة إشباع الطلب من أجل الحفاظ على قيمة العملة العراقية من التدهور فظلت العملة العراقية لا تعبر عن الواقع الاقتصادي بشكل حقيقي كونها مدعومة بالبنك المركزي.
الدولة والنفط مصدر دعم العملة
فلو تخلى البنك المركزي عن دعم العملة عبر نافذة العملة وترك العملة تتحدد وفقاً لقوى العرض والطلب لأدى ذلك لارتفاع سعر الدولار وانخفاض العملة العراقية لمستويات كبيرة، والسبب اعتماد الاقتصاد العراقي في توليد الدولار بشكل كبير على تصدير النفط الذي يعاني من التذبذب وانخفاض الأسعار.
هذه المشكلة (اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط) ترتبط بشكل وثيق بدور الدولة والنظام الاقتصادي، فعلى الرغم من تبني العراق التحول نحو اقتصاد السوق إلا إن الدولة لا تزال تمثل عقبة في طريق القطاع الخاص ولم تعمل على خلق بيئة مشجعة وجاذبة للاستثمار بل العكس هو الصحيح.
تقييم العملة العراقية وسط انخفاض العملات الإقليمية
نعم العملة العراقية أصبحت أفضل حالاً تجاه الكثير من العملات الإقليمية بحكم ثبات العملة العراقية مقابل انخفاض العملات الإقليمية، هذا الأمر يكون جيداً بنظر المواطنين في الوقت الحاضر، كونه يزيد من رفاهيتهم؛ لكن الأمر لم يكن هكذا بنظر المختصين في الأمد البعيد، لان العملة العراقية مدعومة في الوقت الحاضر بالدولار النفطي والاحتياطي الأجنبي، وإذا ما نفد النفط أو انخفضت أهميته الاقتصادية بفعل التقدم التكنولوجي سينفد الاحتياطي الأجنبي وتنهار العملة، ويصبح العراق سوق رسمي للاقتصادات الإقليمية. في هذه الحالة ما فائدة ارتفاع قيمتها في الوقت الحاضر وانهيارها مستقبلاً؟!
لذلك إن تخفيض قيمة الدينار العراقي مقابل رفع سعر الدولار تحسباً لتفادي انهيارها مستقبلاً ولمواجهة آثار انخفاض العملات الإقليمية هو أشبه ما يكون بالخطة الإستراتيجية لإعادة التوازن النقدي الإقليمي وإعادة تنظيم الاقتصاد العراقي وفق ما يؤدي إلى خلق القدرة التنافسية والاستقلال الاقتصادي.
وبناءاُ على ما سبق، فسواء اضطرت الحكومة لرفد الموازنة بالأموال أم أنها أدركت الآثار التي ستنعكس على الواقع الاقتصادي مستقبلاً إذا ما استمرت العملة بثباتها مقابل انخفاض العملات الإقليمية، أو كلاهما معاً، فإن لجوء الحكومة لتخفيض قيمة الدينار العراقي تجاه الدولار هي خطوة بالاتجاه الصحيح وإن سُجلت بعض الملاحظات المتمثلة بالجرعة الكبيرة والمفاجئة، أي ابتعادها عن الجرعات الصغيرة ذات المراحل التدريجية في رفع سعر الدولار مقابل تخفيض الدينار العراقي.