تعتمد اتجاهات الاسواق المالية بشكل اساس على الافاق المستقبلية للنمو والاستقرار الاقتصادي العالمي، وقد شهدت الاسواق انهيارا حادا مع تفشي فيروس كوفيد-19 عالميا، وتحول العديد من المستثمرين صوب التحوط بالمعدن الآمن (الذهب) على حساب تصفية الاوراق المالية لحين اجتياز الازمة الصحية وعودة زخم النشاط الاقتصادي الى معدلاته المعهودة ما قبل الجائحة. مؤخرا، وبسبب تطور اللقاحات المضادة لفيروس كورونا وانتشارها عالميا والبدء الفعلي لعمليات التطعيم، تعززت الآمال في حدوث تعاف اقتصادي ينعش الاسواق المالية العالمية بعد شهور من التقلب والانهيار. مع ذلك، يبقى تعاف الاسواق المالية رهين بعاملين: الاول إنتاج اللقاحات، وشبكات توزيعها، وفرص الوصول إليها. والثاني استمرار الدعم النقدي والمالي الحكومي لتخفيف أوجه عدم اليقين وبناء جسور الثقة صوب التعافي والاستقرار المالي. وفي هذا السياق يعرض صندوق النقد الدولي في تقريره الاخير الصادر شهر نيسان الحالي مستجدات الاستقرار المالي العالمي وأبرز المخاطر التي تخيم على اتجاهات الاسواق المالية عالميا خلال العام 2021.
مستجدات الاستقرار المالي العالمي
ادى نشاط انتاج وتوزيع وتطعيم اللقاحات المضادة لفيروس كورونا إلى تعزيز الأسواق المالية وتقوية التعافي الاقتصادي العالمي، فقد انتعشت صناعات مثل الطيران والضيافة والخدمات الاستهلاكية في أواخر عام 2020 عندما تحول المستثمرون الباحثون عن العائد إلى هذه القطاعات التي أنهكتها الأزمة. مع ذلك، يرجح أن يكون هناك تباين في الحصول على اللقاح، وقد يستغرق الأمر وقتا إلى أن يوزَّع بصورة متكافئة. فقد تم شراء اللقاحات مقدما في كثير من الاقتصادات المتقدمة، بما يحقق نسبة مرتفعة من التغطية على أساس الفرد. وعلى العكس من ذلك، يلاحَظ التأخر الكبير في شراء جرعات اللقاح في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ومن الممكن أن يكون التأخر في الوصول إلى حلول شاملة للرعاية الصحية مفضيا إلى تحقيق تعاف منقوص وتعريض النظام المالي العالمي للخطر. فنظرا لأن اقتصادات الأسواق الصاعدة ساهمت بنحو 65% في النمو الاقتصادي العالمي على مدار الاعوام (2017-2019) ، لذا قد يكون التأخر في معالجة الجائحة في تلك البلدان نذير سوء للاقتصاد العالمي، ذلك أن الانقطاعات في سلاسل الإمدادات يمكن أن يؤثر على ربحية الشركات حتى في المناطق التي تسيطر على الجائحة.
ولأن النمو من المقومات الحيوية للاستقرار المالي، فقد يؤدي التعافي الجزئي وغير المتوازن إلى تعريض صحة النظام المالي للخطر. لذا لا يزال من الضروري استمرار دعم السياسات الاقتصادية حتى يتحقق تعاف مستدام عميق الجذور يمنع أزمة الجائحة من تشكيل خطر على النظام المالي العالمي. وينبغي للمجتمع الدولي أن يسعى جاهدا لتحقيق تعاون متعدد الأطراف في إنتاج اللقاحات وتوفيرها على أساس متكافئ لكل بلدان العالم، بما يكفل تعافيا اقتصاديا متوازنا ومكتملا. وينبغي لصناع السياسات الاقتصادية حماية ما تحقق من تقدم حتى الآن والبناء على نشر اللقاحات للعودة إلى النمو المستدام. وفيما يلي تلخيصا لأبرز ما تضمنه تقرير الاستقرار المالي:
1- افصحت الازمة الاخيرة بان الأسواق المالية لم تتأثر كثيرا بتراجع النشاط الاقتصادي في الآونة الأخيرة. فقد كان لطفرة الإصابات بفيروس كوفيد-19 وما صاحبها من إجراءات صارمة منذ أواخر عام 2020 أثر سلبي على النشاط الاقتصادي في كثير من البلدان، مما يشير إلى إمكانية التباطؤ الاقتصادي، غير أن المستثمرين لا يزالون على ثقة بتحسن آفاق النمو عام2021، حيث يعولون على أن استمرار الدعم الذي تقدمه السياسات الحكومية من شأنه تعويض أي اختناقات قد تطرأ على المدى القريب.
2- يبقى الانفصال مستمرا بين الأسواق المالية والاقتصاد، وهو ما أصبح موضع نقاش واسع في الآونة الأخيرة. فعلى الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل في الولايات المتحدة، فإن المشاركين في السوق يشيرون إلى التوقعات شديدة الانخفاض لأسعار الفائدة على مدار السنوات القادمة وتوقعات الأرباح المعدَّلة بالزيادة منذ الإعلان عن اللقاح باعتبارهما مبرران لانتعاش أسعار الاوراق المالية.
3- للأسواق الصاعدة احتياجات تمويلية كبيرة فمن المرجح أن تستمر عجوزات المالية العامة الكبيرة والمزمنة في معظم اقتصادات الأسواق الصاعدة والواعدة في عام2021، وإن كان على نطاق أضيق مما كانت عليه الحال في عام2020 ، وبحسب توقعات صندوق النقد الدولي في تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" سيظل التمويل السوقي مصدرا أساسيا للتمويل مثلما كان في الشهور الأخيرة. ويمثل استئناف تدفقات استثمار الحافظة عاملا محوريا لتحقيق الاستقرار في كثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة، ومن ثم فمن الضروري أن تحتفظ هذه الاقتصادات بقدرتها على النفاذ إلى الأسواق.
4- يمثل التعافي الاقتصادي غير المتكافئ بسبب تأخر حلول الرعاية الصحية واللقاحات تحديا هائلا أمام الاقتصادات الصاعدة والواعدة. ونظرا لأن حيز المناورة من خلال السياسات ضيق بالفعل في بعض البلدان، وخاصة تلك التي لم تسترد بعد قدرتها الكاملة على النفاذ إلى أسواق رأس المال، فإن احتمال ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل في الاقتصادات المتقدمة عندما تجد البنوك المركزية أنها بصدد عودة وشيكة إلى سياساتها العادية قد يشكل تهديدا لإمكانية تجديد آجال استحقاق الاحتياجات الكبيرة من التمويل الخارجي.
5- رغم ان ضغوط الملاءة المالية محدودة حتى الآن، تبقى المخاطر قائمة في قطاع الشركات غير المالية. فبفضل الدعم غير المسبوق من السياسات، تعافت فروق العائد بشكل شبه كامل، حتى في قطاع السندات دون المرتبة الاستثمارية، وإن ظلت هناك اختلافات بين القطاعات. وظلت معدلات التخلف عن السداد في كبرى الشركات أقل بكثير من معدلات الذروة السابقة، كما أن حالات الإفلاس في الشركات الأصغر ظلت منخفضة، بل إنها تراجعت في بعض الحالات. الا ان التصنيف الائتماني للعديد من الشركات الممتازة انخفض بمقدار ثلاثة أضعاف منذ بداية الجائحة، وهناك احتمال كبير بأن تحدث تخفيضات أخرى في بعض البلدان كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
6- في الصين، تشير حالات التخلف عن السداد من جانب المؤسسات المملوكة للدولة في الفصل الاخير من عام 2020 إلى أن معالجة مواطن الضعف المالي لا تزال مسألة ذات أولوية. وفي نهاية المطاف، ستعتمد صحة قطاع المؤسسات العالمي اعتمادا جوهريا على تطورات الجائحة ودرجة الدعم المقدم من السياسات ومدة استمراره. وإذا أعاد المستثمرون تقييم احتمالات النمو الاقتصادي والآفاق المتوقعة للسياسة النقدية وسياسة المالية العامة، فقد نشهد عودة لضغوط السيولة ومخاطر تحوُّل هذه الضغوط إلى حالات إعسار.
7- قد ترتفع ديون قطاع الأسر على أثر الأوضاع المالية التيسيرية، فقد أمكن حتى الآن تخفيف الضغوط في قطاعات الأسر بفضل الدعم الحكومي الكبير وبرامج الإغاثة الحكومية، بالإضافة إلى انخفاضات أسعار الفائدة التي خففت أعباء خدمة الديون. ولكن الأسر الفقيرة والهشة تضررت أكثر من غيرها. ويشير هذا إلى أن مواطن الضعف موزعة على نحو غير متكافئ بين بعض الأسر، وأن الإجهاد المالي قد يزداد إذا ألغي الدعم المقدم من السياسات في وقت سابق لأوانه أو كان التعافي الاقتصادي منقوصا.
8- لا تمثل البنوك جزءا من المشكلة حتى الآن فقد واجهت الجائحة بقدر كبير من رأس المال وهوامش عالية من السيولة ولا تزال تبدي قدرة على الصمود في مواجهتها، كما ساعد الدعم غير المسبوق من جانب السياسات في الحفاظ على تدفق الائتمان لقطاعي الأسر والشركات، غير أن تحديات الربحية في بيئة تسودها أسعار الفائدة المنخفضة تلقي شكوكا حول قدرة البنوك على مواصلة الإقراض في الشهور القادمة. وقد تكون البنوك قلقة بشأن زيادة الانكشاف لمخاطر الائتمان وتزايد القروض المتعثرة بمجرد انتهاء إجراءات الدعم من خلال السياسات، وخاصة إذا كان من المحتمل أن يتأخر التعافي أو يكون تعافيا منقوصا. وقد تواجه البنوك أيضا تحديات في توليد العائدات بما يتجاوز تكلفة رأس المال في سياق التقلص المستمر لهوامش الفائدة الصافية، وهو تطور بدا واضحا منذ وقت طويل في اليابان وأوروبا.
9- تكتسب أسواق رأس المال أهمية متزايدة كمصدر للتمويل من أجل مكافحة تغير المناخ وتحقيق الأهداف الاجتماعية، ويمكن أن تساهم بدور حاسم في تخضير التعافي فقد أدت زيادة الوعي بضرورة الإنفاق الاجتماعي، والتي ارتبطت على الأرجح بجهود مكافحة الجائحة، إلى زيادة هائلة في إصدار السندات الاجتماعية في عام 2020 وقد توجه المدينون إلى مصادر التمويل المستدام، حتى أنه من المتوقع أن يصل إصدار سندات الدين المستدامة في عام 2020 إلى أكثر من 650 مليار دولار تقريبا، متجاوزا بذلك القيمة القياسية المسجلة في عام 2019.
توصيات لصناع القرار الاقتصادي
1- ينبغي على المجتمع الدولي أن يسعى جاهدا لتحقيق تعاون متعدد الأطراف في إنتاج اللقاحات وتوفيرها على أساس متكافئ لكل بلدان العالم، بما يكفل تعافيا اقتصاديا متوازنا ومكتملا. وينبغي لصناع السياسات حماية ما تحقق من تقدم حتى الآن والبناء على نشر اللقاحات للعودة إلى النمو المستدام.
2- لكي تصبح اللقاحات متاحة على نطاق واسع، يبقى انتعاش أسعار الاصول المالية والتعافي الاقتصادي مرهونين باستمرار الدعم من السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. وينطوي التوزيع غير المتكافئ للقاحات على مخاطر تفاقم مواطن الضعف المالي، وخاصة في اقتصادات الأسواق الواعدة.
3- يتيح الانتعاش الجاري في تدفقات استثمار الحافظة خيارات تمويلية أفضل لاقتصادات الأسواق الصاعدة التي تواجه احتياجات تمديد قدر كبير من ديونها في عام 2021.
4- أدى تيسير السياسات الاقتصادية إلى تخفيف ضغوط السيولة حتى الآن، إلا أن ضغوط الملاءة قد تعاود الظهور في المستقبل القريب، وخاصة في الشرائح ذات المخاطر الأكبر في أسواق الائتمان والقطاعات المتضررة بشدة من الجائحة. وقد تلقي التحديات التي تواجه الربحية في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة بآثارها على قدرة البنوك على الإقراض ومدى رغبتها في ممارسته مستقبلاً.
5- يجب أن يستمر صناع السياسات في تقديم الدعم إلى أن تترسخ جذور التعافي المستدام، ذلك أن نقص هذا الدعم قد يهدد تعافي الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فعلى صناع القرار أن يكونوا مدركين لمخاطر حدوث تصحيح في الأسواق إذا ما قام المستثمرون بإعادة تقييم مفاجئة لاحتمالات النمو أو الآفاق المتوقعة للسياسات ففي ظل التعافي الذي لا يزال وليدا، والتضخم الذي لا يزال من المتوقع أن يظل مكبوحا، ينتَظر أن تحتفظ السياسة النقدية بطابعها التيسيري لسنوات قادمة.
6- يتعين الحفاظ على السياسة النقدية التيسيرية، وضمان تقديم سيولة داعمة لقطاعي الأسر والشركات، والوقاية من المخاطر المالية ذلك أن عدم اتخاذ الإجراءات الكافية من خلال السياسات قد يتسبب في تهديد التعافي المنشود، والصندوق وغيره من المؤسسات متعددة الأطراف على أهبة الاستعداد لتقديم مزيد من الدعم إذا ما تحققت مخاطر معاكسة أخرى.